شادي الهبر لـ«الشرق الأوسط»: مسرحية «روزماري» تُحاكي القلب قبل العقل

تطلّ من خلالها الممثلة بياريت قطريب على الخشبة بعد غياب

المسرحية تُحاكي موضوعات يومية في قالب الكوميديا السوداء (شادي الهبر)
المسرحية تُحاكي موضوعات يومية في قالب الكوميديا السوداء (شادي الهبر)
TT

شادي الهبر لـ«الشرق الأوسط»: مسرحية «روزماري» تُحاكي القلب قبل العقل

المسرحية تُحاكي موضوعات يومية في قالب الكوميديا السوداء (شادي الهبر)
المسرحية تُحاكي موضوعات يومية في قالب الكوميديا السوداء (شادي الهبر)

من بين إنتاجات «مسرح شغل بيت»، يستعدّ المخرج شادي الهبر لتقديم مسرحية «روزماري». وابتداءً من 5 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، تبدأ عروضها على خشبة «مسرح المونو» في بيروت، وهي من بطولة بياريت قطريب ومايا يمّين، ومن كتابة إيلي مكرزل الذي يُسجّل أول تجربة كتابة مسرحية في مشواره الصحافي.

يتناول العمل قصة صديقتَيْن؛ «روز» و«ماري»، تجمعهما موضوعات من حياتهما اليومية، وتتنقّل المسرحية بين أنماط فنّية تشمل الكوميديا السوداء ومسرح الواقع والغرابة. وفي حديث، لـ«الشرق الأوسط»، يشير مُخرجها شادي الهبر إلى أنها تُشكّل لديه تجربة جديدة: «عادةً ما تتألّف أعمالي من محتوى عميق يطلب من متابعه التركيز والتحليل، لكنني، اليوم، أخوض تحدّياً جديداً ومختلفاً، فأوقّع عملاً مسرحياً من نوع (اللايت) ذي أبعاد فكرية. لطالما تمنّيتُ الحصول على نصّ مسرحي من هذا النوع يجمع بين الفكاهة والغرابة».

شادي الهبر وبطلتا العمل خلال التمارين على المسرحية (صور المخرج)

ويرى أنّ اختيار بياريت قطريب ومايا يمّين يعود إلى الاحترافية التي تتمتّع بها كلّ منهما: «العمل مميّز بذاته، ومعهما سيتضاعف وهجه الفنّي. فكلتاهما تملكان مسيرتهما في العمل التمثيلي، ومن خلال هذه المسرحية سنراهما تُبدعان في الانتقال من حالة إلى أخرى، ضمن نص شيّق ومُسلٍّ».

ويتابع: «سعدتُ بالتعاون معهما، فكانتا تتلقّفان وتستوعبان بسرعةٍ الفكرة التي أطالب بترجمتها في الأداء».

هذا التحوّل من حالة تمثيلية إلى أخرى يرى الهبر أنه يحتاج إلى قوة لدى الممثل. «من الصعب عادةً احتواء مشاعر مختلفة في الوقت نفسه على الخشبة، فهناك الأمل كما الألم، وكذلك الفكاهة كما الحزن، وجميعها أحاسيس تتلقّفها بطلتا العمل لتعكساها أبعاداً تلامس الناس».

وعمّا تطلَّب منه إخراج هذه المسرحية، ولا سيّما أنها تجربة مختلفة بالنسبة إليه، يردّ: «عندما أقرأ أيّ نصّ مسرحي أحبّ مناقشته مع الكاتب كما مع أبطاله. فأنا من الذين يفضّلون العمل الفنّي الجماعي، إذ أقف على أفكار الآخرين ونظرتهم إلى العمل مع إمكان تعديله. في (روزماري) تناقشت كثيراً مع فريق العمل، وقد زوّدتني مايا يمّين بفكرة رائعة اتّخذت منها خطّاً أساسياً في عمليتي الإخراجية».

