منذ أيام تخرج في ألمانيا مظاهرات ضد المستشار فريدريش ميرتس، وآلاف المتظاهرين في مختلف المدن الألمانية يخرجون مطالبيه بالاعتذار ومتهميه بالعنصرية وباعتماد خطاب شعبوي. ومن بين المشاركين كان سياسيون من حزب «الخضر» ولكن أيضاً من الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) المشارك في الحكومة. للعلم، هذه ليست المرة الأولى التي تخرج فيها مظاهرات واسعة ضد ميرتس بعد إدلائه بتصريحات مثيرة للجدل، لكنها المرة الأولى التي تخرج وهو المستشار. هذه المرة كان السبب تلميحاته بأن المهاجرين هم المسؤولون بشكل أساسي عن زيادة نسبة الجرائم وانعدام الأمان في المدن الكبرى. فخلال مؤتمر صحافي، سُئل ميرتس عن خطط حكومته لمواجهة صعود حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليمين المتطرف، فكان رده أن حكومته «تصحح أخطاء الماضي» في سياسة الهجرة، وأنها بدأت تحقق نجاحات في ذلك. وتابع: «ولكن من دون شك لدينا مشكلة في مظهر المدن... ولهذا؛ فإن وزارة الداخلية تعمل الآن على تمكين تنفيذ عمليات ترحيل واسعة النطاق». وهكذا، في جملة واحدة جمع ميرتس بين المهاجرين وارتفاع نسبة الجريمة؛ إذ إن الداخلية تعمل على ترحيل المهاجرين المدانين بجرائم إلى دولهم، من بينها الدول المصنّفة بـ«غير الآمنة» مثل سوريا وأفغانستان. وما تبع كان جملة واسعة من الانتقادات وُجّهت للمستشار بسبب تعميمه بأن كل المهاجرين واللاجئين هم من المجرمين.
اعتاد المستشار الألماني المحافظ فريدريش ميرتس على إثارة الجدل في تصريحات تتعلق بالهجرة، وغالباً ما توصف بأنها «شعبوية». ففي مطلع عام 2023، عندما كان لا يزال حزبه في المعارضة، وصف طلاب المدارس من أصول عربية وتركية بأنهم «باشوات صغار». وكان ينتقد حينها ضعف نسبة اندماج المهاجرين في المجتمعات الألمانية.
بعدها بأشهر، وصف ميرتس بلدات ألمانية ريفية كان يجول فيها استعداداً للانتخابات، بأنها «هي مَن تمثل ألمانيا الحقيقية، وليست (منطقة) كرويتسبيرغ في برلين». وتعرف مقاطعة كرويتسبيرغ بأنها واحدة من أكثر المقاطعات في العاصمة تنوعاً عرقياً وثقافياً، وتضم جالية تركية كبيرة.
وقبل أسابيع من دخوله مقر المستشارية، وأيام قبل الانتخابات، تسبّب ميرتس بموجة مظاهرات واسعة بسبب تحالف حزبه داخل البرلمان مع حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف؛ لتمرير قانون يدعو إلى تشديد قوانين الهجرة على خلفية هجمات إرهابية متتالية ارتكبها لاجئون سوريون وأفغان.
يومذاك، وُجّهت اتهامات لميرتس بأنه «أسقط جدار» رفض التحالف مع اليمين المتطرف، وهو تعهّد تكرّره جميع الأحزاب الألمانية منعاً لوصول حزب متطرف للسلطة مرة جديدة بعد تجربة النازيين. وأمام الغضب الواسع، عاد ميرتس ليقول غير مرة إنه لن يتحالف مع «البديل من أجل ألمانيا»، لكنه لم يتراجع عن أي من تصريحاته الجدلية المتعلقة بالمهاجرين واللاجئين.
لا يحب «مظهر المدن»!
وعندما سُئل المستشار عن تصريحاته الأخيرة حول «مظهر المدن»، رفض التراجع عنها، وردّ على الصحافي الذي سأله إذا كان يريد التراجع عن تصريحاته، بالقول: «لا أدري إذا كان لديك أطفال وبنات من بينهم... اسألوا بناتكم، أعتقد أنكم ستحصلون على إجابة واضحة وصريحة. ليس لديّ ما أتراجع عنه، على العكس أريد أن أعيد التأكيد أننا في حاجة إلى تغيير شيء».
