روما تحتفي بأديبها «المتمرد» ألبرتو مورافيا

35 سنة على رحيل صاحب رواية «السأم»

ألبرتو مورافيا
ألبرتو مورافيا
TT

روما تحتفي بأديبها «المتمرد» ألبرتو مورافيا

ألبرتو مورافيا
ألبرتو مورافيا

عندما وقف أومبرتو إيكو في مثل هذه الأيام الخريفية منذ 35 عاماً أمام نعش صديقه ألبرتو مورافيا المسجّى بين ثلّة من الأدباء والسينمائيين والصحافيين الذين كانوا يلقون النظرة الأخيرة على الذي سبق سارتر وكامو إلى الوجودية، خاطبه والدموع تترقرق في عينيه: «عزيزي ألبرتو، أعطيتنا عن ذاتك صورة منحوتة من رخام الزمن مثل تماثيل جزيرة الفصح، حيّة ومسكونة بالألغاز إلى الأبد... واليوم، قبل أن نقع في فخ الابتذال للحديث عن أعمالك المبهرة، من واجبنا وحقك علينا أن نلوذ بصمت إعادة قراءتك لنكتشف تلك الرؤية الثالثة التي ربما حتى أنت لم تكن تعرفها».

تعود روما، اليوم، إلى الاحتفاء بأديبها «المتمرد» الذي بقي شاباً حتى أواسط العقد التاسع من عمره، بعد أن تفرّد عن كل من سبقه في الشهادة على مواطن جمالها الأخّاذة، وأسرار مطارحها ومقاهيها ومكتباتها وعبث سكانها. وتستحضر المدينة الخالدة في ذكرى اليوبيل الفضي لرحيل صاحب «السأم» فصول العشق والحقد التي تأرجحت بينها حياة مورافيا في المدينة التي أحبّها «أكثر من كل النساء» كما قال يوماً لصديقه الأقرب بير باولو بازوليني الذي هو أيضاً كره روما وعشقها وخلّدها في أعماله حتى الرمق الأخير.

صديقه السينمائي الآخر برتولوتشي شكره يوم رثاه: «لأنك لم تبع نفسك للسلطة حتى رحيلك إلى الأراضي التي لا عودة منها». وفي إحدى الندوات التي نظمتها بلدية روما، نهاية الأسبوع الفائت، لتكريم مورافيا، جاءت الصحافية والكاتبة دينا ديسا التي فاجأت المجتمع الأدبي الإيطالي والمحيط العائلي بنشرها «حوارات سريّة» دارت بينهما طيلة علاقة جمعتهما أكثر من 20 عاماً، وتحدثت عن «نساء مورافيا» اللواتي «من دونهن لا يمكن أن نفهم هذا الكاتب الفذّ الذي ما زلنا في المراحل الأولى من اكتشاف عبقريته»، كما قالت في محاضرتها.

تقول ديسا إن تلك الحوارات هي ثمرة صداقة متينة بدأت بينهما يوم ذهبت إلى بيته في روما لإجراء مقابلة معه لصحيفة «تمبو» وهي في العشرين من عمرها، ولم تنقطع حتى وفاته، وتناولت جميع المواضيع الأثيرة لديه، من الجنس إلى الغواية واللاوعي والغيرة والإيمان والفن... والمرأة. وقالت إن تلك العلاقة المديدة لم يكن يعلم بها أحد، حتى أقرب أصدقائه. وتضيف: «تعارفنا بعد أسابيع قليلة على زواجه الثاني من الإسبانية كارمن لييرا، ومن يومها لم تنقطع لقاءاتنا في روما، وفي منزله على البحر حيث كان يترك لي غرفة نومه، وينام هو في مكتبه ليوقظني مع طلوع الفجر، ويحدثني عن الموت».