بياريت قطريب تعود بعد غياب إلى خشبة المسرح (شادي الهبر)

ويشير الهبر إلى أنّ ما لفته في النصّ ليس موضوع الصداقة فحسب، بل غناه بالرسائل والطبقات. «هذا التمازُج بين الكوميديا والغرابة حضَّني على خوض التحدّي. وعندما جلست مع كاتبها إيلي مكرزل وبطلتَيْها قطريب ويمّين، أدركتُ أنها مسرحية ذات محتوى مختلف، فهي ترتكز على حياتنا الواقعية، وقصصها مستوحاة من تجارب إنسانية قد يمرُّ بها أيٌّ منّا. لا يشعر فيها المتفرِّج بالملل؛ لأنها تنقله بين مشاعر متناقضة، فلا يلبث أن ينسجم في مشهد حزين حتى يتحوَّل إلى آخر فكاهي في لحظة واحدة. هذا العنصر المُفاجئ هو ما أضفى على (روزماري) روح الدهشة التي دفعتني إلى التجديد وخوض التجربة».

ويصف الهبر المسرحية بأنها مُسلّية وترفيهية، ولكنها في الوقت عينه تدفع الجمهور عند مغادرة الصالة إلى التفكير بها، وطَرْح السؤال الكبير في الختام: «هل تستحقّ الحياة كلّ ذلك؟».

تجمع المسرحية بين الطابع الإنساني العميق والطرح الجريء لقضايا اجتماعية معاصرة، في قالب درامي كوميدي يُلامس الواقع اللبناني بكلّ تناقضاته. يستغرق عرضها نحو 60 دقيقة، ويعد الهبر بأنها ستمرّ بسلاسة كبيرة على متابعيها. «اخترنا مدّة عرض مختصرة ومفيدة في آن، وسيكون منسوب التركيز فيها مرتفعاً، وكذلك المواقف الكوميدية والإنسانية التي تُلامس المرأة والرجل على السواء».

تنطلق عروض «روزماري» على «مسرح المونو» في 5 نوفمبر (شادي الهبر)

من جهته، يشير المسؤول الإعلامي في محترف «شغل بيت»، كريس غفري، إلى أنّ المسرحية تُخاطب الناس بلسان حالهم، وأنّ الواقع الذي نعيشه يستأهل تسليط الضوء عليه من خلال «روزماري». ويضيف، لـ«الشرق الأوسط»: «إنها نتاج خلطة فنّية جميلة، تتألّف من ممثلتين محترفتين ومُخرج بارع، إضافة إلى كاتب يملك قلماً مبدعاً يعرف كيف يُقدّم حبكة نصّ مشوّقة ومفيدة في آن».

ويتابع عن البطلتَيْن قطريب ويمّين: «عندما كتب إيلي مكرزل قصة العمل، فكَّر مباشرة في بياريت قطريب، فرأى فيها أفضل مَن يمكنها تجسيد الدور، فيما مايا يمّين كانت قد لفتت المخرج في مسرحية (خطوط تماس) لريمون جبارة، التي شاركت فيها ضمن احتفالية خاصة بالمخرج الراحل».


مقالات ذات صلة

صلاح جاهين يواصل رسم «ضحكة مصر» رغم الغياب

يوميات الشرق احتفالية صلاح جاهين ضحكة مصر (وزارة الثقافة)

صلاح جاهين يواصل رسم «ضحكة مصر» رغم الغياب

المسرح القومي يحتفي بذكرى صلاح جاهين بعرض حكي وغناء يعيد تقديم أعماله الفنية والغنائية الشهيرة.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق «أنا وغيفارا» تراهن على إكمال مسار المسرح الغنائي في لبنان (الشرق الأوسط)

عودة «أنا وغيفارا»... الثورة والإنسانية على خشبة «جورج الخامس»

نجح «الأخوان صبّاغ» في مقاربة سيرتَي رجلَي الثورة؛ كاسترو وغيفارا، بعيداً عن أي انحياز سياسي، وقدّماهما في إطار إنساني عزّز قيم السماحة والغفران.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق العرض سلَّط الضوء على مسيرة باكثير الإبداعية (الشركة المنتجة)

«متحف باكثير»... يستعيد روائع الأديب اليمني الكبير برؤية معاصرة

يجمع العرض المسرحي «متحف باكثير» أعمال علي أحمد باكثير في تجربة مسرحية معاصرة، مع إطلاق جائزة سنوية لدعم الإبداع العربي وتكريم الفنانين المرتبطين بإرثه.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق في هذا المشهد لا خلاص واضحاً... فقط هدنة قصيرة مع الواقع (الشرق الأوسط)

«حبّ في شبه مدينة»... مسرحية عن الإنسان العالق في المكان المُنهَك

الحوار مُحمَّل بالدلالة ومبنيّ على شذرات اعتراف تتقاطع فيها السخرية السوداء مع الإحباط العميق...