تصريحات ميرتس الجديدة تسببت بمظاهرات عفوية قادتها نساء خرجن أمام مقر حزبه في وسط برلين، رافعات لافتات بأن «خوف الفتيات ليس من المهاجرين، بل من الرجال بشكل عام». وتعرّض المستشار أيضاً لانتقادات حتى من داخل حزبه، على رأسهم عمدة برلين كاي فاغنير الذي حذّر من «التعميم». واتهمه آخرون من حزبه، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، باعتماد خطاب أشبه بخطاب «البديل من أجل ألمانيا» الذي غالباً ما يحمّل المهاجرين واللاجئين مسؤولية ارتفاع نسبة الجرائم.
رغم كل هذا، لا تُعدُّ مواقف ميرتس من المهاجرين جديدة، وقد لا تكون تصريحاته شعبوية بقدر ما هي حقاً ما يؤمن به.
إذ إنه انتقد المستشارة السابقة أنجيلا ميركل لسماحها عام 2015 بدخول مئات آلاف السوريين وحمّلها مسؤولية صعود اليمين المتطرف. وقبل أن يصبح مستشاراً كان يروّج لوقف استقبال اللاجئين بشكل كامل، قبل أن يتراجع عن ذلك بعدما استنتج أن ذلك سيكون غير قانوني. مع ذلك، فإنه لا يزال يروّج - منذ تسلمه السلطة - لبدء عمليات ترحيل واسعة للأفغان والسوريين، وبشكل أساسي المجرمون منهم وثم الرجال.
السوريون والأفغان في الواجهة
وبالفعل، بدأت وزارة الداخلية الألمانية مفاوضات مع «طالبان» والحكومة السورية تسمح بالتوصل إلى اتفاق لترحيل مواطنيهم. وللعلم، تتفاوض برلين مع «طالبان» رغم أنها لا تعترف بها، ورغم استمرار تصنيف الخارجية الألمانية لأفغانستان بأنها «غير آمنة». والوضع مشابه مع سوريا، المصنفة بـ«غير الآمنة»، وبخاصة للأقليات، مع أن الحكومة الألمانية تقيم علاقات مع الحكومة السورية وتقدّم لها دعماً كبيراً.
بالمناسبة، ترحّل ألمانيا حالياً إلى أفغانستان أعداداً قليلة من المُدانين بجرائم وعبر وسطاء مثل قطر، لكنها تسعى إلى ترحيل أعداد أكبر وبشكل مباشر. أما بالنسبة للسوريين فيجري ترحيل أعداد قليلة منهم أيضاً إلى تركيا، ولكن فقط من هو مدان بجرائم.
هذا، ومنذ سقوط نظام الأسد، أوقفت ألمانيا البت بطلبات لجوء السوريين ريثما تتضح الصورة. وعادت قبل أشهر قليلة واستأنفت البت بها. وقال ناطق باسم وزارة الداخلية في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إن دائرة الهجرة علّقت البت بطلبات لجوء السوريين بها منذ نهاية العام الماضي إثر سقوط نظام الأسد، ولكن في نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي جرى تعديل التوجيهات لدائرة الهجرة. وبدأ البحث في طلبات الشبّان القادرين على العمل والذين وصلوا بمفردهم إلى ألمانيا، ثم وُسّع مفعول القرار ليشمل طلبات كل السوريين وإجراء مقابلات معهم «باستثناء مَن هم من الأقليات الدينية في سوريا». وأشار الناطق باسم الداخلية إلى أن البحث في طلبات «لمّ شمل العائلات» ما زال معلقاً. وتابع أن الحكومة الألمانية «مستمرة بمراقبة الوضع في سوريا وستوسّع البحث في الطلبات الأخرى المقدمة والتي ما زالت معلَّقة حسب ما يسمح الوضع هناك».
وبدأ منذ ذلك الحين عدد من السوريين يبلّغ عن تلقيهم رفض طلب لجوئهم مع الترحيل إلى سوريا للذين ليست لديهم بصمات في دول أوروبية أخرى.
اتفاقية دبلن للاجئين
حسب اتفاقية دبلن للاجئين، يتعين على طالبي اللجوء إلى الاتحاد الأوروبي أن يتقدموا بطلباتهم في أول دولة يصلون إليها. وعادة يصار إلى ترحيل مَن لديهم بصمات في دولة أوروبية أخرى إلى تلك الدولة، مثل بلغاريا التي غالباً ما تكون أول دولة أوروبية يدخلها الواصلون بشكل غير شرعي.
