أنسي الحاج منشداً للحب والبراءة والأنوثة الكونية

النزق الشهواني في بواكيره أخلى مكانه للانخطاف القلبي وتوهج الروح

إنسي الحاج
إنسي الحاج
TT

أنسي الحاج منشداً للحب والبراءة والأنوثة الكونية

إنسي الحاج
إنسي الحاج

يصعب على أي متتبع لموضوع الحب وتجلياته في الشعر العربي الحديث أن يقفز فوق تجربة الشاعر اللبناني أنسي الحاج، سواء تعلق الأمر بالرؤية المتميزة إلى المرأة، أو بالافتتان المفرط بالأنوثة، أو باحتدام العاطفة وفوران اللغة وجدة الأسلوب. فأنسي الذي كان ينظر إلى الحب نظرته إلى جوهر الوجود ومعناه، جعل منه حجر الرحى الأكثر صلابة الذي تدور حوله قصائده ونصوصه، مضيّقاً المسافة بين لغته وأعصابه، ومندفعاً نحو هدفه كالسيل حيناً، وجارحاً كالصقر حيناً آخر، وهشاً كالفراشة أحياناً كثيرة.

وإذا كان موضوع الحب بتعبيراته المختلفة يشكل العمود الفقري لتجربة أنسي الشعرية، فإن ذلك لا يعني أن صورة المرأة وطبيعتها وعلاقة الشاعر بها كانت واحدة في مجمل أعماله. إذ يكفي أن نلقي نظرة متفحصة على «لن»، مجموعة أنسي الأولى، لكي نشعر بأن الرجل العاشق والمرأة المعشوقة أشبه بكائنين بريين ومحتشدين بالغرائز، وأن العشق نفسه أشبه بحلبة صراع بين طرفين بالغي الضراوة، يعمل كل منهما على هزيمة الآخر، كما في قوله «أتهمكِ أنكِ خلسة تدحرجين وجهك الحقيقي لتهزميني. كشمعة تولولين ويصعد منكِ تيار الحريقة. اعقدي خنصرك في خنصري كعداوة».

إلا أن نبرة النزق الشهواني تلك سرعان ما بدأت تأخذ في مجموعاته اللاحقة أشكالاً أقل قسوة وتوحشاً، بحيث نحت لغة الحب عنده نحو خطاب مأهول بالصدق والشفافية، دون أن تتخفف من لغتها الفائرة وحماسها القديم. وإذا كانت المظاهر الأولى لهذا التغير قد بدت جلية في المجموعة اللاحقة «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة»، فهي قد بلغت ذروتها الدراماتيكية مع «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، حيث أخذت العلاقة بالمرأة شكلاً من أشكال الوجد والوله القلبي. وهو باستهلاله المجموعتين بكلمتي «منكِ» و«مغلوبك»، أراد أن يعلن في الأولى بأن امرأته المعشوقة هي علة الكتابة ومصدرها، ويعلن في الثانية غلبة الأنوثة على الذكورة، منذ آدم وحواء وحتى آخر السلالة.

والمفاجئ أن أنسي الذي كان يستخدم في «لن»، وبتأثر واضح ببودلير، لغة «بيولوجية» صادمة، وعارية من أي غلالة رومنسية، كقوله «ستطْبق عليكِ العلامات. سوف تنْسل نسلة نسلة حتى يبرز لحمك العاري ويسفر عن عظامك»، سيقلب المعادلة، ليكتب بعد ذلك «أنتِ مولودةٌ لتغلَق الكتب، مولودةٌ لتمتقع التماثيل، مولودةٌ لتصححي الحياة».

كما أن الخطاب العشقي في نسخته الجديدة لا يكف عن التأرجح بين ما هو طقوسي قبل ديني، ومترع بالسحر والتعازيم، وبين ما هو لاهوتي إيماني، تتحول المرأة فيه إلى أنثى شبه معبودة ومانحة للحياة، فيما تطغى على أسلوب الشاعر صيغ الشغف المحموم والغنائية الجارحة والتضرع الابتهالي. ولأن العشق مغامرة ثقيلة الوطأة لا قِبل له باحتمالها، فهو يحاول الإفادة من التجارب التي اختبرها العشاق السابقون، ولا يتوانى عن الاستعانة بالنصوص التي خلّفها شعراء المكابدات القلبية للأجيال اللاحقة. فإذ يرد في «نشيد الأناشيد» بأن «الحب قوي كالموت والغيرة قاسية كالهاوية»، يعلن أنسي بأن «الجبل أخفّ حملاً من الشوق والأرض أقصر من الغيرة». وإذا صرخ ريلكه «مَن، لو صرختُ، سيسمعني في مراتب الملائكة؟»، بردد أنسي بعده «إلى مَن أصرخ فيعطيني المحيط، صارت لغتي كالشمع، وأشعلت لغتي، وكنتُ بالحب». وإذا تنبأ أراغون بلسان مجنون غرناطة، بأن إيلسا قادمة بعد قرون لإعادة الأرض إلى رشدها بالحب، أعلن أنسي بأن حبيبته هي «الدرّة المصقولة بتوالي عذاب الأجيال، وصلتْ مختارة دون نقيصة»؟ وإذا هتف جبران بالحرية «من أعماق هذه الأعماق نناديك أيتها الحرية فاسمعينا»، هتف أنسي بحبيبته «أناديك من الجبال من الأودية، أناديك من الصخر والينابيع، اسمعيني آتياً ومحجوباً وغامضاً».