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق المجتمع الذكوري والتحدّيات بين المرأة والرجل (الشرق الأوسط)

«شي تيك توك شي تيعا»... طارق سويد يُحرز المختلف

اختار طارق سويد أبطال المسرحية من بين طلابه الموهوبين في أكاديمية «بيت الفنّ» التي تديرها زميلته الممثلة فيفيان أنطونيوس...

فيفيان حداد (بيروت)

هل يصلح النرجسيون للعمل معاً؟

عادة ما تكون العلاقة بين الأشخاص النرجسيين آسرة ومضرة (رويترز)
عادة ما تكون العلاقة بين الأشخاص النرجسيين آسرة ومضرة (رويترز)
TT

هل يصلح النرجسيون للعمل معاً؟

عادة ما تكون العلاقة بين الأشخاص النرجسيين آسرة ومضرة (رويترز)
عادة ما تكون العلاقة بين الأشخاص النرجسيين آسرة ومضرة (رويترز)

يُنظر إلى النرجسية عادةً على أنها صفة فردية. فالنرجسيون، المقتنعون بقدراتهم ومواهبهم، يبدو أنهم مصممون على شق طريقهم بأنفسهم نحو القمة. وعندما يلتقي نرجسيان، قد نتوقع أن يكره كل منهما الآخر بدلاً من السعي إلى التآلف والانسجام معاً. ومع ذلك، تستند نتائج دراسة جديدة إلى كتابات عالم النفس والفيلسوف الألماني الأميركي، إريك فروم، لتُظهر كيف يمكن أن يألف النرجسيون العمل معاً في جماعات.

تأتي الدراسة الجديدة بالتزامن مع الاحتفال بالذكرى 125 لميلاد فروم، الذى يُعد من أبرز مفكري القرن العشرين الذين مزجوا بين التحليل النفسي وعلم الاجتماع والفلسفة.

والنرجسية هي سمة شخصية يعاني أصحابها من التركيز المفرط على الذات، وعادة ما يكون ذلك على حساب الآخرين. ويتصف النرجسيون بالأنانية، وبالتوق إلى الإعجاب بأنفسهم، وغالباً ما يُظهرون نقصاً في التعاطف والتواصل مع الآخرين. وبدلاً من ذلك، ينظرون إلى العلاقات على أنها فرص لتعزيز سيطرتهم عليهم.

كتبت الدكتورة سوزان كراوس ويتبرن، الأستاذة الفخرية في العلوم النفسية والدماغية في جامعة ماساتشوستس أمهيرست بالولايات المتحدة، في تعليق لها على نتائج الدراسة، المنشورة الجمعة، على موقع «سيكولوجي توداي»، كان فروم قد تناول في ستينات القرن العشرين ظاهرة أطلق عليها اسم «النرجسية الجماعية»، وربطها بمصطلح نفسي ظهر في منتصف القرن العشرين يُعرف باسم «الشخصية السلطوية». إذ يعارض الأشخاص الذين يتمتعون بهذه الصفات أي مفاهيم للحرية، ويسعون جاهدين لقمع أي تعبير عن الاستقلالية لدى الآخرين.

يُعيد الباحث فولفغانغ فريندته، من جامعة فريدريش شيلر في ألمانيا، إحياء هذا المصطلح ليُطبّق على ما يعتقده الكثيرون بأنه عودةٌ حاليةٌ للسياسات الاستبدادية، مشيراً إلى أن «الأشخاص ذوي التوجه القوي نحو الهيمنة يُقيّمون الآخرين بناءً على انتمائهم الجماعي، ويعتقدون أن مجموعتهم أفضل أو أكثر قيمةً من مجموعات الآخرين». ومن ثم، ينتقل الارتباط من الاستبداد إلى النرجسية الجماعية عبر مسار توجه الهيمنة الاجتماعية.

ويؤكد فريندته على أن النرجسية الجماعية تندرج ضمن هذا التفسير، إذ إن الرغبة في استمرار وجود المجموعة تضمن بقاء أفرادها. وكما هي الحال في النرجسية الفردية السامة، ينتج عن هذا الشكل من النرجسية الجماعية رغبة في سحق من ليسوا ضمن المجموعة، مما يؤدي إلى التمركز العرقي والقومية المتطرفة.