من الذين وصلهم رفض لجوء وطلب ترحيل إلى سوريا، حمزة إبراهيم، وهو شاب سوري في الرابعة والعشرين من العمر يتحدر من إدلب. ووصل حمزة إلى ألمانيا بعد 3 أيام على سقوط نظام الأسد في نهاية عام 2024 بعدما استغرقه الوصول براً 3 أشهر، حسب ما روى لـ«الشرق الأوسط».
لم يكن لدى حمزة بصمة في أي دولة أوروبية أخرى. ولكن بقي ملفه معلقاً قيد الدرس حتى وصله إشعار قبل أسبوعين برفض طلب لجوئه مع طلب ترحيل من ألمانيا خلال 30 يوماً. وأرسل موظفو الهجرة رفض الطلب مرفقاً بشرح مُسهب يتضمّن أسباب الرفض في 30 صفحة. وأفاد حمزة بأنها تضمنت حقيقة أنه لا ينتمي إلى الأقليات في سوريا، وإلى أن الوضع الاقتصادي بدأ يتحسّن بسبب المساعدات المالية الكبيرة المقدمة من الدول الغربية والتي ذكرها نص التفسير بأكملها.
وأضاف حمزة أن موظفي الهجرة برّروا الرفض كذلك بأنه صغير السن، وهذا يعني أنه قادر على العمل في سوريا والبداية من الصفر. هذا، واستأنف حمزة قرار الترحيل عبر محامٍ في ألمانيا متخصص بشؤون الهجرة، لكنه كان ما زال غير واثق ما إذا كان سيجري ترحيله عنوة أم لا؟
للعلم، تضمنت أوراق رفض اللجوء معلومات باللغة العربية عن برامج الحكومة للأشخاص الذين يقرّرون الرحيل طوعاً، والاستفادة من البرامج التي تقدمها الحكومة الألمانية لذلك، وتتضمن مبلغاً مالياً وتذكرة سفر. ويمكن الطعن بالقرار خلال أسبوعين أمام المحاكم التي تقرّر ما إذا كان يمكن إصدار قرار سماح بالبقاء للذين أصدرت دائرة الهجرة قرار ترحيل بحقهم.
أزمة البصمات...وفضية الترحيل
من جهة ثانية، رغم أن من لديهم بصمات في دول أوروبية أخرى، يجري ترحيلهم من ألمانيا إلى تلك الدول، فإن المعضلة تبقى للذين، مثل حمزة، ليست لديهم بصمات تسجل دخولهم إلى الاتحاد الأوروبي. ما يعني أن هؤلاء يفترض نظرياً ترحيلهم إلى سوريا. ولكن مع استمرار تصنيف الخارجية الألمانية لسوريا بـ«غير الآمنة»، فإن الذين تصدر بحقهم طلبات ترحيل غالباً ما يحصلون على سماح بالبقاء حتى إشعار آخر، حسب ما أكدت دائرة الهجرة لـ«الشرق الأوسط».
وذكر ناطق باسم الدائرة التي تصدر وتنفّذ أوامر الترحيل، أن «الترحيل إلى سوريا غير ممكن حالياً بسبب عدم وجود رحلات جوية إلى دمشق، وهذا يعني بأن هناك عوائق أمام تنفيذ عمليات الترحيل...». وأضاف أن السوريين الذين تصدر بحقهم طلبات ترحيل إلى سوريا يحصلون على «تأشيرة سماح بالبقاء حتى إشعار آخر».
لا تُعدُّ مواقف ميرتس من المهاجرين جديدة وقد لا تكون تصريحاته شعبوية بقدر ما هي حقاً
ما يؤمن به
أيضاً، حسب ناطق باسم الخارجية الألمانية، فإن تصنيف ألمانيا لدولة بأنها «غير آمنة» لا يعني قطعاً بأنه لا يمكن لدائرة الهجرة أن تصدر قرارات ترحيل إليها. وأضاف لـ«الشرق الأوسط» إن «التصنيف القانوني لدولة بأنها غير آمنة ليس بحد ذاته شرطاً مسبقاً لعدم الترحيل إليها، وما إذا كان هناك حظر للترحيل إلى وجهة معينة، فهذا يعود إلى السلطات الأمنية المعنية في كل ولاية».
وراهناً، لا تصنف الخارجية الألمانية «دولاً آمنة» إلا دول الاتحاد الأوروبي و10 دول إضافية معظمها من دول البلقان وشرق أوروبا، التي بدأت منذ سنوات مفاوضات انضمام للتكتل الأوروبي، إضافة إلى السنغال وغانا. وتحدد الخارجية «الدول الآمنة» بتلك التي ليس فيها خطر ملاحقة للأشخاص الذين يطلبون الحماية.
