«فريز لندن»... منصات فنية عالمية ومبيعات بالملايين

تشارك فيه 45 دولة... وحضور عربي ملحوظ

من إحدى قاعات المعرض ضمن المهرجان
من إحدى قاعات المعرض ضمن المهرجان
TT

«فريز لندن»... منصات فنية عالمية ومبيعات بالملايين

من إحدى قاعات المعرض ضمن المهرجان
من إحدى قاعات المعرض ضمن المهرجان

في قلب حديقة ريجنت بلندن، وبين خيام بيضاء فسيحة تضج بالحركة، يصطف الزوار أمام لوحات ضخمة وأعمال تركيبية مذهلة، يتبادلون الآراء، ويلتقطون الصور، ويتابعون عروض الأداء المباشر. هذا ليس متحفاً، بل هو (Art Fair Frieze) «مهرجان فريز للفن»، الذي يعيد تعريف تجربة الاستمتاع بالفن كل خريف. وهو يعدّ أحد أهم الأحداث الثقافية في العاصمة البريطانية، وحدثاً فنياً سنوياً يجمع بين الإبداع الفني والحضور الدولي. فمنذ انطلاقته عام 2003، تحوّل «Frieze» إلى ما هو أكثر من مجرد معرض؛ إنه ظاهرة ثقافية وتجارية تسلط الضوء على أحدث ملامح الفن المعاصر، وتثير نقاشات حول العلاقة بين الفن والسوق، والجمال والربح، وجدوى الاقتناء من عدمه للأشخاص والمؤسسات. يشارك في المهرجان أكثر من 280 غاليري تمثل 45 دولة، ويُعرَض فيها آلاف الأعمال الفنية، وتُعقَد صفقات بيع بملايين الجنيهات. وأطلق هذا المهرجان كل من أماندا شارب، وهي ناشرة ورائدة أعمال فنية، وماثيو سلوتوفر، وهو ناشر ورائد أعمال بريطاني، وجمع الاثنان بين الحس الإبداعي التجاري، ونجحا في تأسيس نموذج يحتذى به في كيفية بناء منصات فنية عالمية التأثير. وهما الآن من أبرز الشخصيات المؤثرة في عالم الفن المعاصر، وقد أسسا معاً مجلة «Frieze» المتخصصة في الفن والثقافة المعاصرة عام 1991. وأصبحت المجلة بمثابة منصة فكرية جمعت بين النقد الفني والحوار الثقافي، ولاقت نجاحاً واسعاً في الأوساط الفنية. مهّد هذا النجاح لاحقاً الطريق أمام الثنائي لإطلاق «مهرجان فريز للفن» (Frieze Art Fair) في عام 2003، في حديقة ريغنت بلندن. وجاءت فكرة المهرجان من استخدام فضاء واسع يعرض الفن المعاصر بأسلوب حداثي، يجمع بين صالات العرض العالمية والفنانين والجمهور في حدث سنوي، أصبح اليوم من بين الأهم على مستوى العالم في مجال الفنون البصرية.

يقام المهرجان سنوياً في شهر أكتوبر (تشرين الأول) داخل حديقة ريغنت، ويضم أقساماً عدة، أبرزها Frieze London الذي يركّز على الأعمال المعاصرة لفنانين أحياء، وFrieze Masters الذي يُعنى بالأعمال التاريخية التي تعود لما قبل عام 2000. من أهم أهداف مهرجان فريز تسليط الضوء على أبرز الاتجاهات في الفن المعاصر، وتوفير مساحة للحوار والتفاعل بين الفنانين والجمهور والمؤسسات الفنية. ويوفّر المهرجان كذلك منصة فريدة لاكتشاف أسماء ومواهب جديدة في الساحة الفنية العالمية إلى جانب عرض أعمال لأسماء راسخة. ولا يقتصر دوره على العرض فقط، بل يشمل برامج موازية مثل الندوات والمحاضرات والعروض الأدائية؛ ما يجعله حدثاً غنياً بالتجارب الثقافية والمعرفية. وبفضل مكانته المرموقة، يُعدّ «فريز» مؤشراً مهماً لاتجاهات سوق الفن العالمي، حيث تعقد خلاله صفقات بملايين الجنيهات؛ ما يجعله حلقة وصل حيوية بين مبدع الفن والإنتاج الثقافي من جهة، والتجارة والاستثمار من جهة أخرى.