ووفق الدراسة، تسعى هذه الجماعات إلى قادة يميلون هم أنفسهم إلى النرجسية السامة، ساعين إلى تعزيز شعور المجموعة بالتفوق وقمع الغرباء. فمن خلال التماهي مع جماعتهم، لم يعودوا يشعرون بالوحدة، ولا يضطرون لمواجهة أسئلة مُقلقة حول معنى الحياة.

ويعتمد فريندته على نتائج دراسات سابقة كشفت أيضاً أن مشجعي الفرق الرياضية المتنافسة عادة ما يقعون ضحية لهذا التحيز بسهولة. تخيل حجم العداء الذي قد ينشأ بين أشخاص كان من الممكن أن يكونوا أصدقاء لولا كراهيتهم لفريق كل منهم المفضل.

ويؤكد على أن الخروج من هذه المعضلة يتطلب فهم مفهوم «الحرية الإيجابية»، وهو مصطلح آخر مستوحى من فروم. فالحرية الإيجابية تُمكّنك من رؤية نفسك ككائن مستقل، حتى وإن كنت تُعرّف نفسك من خلال انتمائك إلى جماعة.


داوود عبد السيد... «فيلسوف السينما» صاحب «العلامات» الفريدة

المخرج المصري داوود عبد السيد (وزارة الثقافة)
المخرج المصري داوود عبد السيد (وزارة الثقافة)
TT

داوود عبد السيد... «فيلسوف السينما» صاحب «العلامات» الفريدة

المخرج المصري داوود عبد السيد (وزارة الثقافة)
المخرج المصري داوود عبد السيد (وزارة الثقافة)

منذ حضوره الأول اللافت بفيلم «الصعاليك» عام 1985، أعلن المخرج المصري داوود عبد السيد، الذي غيّبه الموت يوم (السبت)، عن مدرسة إخراجية جديدة رسَّخت لفكرة المخرج المؤلف، لتترك لاحقاً علامات مفعمة بالتميز والتفرد في السينما المصرية.

وأعلنت زوجة المخرج داوود عبد السيد، الكاتبة الصحافية كريمة كمال، وفاته بمنزله ظُهر اليوم بعد معاناة مع المرض منذ إصابته قبل سنوات بالفشل الكلوي؛ ليرحل عن عمر ناهز 79 عاماً، ويودعه محبوه، الأحد، حيث تشييع جنازته من كنيسة مار مرقس.

لم يعتمد الإرث السينمائي للمخرج الراحل على عدد الأفلام التي قدَّمها، وإنما كان رهانه الدائم على نوعية ما يقدِّمه، فعبد السيد المولود في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1946 لم يقدِّم على مدى مسيرته التي بدأت في سبعينات القرن الماضي سوى 9 أفلام روائية طويلة، سبقتها 6 أفلام وثائقية، وامتازت أفلامه منذ عمله الطويل الأول «الصعاليك» وحتى فيلمه الأخير «قدرات غير عادية»، بأنَّها تحمل أفكاراً ورؤى مغايرة للسائد، تدعو المتلقي للتفكير والتأمل، وسرعان ما اجتذبت جمهوراً واسعاً وحصدت جوائز في مهرجانات مصرية وعربية ودولية.

وتميَّزت أفلامه برؤية فكرية وإنسانية عميقة وأسهمت في ترسيخ مكانة الفن السابع بوصفه أداةً للتنوير وبناء الوعي، وفق وزير الثقافة المصري، أحمد فؤاد هنو، في نعيه للمخرج الراحل، مؤكداً أن «اسمه سيبقى حاضراً في الذاكرة الثقافية والفنية المصرية لما قدَّمه من إسهامات رفيعة المستوى، استطاعت أن تحوِّل الشاشة إلى مساحة للتفكير وطرح الأسئلة الكبرى، وأن تعبِّر بصدق عن هموم الإنسان والمجتمع».

داوود عبد السيد (فيسبوك)

داوود الذي عمل مساعداً في بدايته لكبار المخرجين مثل يوسف شاهين في فيلم «الأرض»، وكمال الشيخ في «الرجل الذي فقد ظله»، سرعان ما توقَّف عن القيام بهذا الدور الذي لم يتحمس له، فهو غير قادر على التركيز سوى فيما هو مهموم به مثلما صرَّح من قبل.

