كان هواء الخريف قد بدأ يهبُّ خفيفاً على ليل الشاطئ اللبناني، يحمل معه شيئاً من الهدوء الذي يسبق المفاجآت. في منطقة زوق مكايل، اجتمع الفنّ بالعاطفة في أمسية أرادها الفنان العراقي سيف نبيل مختلفة، فوجد نفسه مُحاطاً بوجوه مُحبّة، من فنانين وإعلاميين وأصدقاء يشاركونه حفل إطلاق ألبومه الجديد «ذا كولكشن». تحوّل المكان المُضاء بالشموع والمُزيَّن بالورود البيضاء إلى بيت يفتح أبوابه على موسيقى جديدة تُخاطب الحاضر وتؤسِّس لمرحلة أخرى من مسيرة فنان يواصل البحث عن نفسه.

خصوصية الأمسية في تفاصيلها الجمالية، وفي الفكرة غير المألوفة التي اعتمدتها: جلسة استماع مباشرة للأغنيات، تُقام بهذا الشكل للمرة الأولى في الشرق الأوسط. عَرَض سيف نبيل جميع أغنيات الألبوم أمام الحضور قبل أن تُطرَح رسمياً، كأنه أراد أن يُشاركهم لحظة الولادة ويضعهم في موقع الشهود والمشاركين في آن. كان المشهد أشبه بمسرح للتفاعل الفنّي. تعلو الآراء والانطباعات على وَقْع الموسيقى، فيشعر الفنان أنّ صوته يعود إليه مُضاعَفاً بما يحمله الآخرون من تفاعل.
راح الشريكان موريس متّى وإيلي الحلو يتنقّلان بين الضيوف بحرص واهتمام، يُراقبان التفاصيل الصغيرة التي تجعل الأمسية مُتماسكة، فشركة «تشانل إم إي» التي أسَّساها، وضعت لنفسها معياراً خاصاً في التنظيم، وبدت في تلك الأمسية كأنها تمتحن قدرتها على الجَمْع بين التميُّز والمهنية. حين تولّى إيلي الحلو إدارة الحوار مع سيف نبيل، بدا واضحاً أنّ الهدف إتاحة فرصة لأسئلة حقيقية تمنع ضوضاء العبارات الفارغة وتُفسح مجالاً لنقاش يُظهر عمق التجربة. كان التنظيم «صارماً» من دون أن يفقد لمسته الإنسانية، والحوار سلساً من دون أن يتخلّى عن الجدّية، فخرجت الأمسية مثل لوحة تجمع الودّ بالرصانة.
في تلك اللحظة التي فاجأته تفاصيل لم يكُن على عِلْم بها، قال سيف نبيل بعفوية: «قلبي كِبِر كتير كتير كتير». كلمات بسيطة مُحمّلة بحقيقة الشعور، تعكس حجم الامتنان والبهجة. ظهر بوضوح أنه كان فرداً من عائلة كبيرة التفَّت حوله لتُشاركه انطلاقة يراها منعطفاً في مساره. العروض الحصرية لمقاطع الألبوم، والإطلاق الرسمي لفيديو كليب «أخذ الروح» الذي حصد إعجاب الحاضرين، منحت الأمسية معنى أعمق في نظره. استُقبلت الأغنية مثل إضافة بصرية وفكرية تفتح نافذة جديدة في مسيرة فنان يتوق دائماً إلى التجريب.
لكنّ قيمة «المجموعة» تُقاس أيضاً بما حمله من روح متجدِّدة. 10 أغنيات مختلفة يجمعها خيط بحث عن التنوّع. تراءى سيف نبيل في وضعية إعادة تعريف نفسه عبر كلّ أغنية؛ يُجرّب صورة جديدة ويكتشف نغمة أخرى، من دون أن يتخلَّى عن جذوره. يُقدّم عملاً متعدّد الطبقات، يتنقّل فيه بين اللهجات العربية، لكنه يظلّ محتفظاً بالروح العراقية التي يعرفها جمهوره ويُقدّرها.
في حواره مع «الشرق الأوسط»، يتحدَّث عن هذا التحدّي: كيف يُحافظ الفنان على هويته الأصلية وهو يُجرّب ألواناً جديدة؟ يقول: «أنا ابن العراق أولاً وأخيراً، هويتي حاضرة في كلّ كلمة وكلّ لحن. لكنَّ الفنّ لغة إنسانية عالمية لا تعرف الحدود. اللهجات العربية ثراء وليست تفرقة، وقد استطعتُ أن أوحِّد هذا التنوّع لأني غنّيتُ بصدق وحافظتُ على الروح العراقية التي يُحبّها الناس، فيما أضافت اللهجات الأخرى ألواناً جديدة إلى الصورة نفسها».

نسأله عن منعطف التغيير، فيُجيب من موقع التجربة: «يصل كلّ فنان إلى مرحلة يشعر فيها أنّ صوته والجمهور يحتاجان إلى ولادة جديدة. لم يكن الهدف أن أُبدّل هويتي، وإنما أن أضيف نَفَساً جديداً. اللحظة جاءت حين أدركتُ أنّ الجمهور يتوقَّع مني شيئاً أبعد ممّا اعتاد عليه، وهناك قرّرتُ أن أُقدّم سيف نبيل المختلف». في كلماته ما يُشبه الاعتراف بأنّ التكرار فخّ يُهدّد الفنان إن لم يُجدّد ذاته، والمغامرة في الفنّ مطلوبة.
لم يُخفِ أنّ العراق هو الجذر الذي يمنحه هويته، لكنه يرى في الانتشار العربي جناحاً يُتيح له التحليق أبعد. يردُّ على إشكالية التوازن بين الانتماء والانتشار: «لا أراهما في صراع، فهما متكاملان. الانتماء يمنحني الصدق، والانتشار يمنحني المساحة لأطير بجناحي». في تلك العبارة خلاصة تجربته؛ فيكون حاضراً بجذوره، ومنفتحاً في الوقت نفسه على فضاء أوسع يضمّ الجميع.
يتحدَّث عن النقلة النوعية، ويربطها بمعركة داخلية لا يفلت منها أي فنان: «أصعب معركة يخوضها الفنان هي مع نفسه، كيف يُطوّرها ويُقدّم ما يرضيها قبل إرضاء الآخرين. لكنها أيضاً رسالة للساحة الفنّية بأنّ ثمة دائماً مساحة للتجديد والخروج من القوالب».
وفي لحظة تأمُّل، نسأل سيف نبيل عمّا لو عاد إلى نفسه الأولى؛ تلك التي بدأت المشوار قبل سنوات، فماذا كان ليقول لها؟ يجيب وصورٌ من الماضي تعبُر أمامه: «كنتُ سأقول: ابقَ كما أنتَ. آمن بحلمك وامشِ بخطوات ثابتة. لكلّ نجاح وقته، ولكلّ أغنية عمرها. اجعل قلبكَ دليلك، ولا تخف من التحدّيات. فكلّ تجربة ستمنحك قوة وخبرة».