عندما تزوج مورافيا عام 1986 من كارمن لييرا، التي كانت محاضرة في جامعة بامبلونا الإسبانية، كان على أبواب الثمانين من عمره وهي في الثامنة والثلاثين. وبعد عامين على زواجهما نشرت لييرا كتاباً بعنوان «جورجيت»، مهدّت له بإهداء إلى زوجها ألبرتو، تروي فيه تفاصيل علاقة حب عاصفة ربطتها بالزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط الذي تعرفت إليه في أحد فنادق أوسلو عندما كانت برفقة مورافيا الذي كان عضواً في البرلمان الأوروبي آنذاك، للمشاركة في أحد اجتماعات المنظمة الاشتراكية الدولية التي ينتمي إليها حزب جنبلاط. وتسرد لييرا في كتابها حيثيات تلك العلاقة التي تنقلت بين روما والمختارة ودمشق، ثم جنيف بعد أن انقطع جنبلاط عن زيارة العاصمة السورية، وكيف تعرفت إلى والدته وزوجته، وكيف خفت بريق تلك العلاقة وانطفأت جذوتها بعد أن صارت اللقاءات تدور في جنيف وليس في الجبل الدرزي.

وعندما بلغها نبأ وفاة مورافيا، كانت كارمن في المغرب، فطارت على عجل إلى روما لتصل قبل دقائق من بداية جنازته، وهُرعت لتركع أمام جثمانه، وقبَّلته على فمه، ثم راحت تلامس جسده كما لو كان حيّاً، وتتمتم: «ألبرتو، ألبرتو!»، وفي وصيته ترك مورافيا لكارمن نصف ثروته، والنصف الآخر لرفيقته الكاتبة داريا ماراييني التي عاشت معه طيلة عقدين، وتمنَّى على الاثنتين الاهتمام بشقيقتيه اللتين لعبتا دوراً محورياً أيضاً في حياته.

لكن لا شك في أن العلاقة الأهم في حياته كان زواجه الأول من الكاتبة المعروفة إلسا مورانتي، والذي انتهى بخلافات عميقة بينهما تسببت بمعاناة شديدة لها بعد مرحلة أولى كانا خلالها العنوان الأبرز للحياة الأدبية الإيطالية، وجابا معاً الكثير من العواصم والبلدان، رمزاً لإيطاليا الخارجة من أتون الفاشية والحرب العالمية. ثالث تلك العلاقة كان المخرج السينمائي المعروف بيير باولو بازوليني الذي رافقهما في جميع الرحلات التي جابا خلالها بلاداً عديدة كانت الهند والاتحاد السوفياتي وكوبا محطات رئيسية فيها تناولها مورافيا في مؤلفاته ومقالاته الصحافية التي كان ينشرها في أبرز الصحف والمجلات الإيطالية. أومبرتو إيكو تناول تلك الصداقة المثلثة في كتاباته، وكان يتساءل باندهاش: «كيف كان مورافيا قادراً على التوفيق بين طاقته الجامحة وإقباله على الحياة من جهة، والملل الذي كان يسكن في أعماق روحه المضطربة؟! هذا كان سرّه الأكبر الذي رحل معه... رغبة في الحياة تفوق أي شيء آخر».

المخرج السينمائي برتولوتشي في رثاء مورافيا: شكراً لأنك لم تبع نفسك للسلطة حتى رحيلك إلى الأراضي التي لا عودة منها

شهد مورافيا النور في روما عام 1907، حيث عاش طفولة متعثرة في صحته، ثم أصيب شاباً بمرض السلّ الذي اضطرّه لدخول مصحّ لسنوات انصرف خلالها إلى قراءة أعمال الكبار من شكسبير إلى موليير ومالارميه وجويس ودوستويفسكي، وتعلّم الفرنسية والألمانية. في عام 1925 غادر المصحّ، وتفرّغ للكتابة لتصدر له روايته الأولى «اللامبالون» التي سرعان ما لاقت رواجاً واسعاً، وتُرجمت إلى لغات عدة. وبعد أن بدأ نجمه يلمع بفضل مقالاته الصحافية التي كان ينشرها في صحيفة «لاستامبا»، استدعته جامعة كولومبيا في نيويورك لإلقاء سلسلة من المحاضرات دار معظمها حول الحركة الوجودية، وكانت مثار اهتمام ونقاش واسع في الأوساط الأدبية.