من أعمال الفنانة الأردنية منى السعودية

أبرز صالات العروض

بين أروقة المهرجان السنوي الذي يجمع تجارب الفنّ المعاصر بالتجارب والأعمال الرائدة، دبّت الحركة في أجنحة عدد من صالات العرض التي تُعدّ من القلاع الفنية العالمية. على سبيل المثال، شارك غاليري David Zwirner، بأعمال نحتية جديدة للفنانة الباكستانية هوما بهابها Huma Bhabha، ولوحات معاصرة لفنانين، مثل كريس أوفيلي والكولومبي أوسكار موريو والفنانة بورشا زفافاهيرا من زمبابوي. قدم هذا الغاليري بوصفه من أبرز صالات العرض في مجال الفن المعاصر، عرضاً يُعبّر عن مزاوجة الإعلام الفني؛ بين التجديد والرصانة، وبين السوق والاختبار الجمالي.

كما عرض غاليري «بيبي هولدزورث» ومقرّه لندن، أعمالاً غير معروضة سابقاً لفنانين، مثل الفنانة البريطانية كيتي موران والبرازيلية صوفيا لويب، مع تركيز خاصّ على الموضوعات الطبيعية والذاكرة المشتركة وموقع الإنسان في محيطه. كما شهدت منصة غاليري «جين بوستن»، ومقرها مدينة بوستن زحاماً من قِبل الجمهور الذي حرص على أخذ صور لمنحوتات الفنان العراقي - الأميركي مايكل راكويتز الذي جسدت منحوتاته رموزاً من الحضارة الآشورية شُغِلتْ بورق تغليف التمور والصحف العربية وبقية أوراق التغليف للمؤكلات والمواد الاستهلاكية في إدانة واضحة وتذكير بجريمة سرقة وتدمير المتحف العراقي وآثار مدينة الموصل.

وفي قسم أساتذة الفن أو ما يعرف بـ«Frieze Masters»، نلمس بوضوح أن بعض المبيعات تجاوزت حدود «الفنّ المعاصر» لتلامس أساطير الفن والتاريخ. فقد بيعت لوحة تعود لعام 1909 للفنانة ورائدة التعبيرية الألمانية غابريلا مونتر(1877 - 1962) بمبلغ يُقارب ثلاثة ملايين دولار في اليوم الأول لافتتاح المهرجان في غاليري «هوسر ورث». كذلك، بيعت لوحة للفنان البلجيكي السوريالي رينيه مغريت تعود لعام 1953 بمبلغ 1.6 مليون دولار أميركي. وتعكس المبيعات أن «القيمة» في سياق تقدير الأعمال ليست مجرد رقم، بل تعبير عن موقع العمل ومبدعه في تاريخ الفن، ومدى رغبة المقتنيين والمستثمرين في اقتنائه. كذلك بيعت لوحة للفنان بول كيلي بما يقارب 1.45 مليون دولار أميركي. تتجلى في هذا المزيج بين دور العرض المعاصرة والمتاجر الفنية التاريخية، مكانة Frieze بوصفه منصةً تجمع «الآن» و«الأمس» في آن واحد، وكذلك تقارب بين التوجه التجاري والبحث الجمالي. وتقع على صالات الفنون والغاليريهات المشارِكة عبءَ اختيار الأعمال الفنية، ويتحمل المشترون عبء القيمة، ويتحمل الزائرون (مثلي) عناء ومتعة التأمل. وهكذا، يصبح المعرض أكثر من مجرد مكان يباع فيه الفنّ: بل مساحة يُقرأ فيها الحاضر ويُعاد تأمّل الماضي.

