لماذا نجح التنوير الأوروبي وفشل العربي؟

الفكر الإسلامي ما بعد أركون لن يكون هو ذاته قبله

داريوس شايغان
داريوس شايغان
TT

لماذا نجح التنوير الأوروبي وفشل العربي؟

داريوس شايغان
داريوس شايغان

لقد أمضيت وقتاً طويلاً في شرح المصطلحات الأجنبية وتعريبها في أثناء نقل مؤلفات محمد أركون إلى اللغة العربية. كما أجبرني ذلك على اشتقاق عديد من المصطلحات والتراكيب اللغوية الجديدة. وهذه من فوائد ترجمة أركون التي لا يستهان بها. نعم لقد اضطررت إلى اشتقاق عشرات بل مئات المصطلحات. وأعتقد شخصياً أنه إذا ما نجح مشروع الترجمة بالمعنى الواسع للكلمة (وليس فقط ترجمة أركون) فإننا سوف نتوصل إلى لغة عربية حداثية جديدة أكثر ديناميكية ومرونة وقدرة على التعبير عن أعوص النظريات العلمية والفلسفية. وبالتالي «فاللغة العربية ما بعد الترجمة» لن تكون هي تماماً «اللغة العربية ما قبل الترجمة». عندما ننقل كل الفتوحات العلمية والفلسفية التنويرية إلى اللغة العربية فإننا سنتوصل حتماً إلى لغة عربية حديثة، وسوف ننقذ لغة الضاد. كل النهضات الكبرى قامت على أكتاف الترجمات الكبرى. انظروا إلى اليابان، أكبر بلد مترجِم في العالم والأكثر انفتاحاً على الحداثة الغربية، ومع ذلك لم تفقد اليابان أصالتها ولا شخصيتها التاريخية العميقة. الانفتاح على الآخرين لا يعني الذوبان فيهم، وإنما يعني الاستفادة من أفضل ما أعطوه للبشرية وتوظيفه في خدمة الثقافة المحلية أو الوطنية. إنه يعني تبني إيجابيات الحداثة الغربية وطرح سلبياتها. والآن دعونا نطرح هذا السؤال:

لماذا نربط بين أركون والتنوير؟ لأنه طبَّق على تراثنا العربي الإسلامي أحدث المناهج التي كانت قد طُبِّقت من قبل على التراث المسيحي في أوروبا فنوَّرته وجدَّدته إلى أقصى حد ممكن، بل حررته من تراكماته وحشوياته وظلامياته القروسطية. وقد أدى ذلك إلى تسليط إضاءات ساطعة على النص الديني التراثي لم يسبق لها مثيل من قبل. كل المثقفين العرب فشلوا في تحقيق هذه المهمة ما عدا أركون. لقد جدَّد فهمنا لتراثنا الإسلامي العريق بشكل غير مسبوق. وهنا تكمن أهميته وعظمته. وهذا ما سيتبقى منه على مدار الأجيال. الفكر الإسلامي ما بعد أركون لن يكون هو ذاته الفكر الإسلامي ما قبل أركون. بعد تطبيق كل هذه المناهج التاريخية والفلسفية الحديثة على تراثنا الكبير يخرج أركون برؤية جديدة كلياً وناصعة عن تراث الإسلام العظيم. ولكن بما أننا منصهرون منذ نعومة أظفارنا في الرؤية القروسطية التقليدية القديمة للمشايخ فإننا نجد صعوبة بالغة في فهم هذه النظرة الجديدة التي يبلورها صاحب كتاب «نقد العقل الإسلامي الأصولي». فهو يقدم رؤية حداثية أنوارية وتحريرية عن تراثنا العظيم، ولا يكتفي بتكرار الرؤية التقليدية التراثية المتحجرة والمجترة على مدار القرون. وهي رؤية ظلامية قروسطية وصلت بنا أخيراً إلى الجدار المسدود. بل أدخلتنا في صدام مدمِّر مع العالم كله. نستنتج من كل ذلك ما يلي: لا خلاص من دون انتصار التفسير الأنواري الجديد للدين على التفسير الظلامي القديم الذي لم يعد صالحاً لهذا العصر.

