أنسي الحاج منشداً للحب والبراءة والأنوثة الكونية

النزق الشهواني في بواكيره أخلى مكانه للانخطاف القلبي وتوهج الروح

إنسي الحاج
إنسي الحاج
TT

أنسي الحاج منشداً للحب والبراءة والأنوثة الكونية

إنسي الحاج
إنسي الحاج

يصعب على أي متتبع لموضوع الحب وتجلياته في الشعر العربي الحديث أن يقفز فوق تجربة الشاعر اللبناني أنسي الحاج، سواء تعلق الأمر بالرؤية المتميزة إلى المرأة، أو بالافتتان المفرط بالأنوثة، أو باحتدام العاطفة وفوران اللغة وجدة الأسلوب. فأنسي الذي كان ينظر إلى الحب نظرته إلى جوهر الوجود ومعناه، جعل منه حجر الرحى الأكثر صلابة الذي تدور حوله قصائده ونصوصه، مضيّقاً المسافة بين لغته وأعصابه، ومندفعاً نحو هدفه كالسيل حيناً، وجارحاً كالصقر حيناً آخر، وهشاً كالفراشة أحياناً كثيرة.

وإذا كان موضوع الحب بتعبيراته المختلفة يشكل العمود الفقري لتجربة أنسي الشعرية، فإن ذلك لا يعني أن صورة المرأة وطبيعتها وعلاقة الشاعر بها كانت واحدة في مجمل أعماله. إذ يكفي أن نلقي نظرة متفحصة على «لن»، مجموعة أنسي الأولى، لكي نشعر بأن الرجل العاشق والمرأة المعشوقة أشبه بكائنين بريين ومحتشدين بالغرائز، وأن العشق نفسه أشبه بحلبة صراع بين طرفين بالغي الضراوة، يعمل كل منهما على هزيمة الآخر، كما في قوله «أتهمكِ أنكِ خلسة تدحرجين وجهك الحقيقي لتهزميني. كشمعة تولولين ويصعد منكِ تيار الحريقة. اعقدي خنصرك في خنصري كعداوة».

إلا أن نبرة النزق الشهواني تلك سرعان ما بدأت تأخذ في مجموعاته اللاحقة أشكالاً أقل قسوة وتوحشاً، بحيث نحت لغة الحب عنده نحو خطاب مأهول بالصدق والشفافية، دون أن تتخفف من لغتها الفائرة وحماسها القديم. وإذا كانت المظاهر الأولى لهذا التغير قد بدت جلية في المجموعة اللاحقة «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة»، فهي قد بلغت ذروتها الدراماتيكية مع «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، حيث أخذت العلاقة بالمرأة شكلاً من أشكال الوجد والوله القلبي. وهو باستهلاله المجموعتين بكلمتي «منكِ» و«مغلوبك»، أراد أن يعلن في الأولى بأن امرأته المعشوقة هي علة الكتابة ومصدرها، ويعلن في الثانية غلبة الأنوثة على الذكورة، منذ آدم وحواء وحتى آخر السلالة.

والمفاجئ أن أنسي الذي كان يستخدم في «لن»، وبتأثر واضح ببودلير، لغة «بيولوجية» صادمة، وعارية من أي غلالة رومنسية، كقوله «ستطْبق عليكِ العلامات. سوف تنْسل نسلة نسلة حتى يبرز لحمك العاري ويسفر عن عظامك»، سيقلب المعادلة، ليكتب بعد ذلك «أنتِ مولودةٌ لتغلَق الكتب، مولودةٌ لتمتقع التماثيل، مولودةٌ لتصححي الحياة».