صالات العرض والغاليريهات العربية

عرض غاليري «لوري شبيبي» ومقره دبي في Frieze Masters مجموعة من أعمال للفنانة الأردنية الرائدة منى السعودي (1945 - 2022) شملت خمس منحوتات حجرية وأحد عشر عملاً طباعياً على الورق من الفترة (1973 - 1978). بينما عرض غاليري «صفير زملر» ومقره بيروت وهامبورغ في Frieze Masters أيضاً وضمن فعالية «الاستوديو» التي تحتفي بالفنانين الرواد الأحياء أعمالاً للفنانة الفلسطينية سامية حلبي المولودة في القدس عام 1936، وهي أعمال تركز على ستة عقود من الرسم التجريدي المتواشج مع البُعد الشرقي المتمثّل في البُنى الزخرفية، الهندسية، والضوء/اللون في البيئة الشرق أوسطية. أما غاليري «آثر» ومقره جدة والرياض، فشارك بعرض لفنانات سعوديات، مثل دانية الصالح وبسمة فلمبان؛ ما يعكس الحضور العربي المعاصر في المعرض.

منحوتات معاصرة

وعلى امتداد المساحات الخضراء لحديقة ريغنت في لندن، تتوزّع هذه السنة أعمالٌ فنية نُصِبت تحت عنوان: «In the Shadows/ في الظلال»، ويعكس العنوان رؤية تنقّب في الخفاء، وفيما لم يُرَ بعد، داخل ذاكرة المكان والمادّة والغياب. اختار القيّمون على العرض أربعة عشر فناناً دولياً ليفسّحوا مساحةً للفنان والمشاهد كي يتلمّس العتمة، وكي يقرأ التغيّر البيئي، وجذور التاريخ، والبُعد الداخلي للذات. ومن بين الأعمال المعروضة، مجسّم «Fibredog» لفريق فني بريطاني يدعى «Assemble»؛ وهو حيوان ضخم من القش يحيل إلى التقاليد الشعبية واللعب الجماعي، ويحوّل المسارّات الخضراء في الحديقة فضاءً للدهشة والعبور المتمهل والمتأمل. مجسم آخر للفنان النمساوي إرفين وورم بعنوان «شبح»؛ عبارة عن بدلة عمل مستعملة عملاقة فارغة وملوّنة بالأزرق، تقف كظل صامت لعالم الشركات والاستهلاك، وتدعو المشاهد إلى التأمل في واقع العصر الاستهلاكي وبصمة الإنسان الشخصية التي يتركها على أشيائه الخاصة. أما مجسّم «Requiem/ The Last Call» للفنانة الهندية - الأميركية رينا سايني كلايت؛ فعمل مركّب ضخم يُصدر تغريداً لطيور انقرضت. وعزلت الفنانة هذه الأصوات من الأصوات البشرية في أشرطة التخابر في الجيوش أثناء الحرب العالمية الأولى، وحوّلت الصمت الأبدي والانقراض تأبيناً، يذكّرنا بأن الظلال هي أيضاً نداءات لم تُسمع بعد.


مقالات ذات صلة

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)
كتب هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
كتب «الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

ينصب التمرد غالباً على سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون مارلين يالوم

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون «البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026

«الشرق الأوسط» (عمان)

جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
TT

جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)

أعلنت جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، عن إطلاق الدورة الثالثة عشرة للجائزة، المخصصة للعمانيين فقط، وتشمل فرع الثقافة (في مجال دراسات الأسرة والطفولة في سلطنة عُمان)، وفي فرع الفنون (في مجال الخط العربي)، وفي فرع الآداب في مجال (القصة القصيرة).

وجاء الإعلان في ختام حفل توزيع جوائز الدورة الـ12 للجائزة، الذي أقيم مساء الأربعاء بنادي الواحات بمحافظة مسقط، برعاية الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة، بتكليفٍ سامٍ من السُّلطان هيثم بن طارق.

وتمّ تسليم الجوائز للفائزين الثلاثة في مسابقة الدورة الثانية عشرة، حيث تسلّمت «مؤسسة منتدى أصيلة» في المغرب، عن مجال المؤسسات الثقافية الخاصة (فرع الثقافة)، وعصام محمد سيد درويش (من مصر) عن مجال النحت (فرع الفنون)، والكاتبة اللبنانية، حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب).

واشتمل الحفل على كلمة لمركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم ألقاها حبيب بن محمد الريامي رئيس المركز، استعرض فيها دور الجائزة وأهميتها، مؤكداً على أن الاحتفال اليوم يترجم استحقاق المجيدين للثناء، ليكونوا نماذج يُحتذى بها في الجد والعطاء.