طه حسين

عندما يكتب أركون فإنه يفكر دائماً بطريقة مقارنة. معظم الموضوعات، إن لم يكن كلها، يتناولها من الزاوية العربية الإسلامية والزاوية الأوروبية المسيحية. ودائماً يطرح السؤال نفسه: لماذا نجحت النهضة الأوروبية وفشلت النهضة العربية أو الإسلامية؟ لماذا نجح التنوير الأوروبي وفشل التنوير العربي الذي سبقه إلى الوجود بستة قرون؟ ثم بشكل أخص: لماذا كفَّر فقهاؤنا الفلسفة في حين أنها انتعشت عند الأوروبيين كل الانتعاش؟ لا ريب في أنهم كانوا يكفِّرونها طيلة العصور الوسطى مثلنا وأكثر ولكنهم تخلوا عن ذلك بدءاً من ديكارت بل حتى قبل ذلك. هل تعتقدون أنه لولا تكفير الفلسفة والفلاسفة كانت الحركات الأصولية من إخوانية وخمينية ستهيمن على الساحة منذ انتصار الخميني عام 1979، بل حتى منذ تأسيس حركة الإخوان المسلمين عام 1928؟ لماذا انتصر حسن البنا وسيد قطب والقرضاوي على طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وبقية الكواكب المشعَّة للثقافة العربية؟ أقصد؛ لماذا انتصروا في الشارع وليس على مستوى الثقافة الحقيقية والنخبة المثقفة؛ فهنا لا وجود لهم؟ ثم لماذا انتصر الخميني على داريوش شايغان وعبد الكريم سورش وبقية مثقفي إيران الكبار؟ أقصد؛ لماذا اكتسح الخميني الشارع الإيراني بكل هذه السهولة؟ ولكن إلى حين... التاريخ لم يقل كلمته الأخيرة بعد.

ينبغي العلم أن أركون بصفته أستاذاً عريقاً في السوربون يعرف من الداخل كيف تشكلت الحداثة الأوروبية. لقد كان مطلعاً بشكل عميق على مسيرة الفكر الأوروبي عبر تاريخه الطويل وعلى مسيرة الفكر العربي الإسلامي عبر تاريخه الطويل أيضاً. ولذلك فهو يعرف كيفية المقارنة بشكل دقيق بين كلا المسارين، ولماذا توقف هذا وأقلع ذاك... كما يعرف كيف يشخص الانسدادات التاريخية والمآزق الحالية التي يعاني منها العرب والمسلمون عموماً. من هنا عنوان كتابه الشهير: «لأجل الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة»: أي من أجل الخروج من الانغلاقات الطائفية والمذهبية التي تنفجر الآن في وجوهنا انفجاراً وتكاد تمزِّق وحدتنا الوطنية تمزيقاً بفعل الفظائع الرهيبة التي ترتكبها فصائل التعصب والتطرف. ثم نفهم من كلامه أن الغرب انتصر على أصوليته الظلامية وانقساماته الطائفية وحروبه الأهلية بفضل انتصار لاهوت التنوير على اللاهوت المسيحي التكفيري القديم. أما نحن فلا نزال نتخبط في معمعة المعركة ونحترق بحر نارها. هنا يكمن التفاوت التاريخي بين العرب والغرب.