الأرجح أن إلحاح أنسي على استخدام ضمير المخاطب الجمعي في معظم نصوصه العاطفية، ليس سوى انعكاس لقناعته بوجوب أن نزف الحب إلى العالم، كما لو أنه موعد مع تفتح الحياة أو بشارة بالقيامة. فإذا كانت شرعية الزواج تُكتسب من وجود شاهدين اثنين لا أكثر، فإن الحاج يريد، لكي يُكسب عشقه الشرعية، ولكي يكون جديراً بالحب، أن يستقدم العدد الأكبر من الشهود، فيهتف قائلاً:

أنقلوني إلى جميع اللغات

لتسمعني حبيبتي

أعيروني حياتكم لأنتظر حبيبتي

أنا شعوب من العشاق

ما صنعت بي امرأةٌ ما صنعتِ

رأيتُ شمسكِ في كآبة الروح

وماءكِ في الحمى

على أن أنسي، شأنه شأن الكثير من المبدعين، لا يقيم إلا في الخلاء العاصف، ولا يستقر، في ظرف ما، على حالة أو مقولة، إلا وينقضهما في ظرف مغاير. فالشاعر الذي يريد للبشر أجمعين أن يشاطروه احتفاله العشقي، وينصب سرادقه العاطفي تحت شمسٍ مكتملة السطوع، هو نفسه الذي يرفع، على طريقة سلفه ديك الجن الحمصي، لواء غيرته المرضية على المرأة التي يحب، مؤثراً إقامتها في العزلة التامة، وحجْبها التام حتى عن صورتها في المرآة:

أغار عليك من الطفل الذي كنتِ

ستلدينه لي

من المرآة التي ترسل لك تهديدكِ بجمالك

من شعوري بالنقص أمامك

من حبكِ لي، من فنائي فيكِ

من الماء الذي يُتوقَّ أن تشربيه

وإذ يستهل الشاعر مجموعته «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، المؤلفة من قصيدة واحدة ذات بناء ملحمي، بعبارة «هذه قصة الوجه الآخر من التكوين»، فلكي يعيد تذكيرنا بأن كل قصة حب حقيقية بين طرفين هي ليست ولادة أخرى لهما فحسب، بل إعادة تمثيل معدّل لواقعة الحب الأولى، وعودة رمزية إلى الصفر الينبوعي للأشياء.

وفي هذا السفْر الغنائي المفعم بالوجد، يتولى الحاج إعادة رسم العلاقة بين المرأة والرجل، من منظور الانتصار للأنوثة الكونية التي تكفلت عبر الزمن بتشذيب سلوكيات الرجل وتخليصه من رعونته. ورغم أن الرجل لم يكن رفيقاً بالمرأة التي انشقّ عنها، وعمل جاهداً على التنصل من الخطيئة الأصلية ليلصقها بها وحدها، ثم أسرف في تهميشها ورميها بالنقصان، وظل سادراً في بطشه الدموي، فقد تركته من جهتها يفرح بأوهامه، «لأنه الضعيف وهي القوية. ثم حضنت عذابها لتحضن معذِّبيها، فالكاذبون أطفالها ولو تزوجوها»، فيما الغابة التي اسمها الأرض، بدت «شقيةً بالأسد رضيةً بالفراشة».

إلحاح أنسي الحاج على استخدام ضمير المخاطب الجمعي في معظم نصوصه العاطفية ليس سوى انعكاس لقناعته بوجوب أن نزفّ الحب إلى العالم

وإذا كانت مناخات «نشيد الأناشيد» المنسوب لسليمان، واضحة تماماً في خلفية «الرسولة»، كما في نسيجها التعبيري ومناخاتها الفردوسية، فاللافت أن أنسي في هذه التجربة الاستثنائية لم يكتف بالانقلاب على الجموح الغرائزي الذي ظهر في بواكيره، بل ذهب أبعد من «العهد القديم»، في دفع الرغبات الجسدية المحمومة إلى الخلف، وصهرها بشكل كامل في أتون التوله الروحي.