من جانب آخر، إذا كانت عمليات الترحيل إلى سوريا وأفغانستان متوقفة الآن أو محدودة، فإن الوضع قد يتغيّر قريباً. فالحكومة الألمانية تبدو عازمة على التوصل إلى اتفاقات مع البلدين لإعادة مواطنيهما؛ كونها فتحت مشاورات مع «طالبان» رغم عدم اعترافها بها كسلطة في أفغانستان. لكن يختلف الوضع في سوريا التي أعلنت برلين دعمها للحكومة الجديدة فيها، وهي تقدم مساعدات مالية كبيرة لمساعدتها على النهوض اقتصادياً ما يسهل إعادة اللاجئين إليها، حتى من ألمانيا.
هذا، ورغم أن المستشار الألماني أوضح لاحقاً بأنه يقصد «اللاجئين غير المندمجين» والذين ليس لديهم إقامات شرعية عند كلامه عن عمليات ترحيل جماعية، فإن كلامه عن «مظهر المدن» يعكس قلقاً متزايداً في ألمانيا من تأثير الهجرة عليها... والتي باتت ظاهرة بشكل كبير في المدن الكبرى. وهذا يفسّر كذلك استمرار تنامي اليمين المتطرف الذي يبني خطابه على التحريض ضد المهاجرين.

ميرتس وحزبه يدركان أن الخطر الأكبر على الديمقراطيين المسيحيين يأتي من «حزب البديل لألمانيا»، ولقد كرر ميرتس مراراً بأن «هذه هي الفرصة الأخيرة» لمواجهة الحزب المتطرف، وأنه يعتقد بأن «اعتماد سياسة هجرة أكثر حزماً» هي الرد على ذلك.
في المقابل، لا يشارك الاشتراكيون - المشاركون في الحكومة - الديمقراطيين المسيحيين رؤيتهم. ولذا؛ بدأت انشقاقات تظهر داخل الحكومة بسبب هذه الخلافات. بل دفعت تصريحات ميرتس الاشتراكيين إلى طلب عقد قمة عاجلة لمناقشة المخاطر الأمنية في البلاد، التي يقول الحزب إنها غير مرتبطة بفئة معينة من السكان.
حرب العنصريين مستمرة على الهجرة والمهاجرين
في هذه الأثناء، يركز خطاب اليمين المتطرف على لوم المهاجرين في زيادة الجرائم مستغلاً تنفيذ عدد من طالبي اللجوء من أفغانستان وسوريا عمليات إجرامية وإرهابية متتالية في الأشهر الماضية.
ولا يبدو أن خطط ميرتس باعتماد خطاب شبيه بخطاب اليمين المتطرف، ستجدي نفعاً. إذ أظهرت آخر استطلاعات للرأي نُشرت قبل أيام وبعد كلام ميرتس عن «مظهر المدن» استمرار تقدم حزب «البديل من أجل ألمانيا» على الديمقراطيين المسيحيين. وحسب آخر استطلاع أجراه معهد «فورسا»، فإن «البديل من أجل ألمانيا» يحلّ أولاً بنسبة 25 في المائة من أصوات المستطلعة آراؤهم، بينما يحل الديمقراطيون المسيحيون في المركز الثاني بفارق بسيط جداً، ويأتي الاشتراكيون في المركز الثالث بـ13 في المائة فقط. وهذا يعني أن الائتلاف الحاكم خسر غالبيته الشعبية بعد أشهر قليلة على تشكيل الحكومة.
كذلك، أظهر استطلاع آخر أن نسبة قلة الرضا عن ميرتس مرتفعة، وأن واحداً فقط من 4 أشخاص مستطلعة آراؤهم يعتقدون بأنه يؤدي عملاً جيداً بينما الآخرون يعتقدون العكس.
بأي حال، يأمل ميرتس بأن خططه الأكثر تشدداً في ملف الهجرة واللجوء، قد تكسبه شعبية أكبر قبل الانتخابات القادمة، وتقضم من نصيب اليمين المتطرف.ذلك أن خططاً لا تشمل فقط التشدد مع اللاجئين، بل توسّعت لتطال المهاجرين القانونيين كذلك. إذ أدخلت حكومته تعديلات على قانون التجنيس وإلغاء مسار الحصول على الجنسية خلال 3 سنوات للمندمجين بشكل خاص، وهو ما كانت أدخلته الحكومة السابقة التي قادها الاشتراكيون بمشاركة حزب «الخضر».


