لماذا نجح التنوير الأوروبي وفشل العربي؟

الفكر الإسلامي ما بعد أركون لن يكون هو ذاته قبله

داريوس شايغان
داريوس شايغان
TT

لماذا نجح التنوير الأوروبي وفشل العربي؟

داريوس شايغان
داريوس شايغان

لقد أمضيت وقتاً طويلاً في شرح المصطلحات الأجنبية وتعريبها في أثناء نقل مؤلفات محمد أركون إلى اللغة العربية. كما أجبرني ذلك على اشتقاق عديد من المصطلحات والتراكيب اللغوية الجديدة. وهذه من فوائد ترجمة أركون التي لا يستهان بها. نعم لقد اضطررت إلى اشتقاق عشرات بل مئات المصطلحات. وأعتقد شخصياً أنه إذا ما نجح مشروع الترجمة بالمعنى الواسع للكلمة (وليس فقط ترجمة أركون) فإننا سوف نتوصل إلى لغة عربية حداثية جديدة أكثر ديناميكية ومرونة وقدرة على التعبير عن أعوص النظريات العلمية والفلسفية. وبالتالي «فاللغة العربية ما بعد الترجمة» لن تكون هي تماماً «اللغة العربية ما قبل الترجمة». عندما ننقل كل الفتوحات العلمية والفلسفية التنويرية إلى اللغة العربية فإننا سنتوصل حتماً إلى لغة عربية حديثة، وسوف ننقذ لغة الضاد. كل النهضات الكبرى قامت على أكتاف الترجمات الكبرى. انظروا إلى اليابان، أكبر بلد مترجِم في العالم والأكثر انفتاحاً على الحداثة الغربية، ومع ذلك لم تفقد اليابان أصالتها ولا شخصيتها التاريخية العميقة. الانفتاح على الآخرين لا يعني الذوبان فيهم، وإنما يعني الاستفادة من أفضل ما أعطوه للبشرية وتوظيفه في خدمة الثقافة المحلية أو الوطنية. إنه يعني تبني إيجابيات الحداثة الغربية وطرح سلبياتها. والآن دعونا نطرح هذا السؤال:

لماذا نربط بين أركون والتنوير؟ لأنه طبَّق على تراثنا العربي الإسلامي أحدث المناهج التي كانت قد طُبِّقت من قبل على التراث المسيحي في أوروبا فنوَّرته وجدَّدته إلى أقصى حد ممكن، بل حررته من تراكماته وحشوياته وظلامياته القروسطية. وقد أدى ذلك إلى تسليط إضاءات ساطعة على النص الديني التراثي لم يسبق لها مثيل من قبل. كل المثقفين العرب فشلوا في تحقيق هذه المهمة ما عدا أركون. لقد جدَّد فهمنا لتراثنا الإسلامي العريق بشكل غير مسبوق. وهنا تكمن أهميته وعظمته. وهذا ما سيتبقى منه على مدار الأجيال. الفكر الإسلامي ما بعد أركون لن يكون هو ذاته الفكر الإسلامي ما قبل أركون. بعد تطبيق كل هذه المناهج التاريخية والفلسفية الحديثة على تراثنا الكبير يخرج أركون برؤية جديدة كلياً وناصعة عن تراث الإسلام العظيم. ولكن بما أننا منصهرون منذ نعومة أظفارنا في الرؤية القروسطية التقليدية القديمة للمشايخ فإننا نجد صعوبة بالغة في فهم هذه النظرة الجديدة التي يبلورها صاحب كتاب «نقد العقل الإسلامي الأصولي». فهو يقدم رؤية حداثية أنوارية وتحريرية عن تراثنا العظيم، ولا يكتفي بتكرار الرؤية التقليدية التراثية المتحجرة والمجترة على مدار القرون. وهي رؤية ظلامية قروسطية وصلت بنا أخيراً إلى الجدار المسدود. بل أدخلتنا في صدام مدمِّر مع العالم كله. نستنتج من كل ذلك ما يلي: لا خلاص من دون انتصار التفسير الأنواري الجديد للدين على التفسير الظلامي القديم الذي لم يعد صالحاً لهذا العصر.

