تبرز السعودية اليوم كأحد أبرز النماذج العالمية التي تجمع بين السرعة، والحجم، ووضوح الرؤية في تبنّي التحول الرقمي.
فمن الاستثمارات السيادية الضخمة في مراكز البيانات، إلى تطوير النماذج اللغوية العربية المحلية مثل نموذج «علّام» للذكاء الاصطناعي، مروراً بشراكات استراتيجية مع كبرى شركات التكنولوجيا العالمية، لا تكتفي المملكة بتبنّي الذكاء الاصطناعي، بل تبني مستقبلها حوله.
وفي هذا السياق، يبرز أثر هذا التحول العميق على قطاع التسويق الذي يشهد إعادة تشكيل غير مسبوقة. يقول وسيم أفضل، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة «بلاتفورمانس» إن «المملكة تبني البنية التحتية للذكاء الاصطناعي ليس فقط كمجال تقني، بل كركيزة أساسية لكل قطاع اقتصادي. وهذا يعني أن التسويق، كغيره، يحتاج إلى إعادة هيكلة كاملة».
رؤية وطنية متكاملة
في إطار «رؤية السعودية 2030»، يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كأداة تمكين محورية تدفع التحول في مجالات التعليم، والمالية، والرعاية الصحية، والتجارة.
وتقود جهات تنظيمية مثل الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) وهيئة الحكومة الرقمية هذا التحول من خلال تعزيز البنية التحتية وتطوير الأطر الحوكميّة، لضمان ألا تكون المملكة مجرد مستهلك للتقنية، بل شريكاً فاعلاً في تطويرها.
ويشرح وسيم أفضل قائلاً: «في الغرب، نسمع عن حالات استخدام متفرقة للذكاء الاصطناعي، أما في السعودية فالأمر مختلف؛ إذ نتحدث عن رؤية وطنية متكاملة تبدأ من النماذج اللغوية مثل «علّام»، مروراً بالسحابة السيادية، وانتهاءً بتطبيقات حقيقية في قطاعات الدولة».
هذه المنهجية الشاملة تخلق بيئة تسويقية غير تقليدية، حيث يتم بناء البنية الرقمية والذكاء الاصطناعي بتخطيط استراتيجي متكامل وليس بشكل عشوائي، ما يجعل الأساليب التسويقية التقليدية عاجزة عن مجاراة هذا الإيقاع المتسارع للتحول.

الاكتشاف لم يعد خطياً
أعاد الذكاء الاصطناعي تشكيل الطريقة التي يكتشف بها الناس المحتوى والمنتجات والعلامات التجارية. وفي أسواق مثل السعودية، حيث وصلت نسبة انتشار الهواتف الذكية إلى مستويات شبه كاملة، وأصبح الاستهلاك الرقمي جزءاً من الحياة اليومية، بات الذكاء الاصطناعي في واجهة التفاعل الرقمي بين العلامات التجارية والمستهلكين.
يقول وسيم أفضل إن «المستهلك اليوم يكتشف المنتجات عبر قنوات أصلية للذكاء الاصطناعي، سواء كانت مساعدين أذكياء مبنيين على النماذج اللغوية، أو محركات اقتراحات مخصصة ضمن تطبيقات التجارة، أو حتى عبر البحث الصوتي باللغة العربية».
هذا التحول، كما يوضح، يفرض على المسوّقين التفكير خارج حدود المنصات التقليدية والانتقال إلى بيئة «قابلة للتحفيز» عبر الأوامر والطلبات. ففي عالم تحكمه المحركات التوليدية المعتمدة على اللغة، تصبح كيفية وصف المنتج وتوثيقه وتقييمه أهم من ترتيبه في نتائج البحث التقليدي.
ويضيف أفضل أن المسألة لم تعد تتعلق بتحسين محركات البحث فقط، بل بكيفية تكييف اللغة التسويقية لتكون مفهومة ومتصلة بالنماذج اللغوية، ثقافياً واستراتيجياً».
العربية أولاً لم تعد خياراً
بُنيت أغلب بنى الذكاء الاصطناعي العالمية على بيانات باللغة الإنجليزية، لكن السعودية تسير في اتجاه مغاير، حيث تعمل على تطوير منظومتها اللغوية العربية الخاصة.
ويُعد إطلاق نماذج لغوية مثل «علّام»، بدعم من شركة «هيوماين»، مؤشراً على حقبة جديدة في تعريب الذكاء الاصطناعي، تتجاوز الترجمة إلى فهم السياق الثقافي والتنوّع اللهجي ونوايا المستخدمين.
ويشدد وسيم أفضل على أهمية هذا التحول بقوله: «العربية أولاً لا تعني الترجمة فقط، بل طريقة تفكير ونبرة خطاب وسياقاً محلياً وقيماً مجتمعية».