كما أن الخطاب العشقي في نسخته الجديدة لا يكف عن التأرجح بين ما هو طقوسي قبل ديني، ومترع بالسحر والتعازيم، وبين ما هو لاهوتي إيماني، تتحول المرأة فيه إلى أنثى شبه معبودة ومانحة للحياة، فيما تطغى على أسلوب الشاعر صيغ الشغف المحموم والغنائية الجارحة والتضرع الابتهالي. ولأن العشق مغامرة ثقيلة الوطأة لا قِبل له باحتمالها، فهو يحاول الإفادة من التجارب التي اختبرها العشاق السابقون، ولا يتوانى عن الاستعانة بالنصوص التي خلّفها شعراء المكابدات القلبية للأجيال اللاحقة. فإذ يرد في «نشيد الأناشيد» بأن «الحب قوي كالموت والغيرة قاسية كالهاوية»، يعلن أنسي بأن «الجبل أخفّ حملاً من الشوق والأرض أقصر من الغيرة». وإذا صرخ ريلكه «مَن، لو صرختُ، سيسمعني في مراتب الملائكة؟»، بردد أنسي بعده «إلى مَن أصرخ فيعطيني المحيط، صارت لغتي كالشمع، وأشعلت لغتي، وكنتُ بالحب». وإذا تنبأ أراغون بلسان مجنون غرناطة، بأن إيلسا قادمة بعد قرون لإعادة الأرض إلى رشدها بالحب، أعلن أنسي بأن حبيبته هي «الدرّة المصقولة بتوالي عذاب الأجيال، وصلتْ مختارة دون نقيصة»؟ وإذا هتف جبران بالحرية «من أعماق هذه الأعماق نناديك أيتها الحرية فاسمعينا»، هتف أنسي بحبيبته «أناديك من الجبال من الأودية، أناديك من الصخر والينابيع، اسمعيني آتياً ومحجوباً وغامضاً».

الأرجح أن إلحاح أنسي على استخدام ضمير المخاطب الجمعي في معظم نصوصه العاطفية، ليس سوى انعكاس لقناعته بوجوب أن نزف الحب إلى العالم، كما لو أنه موعد مع تفتح الحياة أو بشارة بالقيامة. فإذا كانت شرعية الزواج تُكتسب من وجود شاهدين اثنين لا أكثر، فإن الحاج يريد، لكي يُكسب عشقه الشرعية، ولكي يكون جديراً بالحب، أن يستقدم العدد الأكبر من الشهود، فيهتف قائلاً:

أنقلوني إلى جميع اللغات

لتسمعني حبيبتي

أعيروني حياتكم لأنتظر حبيبتي

أنا شعوب من العشاق

ما صنعت بي امرأةٌ ما صنعتِ

رأيتُ شمسكِ في كآبة الروح

وماءكِ في الحمى

على أن أنسي، شأنه شأن الكثير من المبدعين، لا يقيم إلا في الخلاء العاصف، ولا يستقر، في ظرف ما، على حالة أو مقولة، إلا وينقضهما في ظرف مغاير. فالشاعر الذي يريد للبشر أجمعين أن يشاطروه احتفاله العشقي، وينصب سرادقه العاطفي تحت شمسٍ مكتملة السطوع، هو نفسه الذي يرفع، على طريقة سلفه ديك الجن الحمصي، لواء غيرته المرضية على المرأة التي يحب، مؤثراً إقامتها في العزلة التامة، وحجْبها التام حتى عن صورتها في المرآة:

أغار عليك من الطفل الذي كنتِ

ستلدينه لي

من المرآة التي ترسل لك تهديدكِ بجمالك

من شعوري بالنقص أمامك

من حبكِ لي، من فنائي فيكِ

من الماء الذي يُتوقَّ أن تشربيه

وإذ يستهل الشاعر مجموعته «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، المؤلفة من قصيدة واحدة ذات بناء ملحمي، بعبارة «هذه قصة الوجه الآخر من التكوين»، فلكي يعيد تذكيرنا بأن كل قصة حب حقيقية بين طرفين هي ليست ولادة أخرى لهما فحسب، بل إعادة تمثيل معدّل لواقعة الحب الأولى، وعودة رمزية إلى الصفر الينبوعي للأشياء.