طه حسين

عندما يكتب أركون فإنه يفكر دائماً بطريقة مقارنة. معظم الموضوعات، إن لم يكن كلها، يتناولها من الزاوية العربية الإسلامية والزاوية الأوروبية المسيحية. ودائماً يطرح السؤال نفسه: لماذا نجحت النهضة الأوروبية وفشلت النهضة العربية أو الإسلامية؟ لماذا نجح التنوير الأوروبي وفشل التنوير العربي الذي سبقه إلى الوجود بستة قرون؟ ثم بشكل أخص: لماذا كفَّر فقهاؤنا الفلسفة في حين أنها انتعشت عند الأوروبيين كل الانتعاش؟ لا ريب في أنهم كانوا يكفِّرونها طيلة العصور الوسطى مثلنا وأكثر ولكنهم تخلوا عن ذلك بدءاً من ديكارت بل حتى قبل ذلك. هل تعتقدون أنه لولا تكفير الفلسفة والفلاسفة كانت الحركات الأصولية من إخوانية وخمينية ستهيمن على الساحة منذ انتصار الخميني عام 1979، بل حتى منذ تأسيس حركة الإخوان المسلمين عام 1928؟ لماذا انتصر حسن البنا وسيد قطب والقرضاوي على طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وبقية الكواكب المشعَّة للثقافة العربية؟ أقصد؛ لماذا انتصروا في الشارع وليس على مستوى الثقافة الحقيقية والنخبة المثقفة؛ فهنا لا وجود لهم؟ ثم لماذا انتصر الخميني على داريوش شايغان وعبد الكريم سورش وبقية مثقفي إيران الكبار؟ أقصد؛ لماذا اكتسح الخميني الشارع الإيراني بكل هذه السهولة؟ ولكن إلى حين... التاريخ لم يقل كلمته الأخيرة بعد.

ينبغي العلم أن أركون بصفته أستاذاً عريقاً في السوربون يعرف من الداخل كيف تشكلت الحداثة الأوروبية. لقد كان مطلعاً بشكل عميق على مسيرة الفكر الأوروبي عبر تاريخه الطويل وعلى مسيرة الفكر العربي الإسلامي عبر تاريخه الطويل أيضاً. ولذلك فهو يعرف كيفية المقارنة بشكل دقيق بين كلا المسارين، ولماذا توقف هذا وأقلع ذاك... كما يعرف كيف يشخص الانسدادات التاريخية والمآزق الحالية التي يعاني منها العرب والمسلمون عموماً. من هنا عنوان كتابه الشهير: «لأجل الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة»: أي من أجل الخروج من الانغلاقات الطائفية والمذهبية التي تنفجر الآن في وجوهنا انفجاراً وتكاد تمزِّق وحدتنا الوطنية تمزيقاً بفعل الفظائع الرهيبة التي ترتكبها فصائل التعصب والتطرف. ثم نفهم من كلامه أن الغرب انتصر على أصوليته الظلامية وانقساماته الطائفية وحروبه الأهلية بفضل انتصار لاهوت التنوير على اللاهوت المسيحي التكفيري القديم. أما نحن فلا نزال نتخبط في معمعة المعركة ونحترق بحر نارها. هنا يكمن التفاوت التاريخي بين العرب والغرب.