محمد أركون

يرى أركون أننا لا يمكن أن نفهم التراث الإسلامي بشكل صحيح إذا لم نقارنه بالتراثات الدينية الأخرى التي سبقته خصوصاً التراثين اليهودي والمسيحي. فعلى الرغم من كل الاختلافات الكائنة بينها فإنها تنتمي جميعاً إلى أرومة واحدة هي ما يدعوه العلماء: التراث الإبراهيمي التوحيدي. ولطالما دعا أركون الأقطار العربية إلى فتح أقسام لتدريس تاريخ الأديان المقارنة في جامعاتها من أجل فهم أوجه التشابه والاختلاف بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة الكبرى. فلكي نفهم أنفسنا جيداً ينبغي أن نفهم غيرنا. بمعنى آخر: سوف نفهم ديننا وتراثنا بشكل أفضل إذا ما قارنّاه بالأديان الإبراهيمية الأخرى واطَّلعنا عليها وعلى تجربتها التاريخية. نقول ذلك خصوصاً أن اليهود والمسيحيين الأوروبيين مرّوا بمرحلة الغربلة التنويرية بدءاً من القرن الثامن عشر، في حين أننا لم نمر بها نحن بعد. وهنا تكمن المشكلة بالضبط. ولكن المصيبة هي أن الإخوان المسلمين والخمينيين وبقية الظلاميين يعرقلون هذا الانفتاح ويقفون في وجهه بكل قوة لأنه يهدد مشروعيتهم ويكشف عن عيوبهم ونواقصهم. إنه يهدد مفهومهم القروسطي القديم للدين. لتوضيح ذلك سوف أضرب المثل التالي: عندما أنشأت الإمارات العربية المتحدة «بيت العائلة الإبراهيمية» على أرض جزيرة السعديات في أبوظبي أشاعوا أنها تريد تذويب الإسلام في دين غريب عجيب ما أنزل الله به من سلطان. وهذا غباء ما بعده غباء. هذا إن لم يكن تعبيراً عن سوء نية ومحاولة تشويش متعمدة ومقصودة. فالإسلام سيظل هو الإسلام، والمسيحية ستظل هي المسيحية، وقُلْ الأمر ذاته عن اليهودية. الأديان الكبرى تبقى هي هي إلى أبد الدهر ولكن مفهومها يختلف. فالمفهوم التسامحي المتنور للعصور الحديثة للدين غير المفهوم التعصبي أو الظلامي التكفيري للقرون الوسطى. والإمارات إذ شيّدت كنيساً يهودياً إلى جانب كنيسة مسيحية ومسجد إسلامي، كانت تريد إقامة الحوار والتآخي بين الأديان الثلاثة لا الخلط بينها. ومعلوم أنه «لا سلام في العالم من دون سلام بين الأديان»، كما قال المفكر الشهير هانز كونغ. كانت الإمارات تريد أن تقدم صورة مشرقة عنَّا وأن تزيل تلك الصورة السوداء المرعبة التي لحقت بنا بعد ضربة «11 سبتمبر (أيلول)» الإجرامية الكبرى وما تلتها من تفجيرات وفظاعات في شتى أنحاء العالم. وقد قدمت بذلك أكبر خدمة للعرب والمسلمين. ولكن بدلاً من أن يشكروها راحوا يهاجمونها. يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!

مشكلة الإخوان والخمينيين هي أنهم يعتقدون أن مفهومهم الرجعي المتخلف للإسلام سوف يستمر إلى أبد الآبدين. ولكنهم واهمون. فحتى لو كانوا لا يزالون يحظون ببعض الشعبية في الشارع العربي أو الإيراني أو التركي بسبب جهل الجماهير وفقرها وأميَّتها إلا أنهم فاشلون في نهاية المطاف ومهزومون لسببين أساسيين: الأول هو أنهم يمشون ضد حركة التاريخ وضد روح الأزمنة الحديثة وجوهرها، بل حتى ضد جوهر الإسلام الحنيف ذاته إذا ما فهمناه على حقيقته. ثم إن الجماهير سوف تستنير وتتعلم وتتقدم ولن تبقى جاهلة إلى الأبد. والثاني هو أنهم يجهلون أو يتجاهلون سماحة التراث الإسلامي العظيم والنزعة الإنسانية والفلسفية العميقة التي كان ينطوي عليها إبان العصر الذهبي، ولكن ليس إبان عصر الانحطاط. ومعلوم أن هذه الحركات الإخوانية والخمينية وسواها هي الوريث المباشر لعصور الانحطاط الطويلة التي لم نستطع التخلص من براثنها حتى الآن.


مقالات ذات صلة

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

ثقافة وفنون هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً.

ميرزا الخويلدي (الدمام)
ثقافة وفنون «ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)
كتب هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التفاعل والتبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً، ومسكوناً بهاجس الهويات ونزاعاتها.

ومع أن الكُرد شعبٌ يسكن مناطق متفرقة في عدة دول، فإنهم حافظوا على تراثهم الأدبي عبر القرون، وعلى لغتهم التي يتحدث بها أكثر من 30 مليون شخص. وتمتلك هذه اللغة تاريخاً أدبياً غنياً، وتُعد جسراً طبيعياً بين الثقافات في المنطقة.

لقد طُرحت مشاريع عدة لتقريب الثقافتين العربية والكردية؛ لكنها أُجهضت، فقد عملت السياسة كعنصر تخريب للتواصل الثقافي؛ بل أسهمت مشاريع التهميش من جانب والانغلاق من جانب آخر في توسيع الشقة حتى بين أبناء البلد الواحد.