لم يعد بإمكان العلامات التجارية الاكتفاء بالترجمة أو الحملات الموحدة للمنطقة. فحتى تنجح في فضاء عربي رقمي يقوده الذكاء الاصطناعي، يجب أن تُبنى الاستراتيجيات التسويقية من الصفر بالعربية من هندسة الأوامر التفاعلية (Prompts)، إلى تصميم تجربة المستخدم، وصولاً إلى بناء البيانات الوصفية والمصطلحات التي تعكس طريقة تفكير المستهلك السعودي وسلوكه الرقمي.
ويضيف أفضل: «لا يمكنك ببساطة أخذ محتوى إنجليزي ووضعه في قالب عربي وتتوقع نتائج فعالة. تحتاج إلى هندسة محتوى محلية الأصل مصممة خصيصاً للنماذج اللغوية العربية».

النتائج القابلة للقياس لم تعد رفاهية
مع ظهور نماذج جديدة للاكتشاف والاقتراح، تغيّرت أيضاً طرق قياس الأداء التسويقي. فقد أتاح الذكاء الاصطناعي اليوم أدوات أكثر دقة قادرة على تحليل المشاعر بشكل لحظي، والتنبؤ بالسلوك، وتخصيص التفاعل مع المستهلك. لكن هذا التطور يفرض على المسوّقين معايير قياس جديدة أكثر دقة وواقعية.
ويعد وسيم أفضل أنه في السعودية، حيث تدفع الجهات الحكومية نحو نتائج قابلة للقياس، سواء في السياحة أو الصحة أو التقنية المالية، يجب على التسويق أن يقدم أرقاماً حقيقية.
ويضيف: «الانطباعات والنقرات لم تعد كافية. المطلوب اليوم هو إثبات الأثر عبر جميع مراحل رحلة العميل: الوعي، والتفكير، والتحويل، والاحتفاظ باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي».
ويرى أفضل أن هذا التحول يفتح الباب أمام وظائف جديدة كلياً في عالم التسويق الحديث، مثل مهندس الأوامر التفاعلية (Prompt Engineer)، ومدرب النماذج اللغوية، وكاتب المحتوى المحسّن للنماذج الذكية، ومهندس التوطين الثقافي.
ويعلّق قائلاً: «النموذج التقليدي للوكالات الإعلانية لم يعد صالحاً. نحتاج اليوم إلى فرق هجينة تجمع بين فهم التقنية والسلوك المحلي وبناء السرد القصصي في غرفة واحدة».
الثقة والتنظيم... ركائز أساسية للتحول
رغم تسارع تبنّي الذكاء الاصطناعي في السعودية، فإن الجهات التنظيمية تولي أهمية كبرى للحوكمة، والخصوصية، وشفافية الخوارزميات.
وقد بدأت هيئة الحكومة الرقمية بالفعل في إصدار أطر وتنظيمات واضحة لضمان الاستخدام الآمن والمسؤول للذكاء الاصطناعي، تشمل توطين البيانات وتعزيز الشفافية في التعاملات الرقمية.
ويشير وسيم أفضل إلى أن الثقة أصبحت اليوم جزءاً من قيمة العلامة التجارية، موضحاً: «المستهلك يريد أن يعرف كيف تُستخدم بياناته، وما هي أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تتعامل معها العلامة التجارية، وهل يتم التلاعب بتجاربه عبر خوارزميات غير مفهومة».
ويتابع قائلاً: «هذه ليست مسألة تقنية فحسب، بل مسؤولية قيادية. على المسوّقين العمل جنباً إلى جنب مع فرق الامتثال والتقنية والخبراء القانونيين لضمان ألا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى نقطة ضعف».
السعودية تتقدم بالسرعة والسيادة
على عكس بعض الأسواق الغربية التي تواجه بطئاً في التنظيم أو تشتتاً في التنفيذ، تتميز السعودية بسرعة القرار وتكامل الرؤية. يؤكد وسيم أفضل أن «السعودية لا تلحق بالركب، بل تتقدمه. فالسرعة هنا غير مسبوقة، والتعليم والبنية التحتية والمبادرات كلها تتحرك بتناسق يسمح بتسريع التعلم والتنفيذ».
وبالنسبة للمسوّقين، تعني هذه الديناميكية أن المرونة والتكيّف لم يعودا خيارين بل ضرورة. فدورات الحملات التقليدية ستصبح أقصر، وآليات التفاعل ستعمل في الزمن الحقيقي، والاستراتيجيات ستحتاج إلى تطوير شهري مستمر بدلاً من المراجعة السنوية.
ويختم وسيم أفضل حديثه لـ«الشرق الأوسط» متسائلاً: «ليس علينا معرفة ما الذي يجب أن يطرحه المسوّق اليوم وما الأدوات التي نستخدمها بل: كيف نظل مرئيين وفاعلين في اقتصاد تقوده النماذج اللغوية؟».




