بينما يتواصل غياب أي مؤشر على حدوث انفراجة في العلاقات المتوترة بين الجزائر وفرنسا، خاض عميد «مسجد باريس الكبير»، الجزائري شمس الدين حفيظ، خلال مقابلة تلفزيونية، في تفاصيل تكشف لأول مرة عن العلاقة الخاصة بين الرئيسين عبد المجيد تبون وإيمانويل ماكرون، في وقت يتهم فيه قطاعٌ من الطيف السياسي الفرنسي حفيظ بأنه «حوّل (مسجد باريس) إلى فرع تابع لسفارة الجزائر لدى فرنسا».

وتناول حفيظ في مقابلة حديثة مع القناة الجزائرية «وان تي في»، التي تبث برامجها عبر منصة رقمية، خفايا علاقة معقّدة لطالما طبعها الودّ بين الرئيسين الجزائري والفرنسي، وذلك من موقعه «شاهداً عليها» بحكم قربه منهما. وقدم رئيس أكبر مؤسسة دينية إسلامية في فرنسا «الأسباب العميقة التي أدّت إلى القطيعة بين تبون وماكرون»، وما ترتب عليها من تدهور غير مسبوق في العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وصلت إلى سحب السفيرين من العاصمتين، وتبادل طرد دبلوماسيين.
وقال حفيظ إن تبون «أظهر منذ توليه رئاسة الجزائر (نهاية 2019) رغبة واضحة في بناء علاقة شديدة البساطة والوضوح» مع فرنسا. وأكد أنه «كان يؤمن كثيراً بخطاب الرئيس ماكرون عن العلاقات الثنائية»، الذي بدوره كان يُصدر تصريحات تُظهر «مودة» تجاه نظيره الجزائري.
ووفق حفيظ فـ«عندما كنت أتحدث معه (ماكرون)، كان يقول لي: أخونا الكبير عبد المجيد تبون، ووصل به الأمر إلى حدّ البوح بلحظة شخصية حينما قال لي خلال لقاء معه: أنظر إليك وأفكر في أخي عبد المجيد تبون».
غير أن هذه العلاقة الثنائية، التي كانت تبدو مثالية، سرعان ما تلاشت تحت وطأة عدد من الأسباب. ووفق حفيظ، فإن القطيعة الحالية «لا يمكن اختزالها فقط في التصريح المثير للجدل من الرئيس ماكرون في يوليو (تموز) 2024 بشأن اعترافه بمغربية الصحراء، رغم أن هذا التصريح كان النقطة التي وضعت حداً نهائياً للعلاقة».
وأشار العميد إلى أن ماكرون «قدّم وعوداً كثيرة للرئيس الجزائري، لكنها لم تُنفذ»؛ مما أثار استياءً كبيراً لدى تبون، وفقه، لافتاً إلى أن «تراكم خيبات الأمل جعل الرئيس الجزائري يدرك أنه لم يعد بإمكانه فعل شيء مع الرئيس ماكرون».
المسمار الأخير في نعش العلاقات
جر غضب الجزائر من إعلان باريس اعترافها بمخطط الحكم الذاتي المغربي للصحراء معه مشكلات قديمة بين البلدين، مرتبطة بـ«الذاكرة» و«آلام الاستعمار»؛ منها مخلفات التجارب النووية في صحراء الجزائر، زيادة على مشكلات الهجرة النظامية، و«خطر المهاجرين السريين الجزائريين على الأمن القومي في فرنسا».

وتفاقمت الأزمة في أبريل (نيسان) الماضي، بعد سجن موظف قنصلي جزائري لدى فرنسا بتهمة خطف واحتجاز «يوتيوبر» جزائري معارض في باريس. وعُدّت الحادثة «المسمار الأخير في نعش العلاقات».
وشدد حفيظ في المقابلة الصحافية على «التداعيات الإنسانية لهذه الأزمة»، حيث قال إن الجزائريين المقيمين في فرنسا «ضحايا أضرار جانبية لمشكلة سياسية»، مشيراً إلى «ازدياد الموجات العنصرية، والتصريحات المعادية للجزائريين»؛ بسبب التوترات السياسية بين البلدين، موضحاً أن «هذا التصعيد انعكاس لتدهور أعمق لا يقتصر على المجال السياسي فقط، بل يطول العلاقات الإنسانية والمجتمعية بين الشعبين».