إدراكاً لهذا الواقع المؤسف، أخذت دار «رامينا» التي يديرها الكاتب والروائي الكردي السوري، المقيم في بريطانيا، هيثم حسين، على عاتقها إصدار أو ترجمة عدد من الكتب الكردية إلى اللغة العربية، أو ترجمة الكتب العربية إلى الكردية، في مسعى يهدف «لبناء الجسور بين شعوب المنطقة، وبناء قيم التسامح ونبذ الكراهية والتطرف والعنف، في سياق أدبي إنساني رحب»، كما تقول الدار في نشرة التعريف عن نفسها، على الموقع الإلكتروني. وتضيف أنها تركز «على ثقافات الأقليات والمجتمعات المهمشة في جميع أنحاء العالم، وذلك ضمن الفضاء الثقافي والحضاري والإنساني الأرحب».

الترجمة كجسر للتواصل

يقول صاحب الدار لـ«الشرق الأوسط»: إن هذا المشروع يستهدف إنشاء منطقة تواصل حقيقي: «نحن نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له، وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه. إن تجربة دار النشر (رامينا) هي محاولة لاستعادة ما فقدته الجغرافيا من قدرة على جمع البشر. لقد بدأتُ في تأسيس الدار حين شعرت بأن العلاقة بين العربية والكردية تحتاج إلى عناية تُنقذها من التباعد التاريخي، وبأن الأدب قادر على أداء هذا الدور إذا أُتيح للنصوص أن تنتقل بحرية بين الضفتين».

انطلقت «رامينا» إلى الترجمة بوصفها عملاً يتجاوز التقنية، ولم تبحث عن «نقل الكلمات»، إنما عن نقل التجارب والمخيلات والوجدان، كما يقول مؤسسها. وكانت القفزة الأهم حين عملت -بدعم من مبادرة «ترجم» وبالتعاون مع وكالة «كلمات»- على مشروع ترجمة كتب عدة من الإبداعات السعودية إلى الكردية، وهو حدث يتحقق للمرة الأولى في تاريخ الأدبين العربي والكردي.

لقد قدَّمت «رامينا» للقارئ الكردي نصوصاً عربية خليجية وسورية وعُمانية وبحرينية، مترجمة إلى لغته الأم. وكذلك قدَّمت للقارئ العربي نصوصاً كردية بأصوات متنوعة تمثِّل جغرافيات كردية متعددة، وأعادت فتح نافذة على الأدب السرياني ضمن سلسلة النشر السريانية التي خصصتها لإحياء هذا الإرث الموشَّى بالروحانية والشعر، وهو من أعمق طبقات تاريخ المنطقة، كما أطلقت شراكات ترجمة إلى الإنجليزية، لحاجة الأدب الكردي والعربي إلى هذا الأفق العالمي كي لا يبقى أسير لغته أو مكانه.

من الأعمال التي شكَّلت نقطة تحول في هذا المشروع: سلسلة الإبداعات السعودية المترجمة إلى الكردية؛ وهو مشروع غير مسبوق فتح باباً واسعاً لفهم جديد بين القارئ الكردي والمشهد السعودي، فقد نقلت «رامينا» للقارئ الكردي أعمالاً لأدباء ونقاد سعوديين، منهم: سعد البازعي، ويوسف المحيميد، وأميمة الخميس، وأمل الفاران، وطارق الجارد، وعزيز محمد، وغيرهم.

والثاني، مشروع الترجمات العُمانية والبحرينية، مثل رواية «بدون» ليونس الأخزمي و«الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي؛ و«دخان الورد» لأحمد الحجيري، وهي نصوص أدخلت القارئ الكردي إلى سرديات لم يكن يصل إليها.

والثالث، مشروع الترجمة من الكردية إلى العربية، الذي قدَّم للعربي أصواتاً كردية ذات حساسية عالية، تنقل الهويات المتعددة والمعاناة المتراكمة في كردستان سوريا والعراق وتركيا وإيران؛ حيث تُرجمت إلى العربية عشرات الأعمال الكردية لكُتَّاب كُرد، مثل: عبد القادر سعيد، وسيد أحمد حملاو، وصلاح جلال، وعمر سيد، وكوران صباح... وغيرهم.

وأما الرابع فهو مشروع النشر السرياني، الذي يعيد الاعتبار لطبقة ثقافية مهمَّشة، ولغة أصيلة من تراث منطقتنا، ويمنحها موضعها الطبيعي داخل المشهد الأدبي.

والخامس، إطلاق الترجمات إلى اللغة الإنجليزية.

