مساحات خضراء هادئة، تتخللها صحراء ممتدة على مرمى البصر، تجسد جواهر مصر الخفية، وكنوزها الغنية بعناصر الفن والثقافة، إنها الواحات المصرية، التي تتمتع كل منها بسحر خاص وتاريخ عريق ومعالم جغرافية مميزة وحكايات عتيقة عن الناس وتراثهم وعاداتهم وتقاليدهم.
وفي كتاب جديد حول إحدى هذه الواحات، «واحة الخارجة»، يخوض القارئ رحلة ساحرة مستمتعاً بأجواء العيش داخل مجموعة من القرى الصغيرة التي تحتضنها كثبان رملية متدحرجة، ومناظر جبلية وعرة، أسهمت في تشكيل حياة سكان الواحة وطقوسهم اليومية.
ويغوص الكتاب، الصادر حديثاً عن «الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة» بعنوان «الناس في الواحات... دراسة عن السكان والزواج وعاداته وأغانيه في واحة الخارجة» للكاتب ناصر محسب، في قلب هذا المجتمع بسلاسة ولغة سهلة، متناولاً تاريخ هذه الواحات حتى دخول الإسلام، ومتطرقاً إلى العادات والمعتقدات الراسخة بها، خصوصاً ما يتعلق بالزواج والأمثال الشعبية والأغاني واسعة الانتشار التي تعكس نبض الحياة بالواحة.

ويرى محسب أن الواحات ظُلمت تاريخياً وإبداعياً، كما أنه لم يتم إلى الآن توثيق تراثها الإنساني بالشكل الذي يناسب مكاناً بحجم هذا المكان، مشيراً إلى أن «بعض اللهجات التي كانت تنتشر بها، وكذلك بعض جوانب تراثها المادي وغير المادي قد تعرضت للاندثار، والبعض الآخر في طريقه إلى الاختفاء مثل بعض الملابس والأغاني».
ويضيف ناصر محسب لـ«الشرق الأوسط» أن «معظم الكتب التي تناولت الواحات في مصر لم تتطرق بشكل كافٍ إلى أنثروبولوجيا المكان، فلم تحتفِ بدراسة السكان المحليين، وما يتعلق بأمورهم المادية الشخصية، أو بالعلاقات الاجتماعية والثقافية، كما لم تهتم ببعض القضايا التاريخية الشائكة».
ويواصل: «حتى تلك الكتب التي تناولت هذه الأبعاد فإنها في الغالب تستند إلى مصادر ومؤرخين هم أنفسهم نقل بعضهم عن بعض، من دون دراسات ميدانية كافية، أو تتبع للعائلات وإجراء لقاءات حية معهم».

ومن هنا اهتم محسب بتناول هذه الجوانب في كتابه: «على الرغم من أنني في الأصل روائي وشاعر فإنني وجدت نفسي شغوفاً بالتوثيق لحياة الناس في الواحات؛ إنصافاً لها وانطلاقاً من كوني أحد أبنائها»، على حد تعبيره.
ويوضح المؤلِّف أنه أجرى دراسات ولقاءات مع السكان، ورصد مشاهد وإرثاً اجتماعياً وثقافياً طويلاً سجَّله في هذا الكتاب، «حفظاً للهوية ومساهمة في تنشيط السياحة إليها، والكشف عن الكنوز المختبئة في مصر»، وفق قوله.
ويلفت الكتاب عبر صفحاته الأولى إلى موقع واحة الخارجة، مشيراً إلى أنها تقبع في جنوب مصر من جهة الغرب وتحدها جنوباً واحة «باريس» التابعة لها حتى حدود السودان، وتحدها غرباً واحة الداخلة، وتحدها من جهة الشرق محافظات أسيوط وسوهاج وقنا والأقصر.

ويحاول الكتاب الوصول إلى إجابة عن سؤال حول سبب اختلاف الشكل والصفات بين سكان الواحة، فمنهم أصحاب الوجوه العربية، والأفريقية ومنهم ذوو الشعر الأحمر والبشرة البيضاء والعيون الزرقاء كالأوروبيين، وغير ذلك، ووفق ما جاء به: «ربما يكون ذلك هو الدافع للبحث عن أصول السكان في الواحات؛ فلا صفات مميزة في الشكل أو اللون».
ويجيب: «ينتمي سكان الواحة إلى أجناس مختلفة، وقد يكون السبب وراء ذلك أن مناطق الواحات بعد دخول الإسلام، وتخلي الحاميات الرومانية عن الحماية قد تركت هذه البلاد عُرضة لغارات متعددة من القبائل المجاورة».
ويعد الزواج في الواحة بمنزلة العيد لدى الأهالي؛ لما يحققه لمجتمع الواحة من أواصر العلاقة بين أهلها، ويتبارى الجميع في تقديم المساعدات؛ فعلى سبيل المثال -وفق ما جاء في الباب الثاني من الكتاب- فإنه لا مقابل لمن يؤدي عملاً من أعمال بناء دار جديدة للعروسين.
ويشير إلى أن نظام التكافل الاجتماعي هو النظام السائد بين الجميع، وهو نظام أشبه بنظم المقايضة المؤجلة؛ فإن من يساعِد سيساعَد سواء عند الزواج أو أي مناسبة اجتماعية أخرى، وهو «نظام يُعرف باسم (الغرز والرد)، وهو من أهم سمات التكافل بين الناس في الواحة»، حسب المؤلف.

ومن أبرز عادات الزواج، حسبما تضمنه الكتاب، هو أنه بعد الاتفاق بين الأهل يخصَّص يوم لتفصيل ملابس العروس؛ فيشتري العريس الأقمشة المتفق عليها، ومن ضمنها أقمشة حمراء وبيضاء وحذاء ومنديل وتوضع الأقمشة في «قُفّة»، وتُوضع عليها أفرع البرتقال والليمون وسعف النخيل للزينة، كما يُحضِر كسوة لوالدَي العروس.
وتحمل النسوة والبنات من أهل العريس الأقمشة، ويتجهن بها إلى بيت عروسه، ويتم البدء في تفصيل الملابس وتحضر المفصلة (الخيّاطة) منذ الصباح، وتقوم بالخياطة اليدوية، بمساعدة بعض نساء الواحة، وتوضع العروس في وسط دائرة من النساء ويبدأ الغناء، وهنا يرصد الكاتب كل أنواع الأغاني المرتبطة بالعرس.
ويُعد يوم الاثنين اليوم المخصص لكتابة عقد الزواج، وتجري مراسم الكتابة في منزل العروس الذي يزدان مدخله بجريد النخيل الأخضر ملتفاً بحبال الليف، مجدولة به أفرع شجر الكافور والزيتون والليمون، ويحضر العريس والمأذون إلى منزل أهل العروس في زفة من الطبول.
وفي يوم الزفاف نفسه فإن الأغاني الأكثر أهمية هي لأم العروس التي تحمل بين طياتها وصايا الأم لابنتها تجاه زوجها واحترامها له، وأن تكون صبورة في تعاملها معه ومع أسرته.
وخصص الكاتب باباً للأمثال الشعبية الشائعة في المكان، التي كما تعكس العادات والمعتقدات فإنها كذلك تؤكد اعتزاز السكان بانتمائهم إلى الواحات، ومنها على سبيل المثال: «إن فاتك بنات مصر (المقصود القاهرة) خد من بنات القصر»؛ و(القصر) هي قرية من قرى واحة الداخلة اشتهرت بجمال الفتيات بها. كما قدم الكاتب مجموعة صور ورسوم تجسد البيئة في الواحة وتبرز جمالياتها.