محمد أركون

يرى أركون أننا لا يمكن أن نفهم التراث الإسلامي بشكل صحيح إذا لم نقارنه بالتراثات الدينية الأخرى التي سبقته خصوصاً التراثين اليهودي والمسيحي. فعلى الرغم من كل الاختلافات الكائنة بينها فإنها تنتمي جميعاً إلى أرومة واحدة هي ما يدعوه العلماء: التراث الإبراهيمي التوحيدي. ولطالما دعا أركون الأقطار العربية إلى فتح أقسام لتدريس تاريخ الأديان المقارنة في جامعاتها من أجل فهم أوجه التشابه والاختلاف بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة الكبرى. فلكي نفهم أنفسنا جيداً ينبغي أن نفهم غيرنا. بمعنى آخر: سوف نفهم ديننا وتراثنا بشكل أفضل إذا ما قارنّاه بالأديان الإبراهيمية الأخرى واطَّلعنا عليها وعلى تجربتها التاريخية. نقول ذلك خصوصاً أن اليهود والمسيحيين الأوروبيين مرّوا بمرحلة الغربلة التنويرية بدءاً من القرن الثامن عشر، في حين أننا لم نمر بها نحن بعد. وهنا تكمن المشكلة بالضبط. ولكن المصيبة هي أن الإخوان المسلمين والخمينيين وبقية الظلاميين يعرقلون هذا الانفتاح ويقفون في وجهه بكل قوة لأنه يهدد مشروعيتهم ويكشف عن عيوبهم ونواقصهم. إنه يهدد مفهومهم القروسطي القديم للدين. لتوضيح ذلك سوف أضرب المثل التالي: عندما أنشأت الإمارات العربية المتحدة «بيت العائلة الإبراهيمية» على أرض جزيرة السعديات في أبوظبي أشاعوا أنها تريد تذويب الإسلام في دين غريب عجيب ما أنزل الله به من سلطان. وهذا غباء ما بعده غباء. هذا إن لم يكن تعبيراً عن سوء نية ومحاولة تشويش متعمدة ومقصودة. فالإسلام سيظل هو الإسلام، والمسيحية ستظل هي المسيحية، وقُلْ الأمر ذاته عن اليهودية. الأديان الكبرى تبقى هي هي إلى أبد الدهر ولكن مفهومها يختلف. فالمفهوم التسامحي المتنور للعصور الحديثة للدين غير المفهوم التعصبي أو الظلامي التكفيري للقرون الوسطى. والإمارات إذ شيّدت كنيساً يهودياً إلى جانب كنيسة مسيحية ومسجد إسلامي، كانت تريد إقامة الحوار والتآخي بين الأديان الثلاثة لا الخلط بينها. ومعلوم أنه «لا سلام في العالم من دون سلام بين الأديان»، كما قال المفكر الشهير هانز كونغ. كانت الإمارات تريد أن تقدم صورة مشرقة عنَّا وأن تزيل تلك الصورة السوداء المرعبة التي لحقت بنا بعد ضربة «11 سبتمبر (أيلول)» الإجرامية الكبرى وما تلتها من تفجيرات وفظاعات في شتى أنحاء العالم. وقد قدمت بذلك أكبر خدمة للعرب والمسلمين. ولكن بدلاً من أن يشكروها راحوا يهاجمونها. يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!

مشكلة الإخوان والخمينيين هي أنهم يعتقدون أن مفهومهم الرجعي المتخلف للإسلام سوف يستمر إلى أبد الآبدين. ولكنهم واهمون. فحتى لو كانوا لا يزالون يحظون ببعض الشعبية في الشارع العربي أو الإيراني أو التركي بسبب جهل الجماهير وفقرها وأميَّتها إلا أنهم فاشلون في نهاية المطاف ومهزومون لسببين أساسيين: الأول هو أنهم يمشون ضد حركة التاريخ وضد روح الأزمنة الحديثة وجوهرها، بل حتى ضد جوهر الإسلام الحنيف ذاته إذا ما فهمناه على حقيقته. ثم إن الجماهير سوف تستنير وتتعلم وتتقدم ولن تبقى جاهلة إلى الأبد. والثاني هو أنهم يجهلون أو يتجاهلون سماحة التراث الإسلامي العظيم والنزعة الإنسانية والفلسفية العميقة التي كان ينطوي عليها إبان العصر الذهبي، ولكن ليس إبان عصر الانحطاط. ومعلوم أن هذه الحركات الإخوانية والخمينية وسواها هي الوريث المباشر لعصور الانحطاط الطويلة التي لم نستطع التخلص من براثنها حتى الآن.


مقالات ذات صلة

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

ثقافة وفنون هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية.

ندى حطيط
ثقافة وفنون إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

يواصل الكاتب المسرحي والروائي ماجد الخطيب، في الجزء الثاني من «ملصقات بيروت»، سرد سيرته الشخصية في بيروت، المبتلية بالحرب،

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة

هاشم صالح

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».