يقول هيثم حسين إنه «بهذه الحركة المتبادلة، صار مشروع الترجمة في (رامينا) مشروعاً لإعادة النسج بين لغتين، وتأسيس حوار ثقافي طال غيابه».

«نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه»

هيثم حسين

التراث الأدبي المشترك

وردّاً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عما يمكن أن يضيفه هذا المشروع إلى التراث الأدبي المشترك، يقول هيثم حسين إن مشروع التواصل الأدبي الذي تقوم به «رامينا»، يضيف ما يشبه «الخيط المفقود»، فالتراث العربي والكردي والسرياني ظلَّ متجاوراً دون أن يتشابك بما يكفي.

ويضيف: «الآن، حين يقرأ كردي نصاً سعودياً بلُغته، أو يقرأ عربي رواية كردية، أو قارئ إنجليزي عملاً مترجماً من هذه البيئات، تظهر طبقة جديدة من التراث؛ طبقة عابرة للغات والانتماءات، ترى الإنسان قبل كل شيء. نحن لا ندَّعي أننا بصدد صنع أو تصدير تراث بديل، إنما نحاول أن نعيد توزيع الضوء على تراث موجود، ولكنه كان منسياً في الظلال والهوامش».

أما الثيمات التي تتكرر في إصدارات «رامينا»، فهي تكاد تتقاطع حول هوية تبحث عن مكانها في عالم مضطرب: الذاكرة، بصفتها محاولة لمقاومة النسيان. الكتابات السيرية الذاتية والغيرية. المنفى، باعتباره إعادة تكوين للذات. اللغة، بما تحمله من فجيعة وحماية في آن واحد. الهوامش التي تتحول إلى مركز حين يُكتب عنها بصدق. الأمكنة المحروقة والقرى المطموسة والطفولة المهددة بالمحو. وهذه الثيمات امتداد لتجارب الكُتاب أنفسهم: كرداً، وعرباً، وسرياناً، ومهاجرين.

وعن الحركة الأدبية الكردية في سوريا، يقول هيثم حسين: «إن القوة الأدبية الكردية في سوريا نابعة من صدق التجربة وعمق الجرح. هناك كُتَّاب يمتلكون لغة عربية متماسكة، وأخرى كردية راسخة، ما يجعل أصواتهم قادرة على الوصول إلى جمهورَين. من خلال الترجمة والتوزيع في كردستان العراق، ومن خلال النشر في لندن، أصبح لهذه الأصوات مسار يصل بها إلى مَن لم يكن يسمعها. أرى أن هذا الامتداد عابر للحدود، وأن الكتابة الكردية السورية مرشَّحة لأن تكون أحد أهم أصوات الأدب القادم من المنطقة».

ورداً على سؤال بشأن كيفية تقديم التراث الكردي والهوية الكردية للآخرين، قال مؤسس «رامينا»: «إن الدار قدَّمت التراث عبر نصوصه؛ لا عبر خطاب خارجي عنه. فحين يقرأ قارئ عربي أو إنجليزي أو كردي نصاً مترجماً أو أصلياً، يكتشف مفردات الهوية الكردية كما تعيش في الحياة اليومية: في الأغاني، في اللغة، في القرى، في القصص العائلية، وفي تفاصيل الفقد والحنين. بهذا يصبح التراث الكردي جزءاً من المشهد الثقافي العام، لا معزولاً ولا مؤطَّراً. كما أن النصوص الأدبية تثبت العناصر المشتركة بين الثقافات؛ حيث تكشف النصوص أن الألم واحد، والحنين واحد، وأسئلة الإنسان واحدة. وتُظهر أن الاختلافات اللغوية لا تزيل جوهر التجربة الإنسانية؛ بل توسِّعها. حين يتجاور الأدب الكردي والعربي والسرياني والإنجليزي في سلسلة نشر واحدة، تتكوَّن منطقة مشتركة؛ بلا حدود، يتقاطع فيها الإنسان مع الإنسان. وهذا هو جوهر المشروع الذي أردتُ لـ(رامينا) أن تكون منصته».


«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة
TT

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية تتراوح بين المدينة والقرية على خلفية عوامل من القهر والإحباط التي تجعل من حواء لقمة سائغة في فم وحش الوحدة والعزلة والشجن والحنين.