حبيب بن محمد الريامي رئيس مركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم (العمانية)

وأشار إلى أن المدى المكاني الذي وصلت إليه الجائزة اليوم، والاتساع المستمر للحيز الجغرافي الذي يشارك منه المبدعون العرب على مدار دوراتها، يأتيان نتيجة السمعة الطيبة التي حققتها، واتساع الرؤى المعوّل عليها في مستقبلها، إلى جانب الحرص المتواصل على اختيار لجان الفرز الأولي والتحكيم النهائي من القامات الأكاديمية والفنية والأدبية المتخصصة، في المجالات المحددة للتنافس في كل دورة، ووفق أسس ومعايير رفيعة تكفل إقرار أسماء وأعمال مرموقة تليق بنيل الجائزة.

كما تضمن الحفل أيضاً عرض فيلم مرئي تناول مسيرة الجائزة في دورتها الثانية عشرة وآلية عمل اللجان، إضافة إلى فقرة فنية قدمها مركز عُمان للموسيقى.

يذكر أن الجائزة تأتي تكريماً للمثقفين والفنانين والأدباء على إسهاماتهم الحضارية في تجديد الفكر والارتقاء بالوجدان الإنساني، والتأكيد على الإسهام العماني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في رفد الحضارة الإنسانية بالمنجزات المادية والفكرية والمعرفية.

الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة العماني يكرم ابنة الفائزة حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب) (العمانية).

وتُمنح الجائزة بالتناوب بشكلٍ دوري بحيث تخصّص في عام للعُمانيين فقط، وفي العام الذي يليه تكون للعرب عموماً، ويمنح كل فائز في الدورة العربية للجائزة وسام السُّلطان قابوس للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره مائة ألف ريال عُماني (260 ألف دولار)، أما في الدورة العُمانية فيمنح كُل فائز بالجائزة وسام الاستحقاق للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره خمسون ألف ريال عُماني (130 ألف دولار).

وأنشئت الجائزة بمرسوم سلطاني، في 27 فبراير (شباط) 2011، اهتماماً بالإنجاز الفكري والمعرفي وتأكيداً على الدور التاريخي لسلطنة عُمان في ترسيخ الوعي الثقافي، ودعماً للمثقفين والفنانين والأدباء خصوصاً، ولمجالات الثقافة والفنون والآداب عموماً، لكونها سبيلاً لتعزيز التقدم الحضاري الإنساني.


إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم
TT

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم، وبداية القرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجه الزمن لم يكن ليتحقق لولا تصميمهما الراسخ على تخليص ارتباطهما الزوجي من طابعه النمطي الرتيب، وجعله مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات.

الأرجح أن العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم، واللذين جمعهما الحب في سن مبكرة، يتمثل في دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مارلين في جامعة ستانفورد الأميركية، باحثةً في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفاً إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الروائية. والأهم في كل ذلك أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو منافساً ينبغي تجاوزه، بل بوصفه شريكاً عاطفياً وإبداعياً، ومحفزاً على المزيد من التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة.

إرفين يالوم

وإذا لم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعمال مارلين المهمة، وبينها «شقيقات الدم» و«تاريخ الزوجة » و«ميلاد ملكة الشطرنج»، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الأعمال قد لاقت رواجاً واسعاً في أربع رياح الأرض، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة عالمية، فيما نال كتابها الشيق «كيف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا.

أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فهو واحد من أفضل الكتب التي تصدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الروح، والدريئة التي يسدد إليها كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كذلك فقد تم تكريس دوره العاطفي المركزي في مختلف الأديان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حرص إرفين من جهته على استثمار شغفه بالطب النفسي في الانغماس بالكتابة الروائية، فقد آثر عدم الابتعاد عن دائرة اختصاصه، ليصدر أعمالاً عميقة وفريدة في بابها، من مثل «علاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي».

وإذا كانت رواية إرفين المميزة «حين بكى نيتشه» قد حققت قدراً عالياً من الذيوع والانتشار، فليس فقط لأن مؤلفها تصدى لأحد أبرز فلاسفة الغرب النابغين بالقراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بالغي الأهمية، محور العلاقة العاطفية الأحادية واليائسة التي جمعت بين نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي من جهة، ومحور اللقاء الافتراضي بين صاحب «غسق الأوثان»، الغارق في تصدعه النفسي وآلامه الجسدية ويأسه الانتحاري، والطبيب النفسي اللامع جوزف بروير من جهة أخرى. وإذ عثر عالم النفس الشهير في مريضه الاستثنائي على واحد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بأن يعمل الطبيب على شفاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح.

وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بمقولة دو لاروشفوكو حول تعذر التحديق في كلٍّ من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خلالها تجاوز مقولة الفيلسوف الفرنسي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفي طليعة هذه الحجج تأتي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا من الموت لا معنى له، لأننا لا نوجد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن.

ويطرح يالوم في السياق نفسه فكرة الموت في الوقت المناسب، وعيش الحياة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئاً سوى قلعة محترقة»، كما فعل زوربا اليوناني. وإذ يذكّرنا المؤلف بقول هايدغر «إن الموت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمام ضروب كثيرة من احتمالات العيش وخياراته، وعدم حصر الحياة في احتمال واحد. كما يخصص إرفين الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها في مساعدة مرضاه، بخاصة أولئك الذين طعنوا في المرض والعمر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيراً إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى.

العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بدت بمثابة الحدث الزلزالي الذي كان إرفين يظن نفسه بمنأى عنه، كما هو حال البشر جميعاً، حتى إذا وقع في بيته وإلى جواره، بدت المسافة بعيدة بين النظرية والتطبيق، وأوشك بناؤه البحثي على التهاوي. وفي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بوضع عمل سردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فيما يتكفل العمل من ناحية أخرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المشرقة في ذاكرة الأجيال.

وإذا كانت أهمية الكتاب المذكور الذي وضعا له عنوان «مسألة موت وحياة»، قد تجسدت في ما أثاره الزوجان من أسئلة وهواجس متصلة بقضايا الحب والصداقة والحياة والمرض والموت، وصولاً إلى معنى الوجود على الأرض، فإن المفارقة الأكثر لفتاً للنظر في الكتاب، لا تتمثل في تناوبهما الدوري على إنجاز فصوله فحسب، بل في الطريقة الهادئة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين.

وفيما يتابع الزوجان في الكتاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها من تغيرات، يعمدان في بعض الأحيان إلى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه الماضي بحثاً عن الأطياف الوردية لسنوات زواجهما الأولى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعاً لحالة الزوجة، التي تقع فريسة القنوط القاتم في بعض الأحيان، فيما تحاول تجاوز محنتها أحياناً أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجاً جيداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب التوازن. فنحن عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة».

أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل في سعي الزوجة المتألمة إلى إنهاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفين لمارلين برغبته في إنهاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض في القلب، بل في رد مارلين المفعم بالدعابة والتورية اللماحة، بأنها «لم تسمع في كل أنحاء أميركا عن تابوت تقاسمه شخصان اثنان». والأرجح أن الزوجة المحتضرة، التي ما لبثت أن رحلت عن هذا العالم عام 2019، كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لزوجها الخائف على مصيره رسالة مبطنة مفادها أنه لن يلبث أن يفعل إثر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخرى تخفف عنه أثقال الوحشة والعجز والتقدم في السن. ومع أن الزوج الثاكل قد برر تراجعه عن فكرة الانتحار، برغبته في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلى الزواج من الطبيبة النفسية ساكينو ستيرنبرغ، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، كان سيقابل من قبل مارلين، لو قُدِّر لها أن تعلم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالاً بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة.


«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني
TT

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026، التاريخ بوصفه عنصراً رئيساً في مجمل أعمالها، مستلهمة الكثير من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد.

تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، وهي خاتمة ثلاثية بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، مقدمة نموذجاً في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.

في هذه الرواية التي صدرت هذا العام عن «الآن ناشرون وموزعون»، في عمّان، وجاءت في نحو 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان.

تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ فقدمت وصفاً لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، التي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.

وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضاً إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجاً آيديولوجيّاً أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.

تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.

تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.

وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلاً عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحمد سهيل»، و«عبد السلام»، و«أبو سعاد»، و«باسمة»، و«طفول» الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.

ويجد المتلقي نفسه يخوض في «هبوب الريح» تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين، الأول (حارة الوادي)، والثاني (سراة الجبل).