استهل عبد السيد مسيرته في مجال الإخراج مع السينما الوثائقية بفيلم «رقصة من البحيرة» عام 1972، ثم توالت أفلامه ومنها «تعمير مدن القناة»، و«وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم»، و«الأمن الصناعي»، و«العمل في الحقل»، و«عن الناس والأنبياء والفنانين».

ووفق مدير التصوير السينمائي، سعيد شيمي، الذي قام بتصوير فيلم «وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم»، فإن داوود عبد السيد دعا من خلال الفيلم لأهمية تعليم الفلاحين ليفيدوا المجتمع، ما أحدث اهتماماً بتعليمهم، حسبما يضيف لـ«الشرق الأوسط»، مشيراً إلى أن «داوود مفكر ومؤلف، وله رؤية فلسفية تغلف أفلامه، لا سيما أعماله الروائية التي كتبها وأخرجها».

حملت أفلام داوود عبد السيد نبضه وروحه وعالمه الخاص في رأي الناقد طارق الشناوي، فأعماله الـ9 تعبر عن إحساسه ورؤيته الخاصة. ويضع الشناوي فيلم «أرض الخوف» في مكانة استثنائية، بوصفه «من الأفلام التي حفرت في الوجدان وفي الذاكرة مساحة لا تُمحى»، بينما فيلمه «الكيت كات» أكثر أفلامه نجاحاً جماهيرياً، الذي توقف عنده النقاد كثيراً، أما «رسائل البحر» فيراها حديثاً عن الرسائل التي يقدمها لنا الله، ولا يستطيع سوى بعض البشر قراءتها، وقد حاول داوود من خلال الفيلم أن يجعلنا نسمع ونقرأ معه هذه الرسائل، على حد تعبير الشناوي.

مشهد من فيلم «أرض الخوف» (يوتيوب)

ويعود إلى فيلمه الأول «الصعاليك» الذي يراه «رؤية بها عمق وقراءة مبكرة لمناخ الانفتاح الاقتصادي الذي فتح الباب على مصراعيه لفساد مقنن خارج العدالة»، بينما في «سارق الفرح» عبَّر عن البسطاء الذين لا يجدون وسيلة للسعادة إلا بسرقة لحظات من الفرح حتى لو سرقوها من بعضهم بعضاً. وعَدّ الشناوي آخر أفلام داوود عبد السيد «قدرات غير عادية» بمثابة ومضة له، وكأنه يريد أن يعانق السماء بهذا الفيلم الأخير، لافتاً إلى أن أفلام المخرج الراحل صارت مدرسة لأن كثيراً من المخرجين الشباب تعلموا منها، وقاموا بإهداء أفلامهم الأولى له تأثراً بما قدمه.

اسمان تكرَّرا في أغلب أفلام داوود عبد السيد، هما الموسيقار راجح داوود ابن عمه الذي ألف الموسيقى التصويرية لأفلامه، وفنان الديكور أنسي أبو سيف الذي صمم المناظر لأغلب أفلامه. وقد ذكر في حوار سابق لـ«الشرق الأوسط» أنه تخرج وداوود في الدفعة نفسها بمعهد السينما، وبينهما تفاهم كبير، وجمعتهما صداقة انعكست على أفلامهما، وأنه شاركه في كل أفلامه ما عدا «البحث عن سيد مرزوق».

ولعل أصعب قرار اتخذه المخرج داوود عبد السيد وأثار جدلاً كبيراً وردود فعل واسعة، كان قراره الاعتزال عام 2022، وقد جاء ذلك بعد فترة تَوقَّف فيها تقريباً عن العمل منذ آخر أفلامه «قدرات غير عادية» عام 2015، وفي حوار لـ«الشرق الأوسط» برَّر عبد السيد هذا القرار بأنه «أدى رسالته عبر الأفلام التي قدمها، وأن الأسباب التي دفعته لذلك طبيعية، ومن بينها تقدمه في السن، فضلاً عن تغير الجمهور»، لكنه كشف أيضاً عن كثير من المرارة التي غلفت حديثه قائلاً إنه ظل يبحث 10 سنوات عن تمويل لفيلم «قدرات غير عادية»، وأنه بعد النجاح الكبير الذي حققه فيلم «الكيت كات» ظلَّ ينتظر 5 سنوات بعدها ليقدم فيلماً آخر، مؤكداً أنه لم يغريه في أي وقت الكم على حساب الكيف، بل يسعد بما أنجزه من أفلام، رافضاً أن يرضخ الفنان للجمهور تحت دعوى «الجمهور عايز كده»، قائلاً: «إذا قدمنا عملاً يحترم عقل الجمهور وإنسانيته وعواطفه فسيُقبل عليه».