تعتمد المجموعة تقنيات سردية تستكشف كذلك قضايا الوجود والهوية والاختيارات الصعبة والأحزان العميقة عبر أعمال تمزج بين أشكال مختلفة من السرد مثل السيناريو والمونتاج والفلاش باك والمشهدية البصرية بهدف تسجيل لحظات نسائية خاصة، عبر تجربة أدبية تجمع بين العمق الإنساني والتجريب الفني.

تتنوع النماذج التي تدعو للتأمل في المجموعة القصصية من الخالة التي تجلس وقت الغروب تمضغ التبغ وهى تزعم أن الموتى يبعثون برسائل عبرها كوسيطة، إلى المصابات بالاكتئاب السريري، وليس انتهاء بالأديبة الشابة التي تواجه أديباً شهيراً اعتاد السخرية من الكتابات النسوية.

تميزت عناوين المجموعة بوقع صادم يعبر عن فداحة ما تتعرض له المرأة في المجتمعات الشرقية، بحسب وجهة نظر المؤلفة، مثل «السقوط في نفق مظلم»، «نزع رحم»، «يوميات امرأة تشرب خل التفاح»، «الناس في بلاد الأفيون»، «البكاء على حافة اليقظة».

ولم يكن قيام هناء متولي بإهداء العمل إلى الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ماتت منتحرة عام 1963 عن 30 عاماً، فعلاً عشوائياً، حيث سبق انتحار الأديبة الشهيرة سنوات طويلة من الاضطرابات النفسية والاكتئاب السريري وهو ما يبدو ملمحاً أساسياً من ملامح المجموعة.

وجاء في الإهداء:

«إلى سيلفيا بلاث... التي عرفتْ جيداً كيف يبدو الألم حين يصبح مألوفاً، أستمعُ إلى صدى كلماتك بين همسات الوحدة وأصوات الكتابة، كأنك تركتِ لي خريطة في دفاترك، تشير إلى تلك الأماكن العميقة داخل النفس حيث تختبئ الظلال خلف الضوء».

ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ:

«شروق خجل للشمس بعد ليلة ممطرة، تهرول سناء في عباءتها الصوفية وشالها القطني الطويل، تقترب من البيت المطل على الترعة وحيداً ورغم أنه قد شُّيد من طوب لبن ومعرش بسقيفة من القش فإنه يشع دفئاً في وجه الزمن. تنادي بصوت مترقب: يا خالة، فتطل عليها المرأة قصيرة القامة ذات الجسد المنكمش بعينين يقظتين لتكرر على مسامعها جملتها المعتادة: لا رسائل لك.

تعاود الهرولة وقد أحكمت الشال حول كتفيها العريضتين وقوست قامتها الطويلة، يهاجمها البرد بقسوة ليزيد جفاف قلبها. تعود سناء إلى بيتها... تتكور في فراشها... تحاذر أن تلمس جسد زوجها السابح في النوم، لئلا توقظه برودتها فينكشف سرها.

في ليلة حناء شقيقتها، ارتدت سناء فستاناً بنفسجياً من القطيفة وحجاباً زهرياً خفيفاً، كانت تعجن الحناء وتراقب الرقص والتصفيق بعينين شاردتين، تفاجئها موجة جديدة من حزن كثيف يتلبس روحها ويقبض على قلبها بقسوة. تهرب وتحبس نفسها في مخزن الغلال لتغرق في بكاء لاينتهي. يرغمها والدها على تناول قطعة صغيرة من حلوى العروس وبمجرد ابتلاعها تتقيأ».


«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد
TT

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

جاء الديوان في 176 صفحة، مقسّمة إلى ثمانية فصول: «ما قبلَ»، ثم: «الصَّوت»، «الصُّورة»، «الرَّائحة»، «اللَّمس»، «الطَّعْم»، و«الألم»، «ما بعدَ».

جاء في كلمة الناشر أن «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة» يبدأ من لحظة التّأسيس الأسطوريّة الأولى؛ «المُصادفة» التي جعلتْ «الغابة» تلتهم «جَبلاً». كأنّه بالأحرى «سِفر تكوين» مكثَّف لـ«العلائق» بين الذَّكر والأنثى، التي تتجاوز الثنائيّات التقليديّة للقوّة والضعف، منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا.