خلال الحرب نشر مورافيا أهمّ رواياته مثل «الرومانية» و«آغوستينو»، وكان يكتب بانتظام في عدد من الصحف الإيطالية الكبرى مثل «كوريري دي لا سيرا» التي استمرّت تنشر مقالاته حتى وفاته. وبعد أن نال عدداً كبيراً من الجوائز الأدبية، نُقلت روايات عدة له إلى السينما على يد كبار المخرجين الإيطاليين والأوروبيين مثل فيتوريو دي سيكا ولويجي زامبيا وبرتولوتشي وجان لوك غودار، لكن صديقه الأقرب بازوليني لم ينقل إلى الشاشة أياً من أعماله.

في آخر مقابلة صحافية معه قبل أسابيع من وفاته قال مورافيا: «ليس سهلاً القول بمن تأثرت أعمالي الأدبية. ربما تأثرت بدوستويفسكي وجويس من حيث تقنية السرد. جويس علّمني استخدام عنصر الزمن موصولاً بالفعل، ومع دوستويفسكي أدركت تعقيدات الرواية الدرامية. «الجريمة والعقاب» كانت منارة أدبية بالنسبة إليَّ. أُعجبت كثيراً برامبو وبودلير وبعض الشعراء الذي يشبهون بودلير. أما من المعاصرين، فقد تأثرت بكونراد وستيفنسون وفيرجينيا وولف، وأيضاً بتشارلز ديكنز الذي في اعتقادي لم يبدع إلا في «أوراق مقهى بيكفيك»، وما تبقّى عنده لا قيمة له بنظري».


مقالات ذات صلة

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون 14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية.

ندى حطيط
ثقافة وفنون إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم

«الشرق الأوسط» (لندن)

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.


14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن
TT

14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع المتوسط، وتتكون من أربعة عشر فصلاً، يمثل كل فصل منها جيلاً، من قصة عائلة مصرية من الجد الرابع عشر، حتى الابن في الحاضر، مبتعدة عن تقديم أي خلفية تاريخية لأحداثها، وتكتفي فقط بإشارات عابرة إلى تطور نمط الحياة من جيل إلى آخر.

مع النهاية، نلاحظ أن ثمة وجوداً لفكرة العود الأبدي ودوران الزمن في حركة دائرية، عاكسة تأثير الماضي في الحاضر والمستقبل، وكيف يؤثر كل فعل في مصير الآخرين، وهكذا لا يوجد بطل للرواية، فالـ14 شخصية هم جميعهم أبطال، وكل واحد منهم بطل حكايته، فأسماء الفصول كلها معنونة بأسماء شخصيات، وهكذا يكون الزمن هو البطل الأول، وهو الذي يمارس ألعابه الوحشية في المقام الأول، غير أن كل شخصية لها حكايتها التي لا تأتي منفصلة عن الماضي، ولا ينقطع تأثيرها في المستقبل، وتعيش هي أيضاً ألعابها الخاصة، عبر أحلامها وانكساراتها والصراع الذي تدخل فيه.

وفي ظل ذلك تلعب الرواية على وتر البحث عن الهوية، من خلال علاقات حب يبدو فيها وكأنه مغامرة كبيرة وليس مجرد شعور، مغامرة ترسم المصائر وتعيد تشكيل العلاقات، وثمة أحلام، وهزائم وانتصارات، يتغير معها المكان والزمان، وبطبيعة الحال يلعب الموت دوراً كبيراً في الأحداث، وكثيراً ما يأتي بدايةً وليس نهاية.