ودعا عميد المسجد إلى التهدئة، مؤكداً أن «التصريحات التي أدلى بها ماكرون في مطلع أغسطس (آب) الماضي لم تأتِ بأي نتيجة إيجابية، بل فاقمت الأزمة»، في إشارة إلى توجيهات مكتوبة إلى رئيس الوزراء السابق فرنسوا بايرو، طالبه فيها «بمزيد من الحزم والصرامة تجاه الجزائر»، خصوصاً على صعيد الهجرة والأمن.
ومن بين الإجراءات التي أمر بها ماكرون طلب بتعليق رسمي لـ«اتفاقية 2013»، التي كانت تُعفي حاملي جوازات السفر الجزائرية الدبلوماسية والخدمية من شرط الحصول على تأشيرة.
«فرع تابع للسفارة الجزائرية»
يُعرف عن «مسجد باريس الكبير» أنه يتبع الجزائر من حيث التمويل؛ إذ تُقدَّر موازنته السنوية بمليوني يورو، بينما يُسيَّر إدارياً وفق القوانين الفرنسية. كما أن الجزائر هي التي تختار عمادته وغالبية مسؤوليه، وغالباً ما يكون هؤلاء من أصول جزائرية.
ومنذ اندلاع الأزمة السياسية بين فرنسا والجزائر في صيف عام 2024، أصبح المسجد موضع انتقادات حادة من قِبل عدد من السياسيين ووسائل الإعلام الفرنسية، خصوصاً قناتي «بي إف إم تي في» و«سي نيوز».
وتستند هذه الهجمات إلى اتهامات بأن الجزائر «تستغل المسجد في صراعها السياسي مع باريس»، في ضوء التصريحات الإعلامية لعميده شمس الدين حفيظ، والبيانات التي تناولت تأثير الأزمة على الجالية الجزائرية في فرنسا.
وفي هذا السياق، وصف السفير الفرنسي السابق لدى الجزائر، كزافييه دريانكور، في مقال نشره بصحيفة «لوفيغارو»، عميد المسجد بأنه «يؤدي دور سفير غير رسمي للجزائر»، مشيراً إلى ارتباط تمويل المسجد وخلفية عميده بهذا التصور.

وقد عكس هذا التوتر موقفاً غير مسبوق، تمثل في مقاطعة وزير الداخلية الفرنسي «إفطار السفراء» السنوي الذي نظمه المسجد خلال شهر رمضان الماضي، احتجاجاً على ما عُدّت «علاقة مباشرة بين إدارة المسجد والحكومة الجزائرية».
كما طالت حفيظ انتقادات تتعلق بعدم مطالبته العلنية بالإفراج عن الكاتب الفرنسي - الجزائري بوعلام صنصال، المعتقل في الجزائر منذ 10 أشهر، الذي بات يُنظر إليه على أنه أحد رموز التوتر بين البلدين.
وفي مطلع عام 2025، قدّم النائب الفرنسي في البرلمان الأوروبي، فرنسوا كزافييه بيلامي، استجواباً مكتوباً إلى «المفوضية الأوروبية»، حذّر فيه من احتكار «مسجد باريس الكبير» منح شهادات «حلال» للمنتجات المصدّرة إلى الجزائر، مؤكداً أن هذه الأنشطة تحقق أرباحاً مالية كبيرة، وأنها قد تُستخدم أداة نفوذ سياسي. كما نبّه إلى أن هذا التمويل قد يشكل خطراً أمنياً في ظل التوترات القائمة بين باريس والجزائر.