بهذا المعنى، فإن «المُعْجَم» الذي يبنيه عماد فؤاد هنا مشدودٌ بين قُطبي الكمال والنُّقصان، المرأة والرّجل، الإيروتيكيّة والصوفيّة، ما قبلَ.. وما بعدَ. لكنّه ليس بسيطاً كما يبدو من الوهلة الأولى، إنّه كون شاسع ومركّب. عالم معقّد تتعدّد أبعاده وتتراكم طبقاته الفلسفيّة والدّينية صفحة بعد صفحة، وقصيدة بعد أخرى... لذلك: تأبى لغة عماد فؤاد الاكتفاء بأداء مهمّتها الرئيسية، فتكون مجرَّد لغة هدفها «الإيصال» فحسب. لا... اللّغة هنا مثل شاعِرها؛ طامعة في أكثر من الممكن، في أكثر حتّى ممّا يستطيع الشِّعر أن يستخرجه من اللّغة نفسها، هذه ليست قصائد عن «الحواسِّ النَّاقصة» كما يدَّعي العنوان، بل قصائد كُتبتْ بـ«الحواسِّ النَّاقصة»، ستجد حروفاً لا تُرى.. بل تُلمَسْ. وكلماتٍ لا تُقال.. بل تُشَمّ. وجُمَلاً لا تُنْطَق.. بل «تُسْتطْعم». وقصائد لا تُقرأ.. بل تخترق اللحم كأسنّة الخناجر.

يعتبر عماد فؤاد أحد شعراء جيل التسعينات المصري، ومن أعماله الشِّعرية: «تقاعد زير نساء عجوز»، و«بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم»، و«حرير»، و«عشر طُرق للتّنكيل بجثَّة» و«أشباحٌ جرّحتها الإضاءة».

ومن كتبه الأخرى، «ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ: الإصدار الثاني لأنطولوجيا النّص الشِّعري المصري الجديد»، وكان الإصدار الأول تحت عنوان «رعاة ظلال.. حارسو عزلات أيضاً»، و«على عينك يا تاجر، سوق الأدب العربي في الخارج... هوامش وملاحظات»، كما صدرت له مختارات شعرية بالفرنسية تحت عنوان «حفيف» (Bruissement) عام 2018.

من قصائد «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة»:

في البدْءِ كانت المُصادفةُ

كأنْ تُمْسِكَ طفلةٌ لاهيةٌ بالجبلِ في يدِهَا اليُمنى، وبالغابةِ في يدِهَا اليُسرى، وتمدَّ ذِراعيْها عن آخرهِمَا ناظرةً إلى أُمِّها في اعتدادٍ. فتنْهَرُها الأمُّ:

لماذا تُباعدين بينهُما؟

وتستغربُ الطِّفلةُ: «هذه صَحْراءُ.. وهذه غابةْ»!

المُصادفةُ وحْدها جعلتْ عينَ الأمِّ تنظرُ إلى الجَبَلِ، فتراهُ وحيداً، لا يُحِدُّهُ شَمالٌ أو جَنوبٌ، تُشرقُ الشَّمسُ فيعرفُ شرْقَهُ مِنْ غَرْبِهِ، لكن لا أحد علَّمَهُ ماذا يفعلُ كي لا يكونَ وحيداً.

علىٰ بُعْدِ نَظَرِه الكلِيْلِ، كان يرى نُقطةً خضراءَ فوقَها سُحُبٌ وأَبْخِرَةٌ وضَبابٌ، حينَ تُمْطرُ يعلوها قوسُ قُزَحٍ لامعٌ، لا تدْخلُ ألوانُهُ في عيْنيْهِ، إلَّا ويَرى دموعَهُ تَسيلُ على صُخُورِه، حتَّى أنَّها سمعتْهُ يتمتمُ مَرَّةً في نومِهِ:

«لو أنَّ جَبلاً.. ائْتَنَسَ بغابةْ»!

في البَدْءِ كانت المُصادفةُ

التي جعلتْ الطِّفلةَ تنظرُ بعيْنَيْها إلى الغابَةِ، فتجدُها مُكْتفيةً بذاتِها، مُدَوَّرةً ومَلْفُوفَةً وعندها ما يكفي مِن المَشاكِلِ والصِّراعاتِ الدَّاخليةِ، تنْهَبُها الحوافرُ والفُكُوكُ

قانونُها القوَّةُ وخَتْمُها الدَّمُ:

«فكيفَ يا ماما تَقْوى الغابةُ على حَمْلِ ظِلِّ جَبَلٍ مثل هذا؟».

لم تُجِبْ الأمُّ

وحدَها الغابةُ كانت تُفكِّرُ:

«نعم؛ ماذا لو أنَّ غابةً..

التهمتْ جَبَلاً؟».