وفي هذا السفْر الغنائي المفعم بالوجد، يتولى الحاج إعادة رسم العلاقة بين المرأة والرجل، من منظور الانتصار للأنوثة الكونية التي تكفلت عبر الزمن بتشذيب سلوكيات الرجل وتخليصه من رعونته. ورغم أن الرجل لم يكن رفيقاً بالمرأة التي انشقّ عنها، وعمل جاهداً على التنصل من الخطيئة الأصلية ليلصقها بها وحدها، ثم أسرف في تهميشها ورميها بالنقصان، وظل سادراً في بطشه الدموي، فقد تركته من جهتها يفرح بأوهامه، «لأنه الضعيف وهي القوية. ثم حضنت عذابها لتحضن معذِّبيها، فالكاذبون أطفالها ولو تزوجوها»، فيما الغابة التي اسمها الأرض، بدت «شقيةً بالأسد رضيةً بالفراشة».

إلحاح أنسي الحاج على استخدام ضمير المخاطب الجمعي في معظم نصوصه العاطفية ليس سوى انعكاس لقناعته بوجوب أن نزفّ الحب إلى العالم

وإذا كانت مناخات «نشيد الأناشيد» المنسوب لسليمان، واضحة تماماً في خلفية «الرسولة»، كما في نسيجها التعبيري ومناخاتها الفردوسية، فاللافت أن أنسي في هذه التجربة الاستثنائية لم يكتف بالانقلاب على الجموح الغرائزي الذي ظهر في بواكيره، بل ذهب أبعد من «العهد القديم»، في دفع الرغبات الجسدية المحمومة إلى الخلف، وصهرها بشكل كامل في أتون التوله الروحي.

الملاحظ أن أنسي يستعين لتظهير عشقه على النحو الأكمل، بكل ما في لغة الضاد من علامات التعجب والاستفهام والنداء والاسترحام والدعاء، مروراً بالتنقل بين الصيغ الكلامية، والعود على بدء، والتكرار الذي يعكس حرقة النفس ويرسّخ المعنى، وتأنيث ما لا يؤنث «الرسولة، الماءة»، واللعب بالضمائر «اختبأتْني، أطلَّتْني»، وصولاً إلى تكرار القسَم لمحو كل شك:

أقسم أن أنسى قصائدي لأحفظك

أقسم أن أسكُن دموعي في يدك

أقسم أن أكون فريسة ظلك

أقسم أن يطير عمري

كالنحل من قفير صوتك

أقسم أن أنزل من برق شَعرك

مطراً على السهول

ولا بد من الإشارة أخيراً إلى أن الطابع الابتهالي الصوفي لكتاب «الرسولة»، وحرص أنسي على تقديم صورة لامرأته المعشوقة موزعة بين البهاء المريمي وبين التفتح الرعوي للرغبات، هو الذي حدا بالكثيرين إلى التساؤل عن الهوية الحقيقية للمرأة التي تقف وراء قصيدته، التي تعتبر إحدى أكثر قصائد العشق تميزاً وفرادة في الشعر العربي الحديث. وإذا كان الشاعر قد ذهب بهذا السر إلى قبره، فالثابت وفق اعترافاته وحواراته الصحافية، أن عشقه للمرأة لم ينحصر في علاقة واحدة، وأنه ينتمي، في ما يتجاوز النساء اللواتي أحبهن، إلى الأنوثة الكونية التي تقيم مملكتها الساحرة على أرض سرمدية البهاء. ولأن الأمر كذلك، فهو يهتف بالبشر القانطين والمفتقرين إلى الحنو، كما بالمنكفئين على خوائهم العاطفي والروحي:

تعالوا، المملكة مفتوحة

أسراب الحساسين عند باب المملكة

تسرع للتحية

الكنوز وحيدة، الحياة وحيدة،

تعالوا كلِّلوا رؤوسكم بذهب الدخول

وأحرِقوا العالم بشمس العودة


مقالات ذات صلة

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

ثقافة وفنون هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية.

ندى حطيط
ثقافة وفنون إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

يواصل الكاتب المسرحي والروائي ماجد الخطيب، في الجزء الثاني من «ملصقات بيروت»، سرد سيرته الشخصية في بيروت، المبتلية بالحرب،

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة

هاشم صالح

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».