على إيقاع أزمات مُتراكمة لا تُفارق اللبنانيين، يبقى المسرح واحداً من المساحات النادرة بقدرتها على جَمْع الناس وإعادة طرح الأسئلة. ومع أنّ بيروت لطالما شكّلت المركز الأول للحياة الثقافية، فإنّ مدناً وبلدات أخرى بقيت غالباً على هامش هذا الحراك، تنتظر مبادرات تفتح أمامها مساحات أرحب على الفنّ. من هنا، تبدو ولادة مهرجان «صدى المسرح» في جبيل خطوة لإعادة توزيع الضوء، وكَسْر احتكار العاصمة للأنشطة، وإعادة إحياء فكرة أنّ الثقافة مُلك مشترك لا تُختَصر بأفق واحد. في مدينة تُعانق قلعتها البحر وتحتفظ بذاكرة التاريخ والناس، اختارت جمعية «مسرح الغد» أن تُطلق باكورة هذا المشروع، لتؤكد أنّ بإمكان المسرح إعادة وصل المجتمع بذاته.

تقول رئيسة الجمعية نجوى باسيل لـ«الشرق الأوسط»: «تعمّدنا إطلاق مهرجان مسرحيّ من جبيل. سمعتُ مراراً تذمّراً من غياب المسارح في المدينة ومن شعور بفراغ ثقافي. أردنا التحرُّك؛ لأنّ المسرح كلمة وموقف وإعادة نظر في قضايا المجتمع».
اختار المهرجان فضاء غير تقليدي للعروض، فحملت جدران معمل الحرير العائد لميتم الأرمن؛ هذا المبنى العريق الواقع بجوار البحر وتحت قلعة جبيل، أثراً من التاريخ الإنساني، مما أضاف بُعداً إلى التجربة المسرحية يتجاوز اللحظة الآنية. تروي باسيل: «شئنا مكاناً قريباً من المدينة القديمة، لكنّ العثور على مسرح مناسب لم يكن سهلاً. حين رحَّب الميتم بالفكرة ومنح فضاءه لنا، شعرنا أننا نعيد أيضاً إحياء مورد أثري ووضعه بين الأيدي. بعض الحضور كان ينتظر أن يسمع قصة المكان قبل مُشاهدة العرض. المكان نفسه أصبح جزءاً من الحكاية ومُكمِّلاً للنصوص التي تُعرض على خشبته».

يطمح المهرجان أن يُشكّل استمرارية لرحلة إحياء المسرح. باسيل متفائلة بدورته الأولى، وترى فيه نواة يمكن أن تتوسَّع لاحقاً لتستضيف عروضاً أجنبية أيضاً. لكنها تُشدّد على أنّ الفكرة لا تقتصر على العروض: «نُحضّر لدورات تدريبية وورشات عمل، فنفتح المجال أمام مسرح تفاعلي نُتيحه للمجتمع الجبيلي. لا نريد أن نُسقط الحدث على الجمهور مثل إقحام. نريده جزءاً من يومياتهم».
إحدى المحطات اللافتة، كانت مسرحية «شو صار بكفر منخار» المُوجّهة إلى الأطفال والعائلات. في نظر المُنظّمين، هذه محاولة لبناء زوّار جُدد للمسرح، وتربية جيل يضع الفنّ ضمن أولوياته. تؤكد نجوى باسيل: «أن يعتاد الأطفال على ارتياد المسرح منذ صغرهم، فهذا يؤسِّس لذوق مختلف لا يكتفي بالترفيه الفارغ من مضمونه، وإنما يُطالب بما يُنمّي حسّه الثقافي، ولاحقاً النقدي». هنا تتقاطع التربية مع الثقافة، ويصبح المسرح مساحة لتشكيل وعي مُبكر لدى الأجيال.

البرنامج حمل تنوّعاً بين أنماط مختلفة: من المسرح الاجتماعي السياسي مع «شو منلبس؟» ليحيى جابر وبطولة إنجو ريحان التي لا تزال تُقدّم عرضها بلا انقطاع، إلى المسرح الكلاسيكي عبر رفعت طربيه الذي عاد إلى «هاملت» شكسبير في فصل بعنوان «الأمير المجنون» من إخراج لينا أبيض، وصولاً إلى المسرح الغنائي المعاصر مع سامر حنا في «براديسكو»، قبل أن يُختتم المهرجان بمسرح موجّه للصغار. هذا التنوّع محاولة لصوغ مشهد يعكس ملامح المسرح اللبناني بتناقضاته وتجاربه.
ولم يقف المهرجان عند حدود العروض، فقد أسَّس لجائزة سنوية مُخصّصة لطلاب المسرح، تُشكّل اعترافاً بمواهبهم وتشجيعاً على صقلها. تتحدَّث باسيل عن المبادرة: «مواهب شابة كثيرة لا تجد فرصتها ولا تحظى بباب مفتوح نحو الاحتراف. أردنا أن يكون المهرجان منبراً لهم، يمنحهم الصوت والضوء. ستُقيّم لجنة مشروعات تخرّجهم الجامعية، وتُعرض المختارات على خشبة المهرجان، فيما تُمنَح (المسرحية الأفضل) جائزة خاصة».

الأصداء التي رافقت الدورة الأولى بدت مُشجِّعة. باسيل ترى أنّ المهرجان «حجز مكانه» منذ البداية: «لم نُطلقه لنكتفي بدورة واحدة. هدفنا أن يتحوّل إلى تقليد سنوي، ويُصبح علامة فارقة في حكاية المسرح اللبناني. قسوة الظروف لن تُحبط إرادة الاستمرار».
بهذا المعنى، تتراءى تسمية «صدى المسرح» توصيفاً دقيقاً لمقصد المهرجان، فيكون صدى يتردَّد في مدن أخرى بعد بيروت ويترك أثره في المجتمع، بين الكبار كما الصغار، بين الحاضرين كما الغائبين، ويفتح أفقاً جديداً لمسرح لبناني يُعاند تحدّياته.