فيلم «الكيت كات» من أنجح أعمال المخرج الراحل (سينما دوت كوم)

ونعى مخرجون وفنانون المخرج الراحل، وعبَّر الفنان حسين فهمي، رئيس مهرجان القاهرة السينمائي، عن حزنه، قائلاً إنه برحيل داوود عبد السيد تفقد السينما المصرية أحد أهم مبدعيها وأكثرهم صدقاً وخصوصية، مؤكداً أنه «كان صاحب رؤية فلسفية وإنسانية نادرة، وترك أعمالاً ستبقى مرجعاً في الجمال والوعي، وسنظل نحتفي بإرثه، ونتعلم من بصيرته السينمائية العميقة».


محمد نزار: «غرق» يطرح أسئلةً صعبةً عن الحب والإنكار العائلي

محمد نزار (مهرجان البحر الأحمر)
محمد نزار (مهرجان البحر الأحمر)
TT

محمد نزار: «غرق» يطرح أسئلةً صعبةً عن الحب والإنكار العائلي

محمد نزار (مهرجان البحر الأحمر)
محمد نزار (مهرجان البحر الأحمر)

في فيلم «غرق»، يقدّم الممثل الأردني محمد نزار أداءً مركباً في أولى تجاربه بالبطولة المطلقة، مجسداً شخصية «باسل»، المراهق العبقري المنعزل اجتماعياً، في عمل سينمائي يقترب بحساسية من موضوع الصحة النفسية داخل الأسرة العربية. الفيلم الذي أخرجته زين دريعي بأولى تجاربها الروائية الطويلة وحصد جائزة «التانيت البرونزي» ضمن مهرجان قرطاج السينمائي في دورته المنقضية الـ36 لا ينشغل بتشخيص المرض بقدر انشغاله بتفكيك علاقة أم بابنها؛ تلك الرابطة المشدودة بين حب غير مشروط وخوف عميق وإنكار يتراكم بصمت.

يقول محمد نزار لـ«الشرق الأوسط»، إن مشروع «غرق» بدأ عام 2020، عندما تلقى رسالةً عبر «فيسبوك» من المخرجة زين دريعي تطلب لقاءه لأنها تعمل على سيناريو جديد، تم اللقاء على فنجان قهوة، وبعده مباشرة أبلغته باختياره للدور، لكن الطريق لم يكن قصيراً، إذ استغرق التحضير سنوات قبل أن يرى الفيلم النور، فقراءة السيناريو النهائي تمت عام 2023، ومعها انطلق العمل الجاد الذي امتد بين عامي 2023 و2024 حتى انتهاء التصوير.

عرض الفيلم للمرة الأولى عربياً في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)

يشير نزار إلى أن شخصية «باسل» تقوم على شاب مراهق يمر بتحولات نفسية وسلوكية قد تبدو غامضة أو مقلقة لمن حوله، لكن جوهر الفيلم لا يكمن في غرابة التصرفات بقدر ما يكمن في العلاقة التي تجمعه بأمه، مشيراً إلى أن الفيلم، في المقام الأول، يتناول هذه العلاقة المعقدة، والرحلة النفسية الداخلية التي يخوضها الطرفان، حيث يحاول كل منهما الإمساك بالآخر في لحظة هشاشة مشتركة، لذا يمكن اعتبار أن «غرق» يفتح نافذة نادرة في السينما العربية على قضايا الصحة النفسية بعيداً عن التنميط أو الأحكام السريعة.

وأشار إلى أن الفيلم يقترب من موضوعات لم تحظَ باهتمام كافٍ في السينما العربية، إذ تبدأ الأحداث بحادث يقع في المدرسة، يدفع باسل إلى الانسحاب ورفض الذهاب إلى الدراسة، ثم التمسك بالبقاء في المنزل. من هناك، تتدهور حالته النفسية تدريجياً، دون علامات واضحة تمكّن العائلة من التدخل المبكر، مما يجعل الأزمة تتفاقم حتى تصل إلى نقطة الانفجار. هذا الغموض، حسب نزار، هو أحد مفاتيح الفيلم الأساسية، لأنه يعكس واقع كثير من العائلات التي تعجز عن فهم ما يجري داخل أبنائها.

وأكد أن التحضير الطويل كان ضرورياً نظراً لتعقيد الشخصية وحساسيتها، لافتاً إلى أن تجسيد أدوار مرتبطة بالاضطرابات النفسية ينطوي على خطر المبالغة. لذلك حرص على تقديم أداء متزن وطبيعي، يقرّب الشخصية من المتفرج بوصفها إنساناً قبل أن تكون حالة، فكان هدفه أن يمنح شخصية «باسل» ملامح إنسانية قابلة للتصديق، وأن يقدمه كبني آدم يحمل تناقضاته وضعفه، لا مجرد تمثيل لمرض.

وتحدث عن بروفات مكثفة سبقت التصوير، شملت قراءة السيناريو والعمل عليه، إضافة إلى استخدام ما يُعرف بالإيماءات النفسية، حيث جرى تفكيك كل مشهد وتحديد الحالة الداخلية والحركة الجسدية المناسبة له، موضحاً أن «العمل انصبّ كثيراً على الجسد والصوت، والذهاب إلى مساحات أدائية واسعة خلال التحضير، ثم تقليص هذه المساحات أثناء التصوير للوصول إلى النقطة الأدق والأصدق للشخصية»، على حد تعبيره.

استغرق عمل نزار على الشخصية نحو 4 سنوات (الشركة المنتجة)

وعن أكثر المشاهد التي شغلته قبل التصوير، أشار إلى وجود أكثر من مشهد معقد، لكنه توقف عند مشهد جسدي يتضمن عنفاً واشتباكاً مباشراً مع شخصية أخرى، مؤكداً أن «هذا المشهد كان مصدر قلق كبير في مرحلة التحضير، إلا أنه أثناء التصوير اتضح أن التعامل معه تقني بالدرجة الأولى، ليصبح في النهاية من أسهل مشاهد الفيلم»، حسب قوله.

وعن ظروف التصوير، أوضح أن مدة التصوير بلغت 22 يوماً اتسمت بالكثافة والضغط، رغم الاستعداد الطويل الذي سبقها، دخل موقع التصوير وهو ملمّ بكل تفاصيل القصة والشخصية، لكن التحديات لم تغب، خصوصاً مع محدودية الوقت، مشيراً إلى تعرضه لإصابة قوية خلال اليوم التاسع من التصوير، حيث تمزق الرباط الصليبي في ركبته، ورغم ذلك واصل العمل حتى نهاية التصوير، لأن التوقف لم يكن خياراً، لكون المشروع قريباً من قلبه بعد سنوات من التحضير والانتظار.

وتطرق نزار إلى استقبال الفيلم في مهرجان «تورنتو» ثم «البحر الأحمر السينمائي»، معرباً عن سعادته بردود الفعل الإيجابية التي حظي بها، ومؤكداً أن وقع العرض أمام جمهور عربي في جدة يظل مختلفاً، لأن الفيلم في جوهره عمل عربي يتناول قضايا حاضرة بقوة في مجتمعات الشرق الأوسط، لكنها غالباً ما تبقى مسكوتاً عنها أو مؤجلة.

وعن تجربة البطولة، رأى نزار أنها «كانت خطوة مهمة حملت قدراً كبيراً من المسؤولية، خصوصاً أن معظم أدواري السابقة كانت مساندة أو بطولات في أفلام قصيرة، فهذه التجربة دفعتني إلى مزيد من الالتزام والانضباط، لكنها لم تغيّر نظرتي الأساسية للتمثيل»، إذ يؤكد أن ما يشغله أولاً هو جودة الشخصية والسيناريو، لا حجم الدور أو مسماه.

وأكد أن هذه التجربة قد تؤثر على اختياراته المستقبلية، لكنه في الأساس ملتزم بمبدأ واضح يتمثل في عدم المشاركة في أي مشروع دون تحضير جاد، مشيراً إلى انشغاله بالتحضير لمشروعين سينمائيين جديدين، أحدهما سيُصوَّر في الأردن، والآخر بين كرواتيا وإسطنبول والأردن.