الملاحظ أن أنسي يستعين لتظهير عشقه على النحو الأكمل، بكل ما في لغة الضاد من علامات التعجب والاستفهام والنداء والاسترحام والدعاء، مروراً بالتنقل بين الصيغ الكلامية، والعود على بدء، والتكرار الذي يعكس حرقة النفس ويرسّخ المعنى، وتأنيث ما لا يؤنث «الرسولة، الماءة»، واللعب بالضمائر «اختبأتْني، أطلَّتْني»، وصولاً إلى تكرار القسَم لمحو كل شك:

أقسم أن أنسى قصائدي لأحفظك

أقسم أن أسكُن دموعي في يدك

أقسم أن أكون فريسة ظلك

أقسم أن يطير عمري

كالنحل من قفير صوتك

أقسم أن أنزل من برق شَعرك

مطراً على السهول

ولا بد من الإشارة أخيراً إلى أن الطابع الابتهالي الصوفي لكتاب «الرسولة»، وحرص أنسي على تقديم صورة لامرأته المعشوقة موزعة بين البهاء المريمي وبين التفتح الرعوي للرغبات، هو الذي حدا بالكثيرين إلى التساؤل عن الهوية الحقيقية للمرأة التي تقف وراء قصيدته، التي تعتبر إحدى أكثر قصائد العشق تميزاً وفرادة في الشعر العربي الحديث. وإذا كان الشاعر قد ذهب بهذا السر إلى قبره، فالثابت وفق اعترافاته وحواراته الصحافية، أن عشقه للمرأة لم ينحصر في علاقة واحدة، وأنه ينتمي، في ما يتجاوز النساء اللواتي أحبهن، إلى الأنوثة الكونية التي تقيم مملكتها الساحرة على أرض سرمدية البهاء. ولأن الأمر كذلك، فهو يهتف بالبشر القانطين والمفتقرين إلى الحنو، كما بالمنكفئين على خوائهم العاطفي والروحي:

تعالوا، المملكة مفتوحة

أسراب الحساسين عند باب المملكة

تسرع للتحية

الكنوز وحيدة، الحياة وحيدة،

تعالوا كلِّلوا رؤوسكم بذهب الدخول

وأحرِقوا العالم بشمس العودة


مقالات ذات صلة

الثقافة اللبنانية تتوهج بين الانتعاش والفوضى من دون أن تعبأ بالحرب

ثقافة وفنون معرض ضياع العزاوي في «غاليري صالح بركات»

الثقافة اللبنانية تتوهج بين الانتعاش والفوضى من دون أن تعبأ بالحرب

إذا كان من عنوان لهذه السنة فهو «النضال» من أجل استبدال البشاعة بالجمال. فقد أغلق عام 2024 على حرب إسرائيلية ضروس، انحسرت،

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون معرض "أرتميسيا، بطلة الفن"

فرنسا الثقافية 2025... صدمة التراث المنهوب وتحديات «السيادة الرقمية»

شهد عام 2025 تحولات كبرى، أعادت رسم ملامح المشهد الثقافي والفكري في فرنسا، فبين أسوار المتاحف العريقة وطاولات لجان التحكيم الأدبية،

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون جانب من مؤتمر الخط العربي

المشهد الثقافي المصري... نفض أحزان الفقد ومواصلة الأنشطة المعتادة

عام مثقل بالفقد والأحزان عاشته الثقافة المصرية خلال 2025، فقد غيَّب الموت كوكبة من المبدعين والشعراء والنقاد، جميعهم لعبوا أدواراً متنوعة

جمال القصاص (القاهرة)
ثقافة وفنون فيلم" كعكة الرئيس"...وصل الى القائمة القصيرة (15 فيلما)، لجوائز الأوسكار

العراق... معرضان للكتاب وإنجاز غير مسبوق للسينما

اختيار بغداد عاصمة للسياحة، كان يمكن أن يكون عاماً محتشداً بالأحداث الثقافية الكثيرة، التي تبرز وجه العراق السياحي الجاذب، كالمهرجانات المتنوعة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون تدشين أكاديمية آفاق للفنون والثقافة بالتزامن مع تكريم الفائزين بمسابقة المهارات الثقافية

الثقافة السعودية 2025... الاستثمار والابتكار والانفتاح على العالم

حمل تقرير «الحالة الثقافية في المملكة العربية السعودية»، الذي أصدرته وزارة الثقافة السعودية في سبتمبر (أيلول) 2025، عنوان: «الأثر الثقافي»،

ميرزا الخويلدي (الدمام)

الثقافة اللبنانية تتوهج بين الانتعاش والفوضى من دون أن تعبأ بالحرب

معرض ضياع العزاوي في «غاليري صالح بركات»
معرض ضياع العزاوي في «غاليري صالح بركات»
TT

الثقافة اللبنانية تتوهج بين الانتعاش والفوضى من دون أن تعبأ بالحرب

معرض ضياع العزاوي في «غاليري صالح بركات»
معرض ضياع العزاوي في «غاليري صالح بركات»

إذا كان من عنوان لهذه السنة فهو «النضال» من أجل استبدال البشاعة بالجمال. فقد أغلق عام 2024 على حرب إسرائيلية ضروس، انحسرت، لكنها لم تنتهِ بعد. كان على اللبنانيين أن يعودوا إلى المسرح وغاليريات الفن، ومهرجانات السينما، والعروض الفنية، والأنشطة الأدبية، كأنما الوطن لا يقصف، والأرض لا تسلب.

الحرب وإن انحسرت فقد بقيت مستمرة، والتهديد بتمددها من جديد يومي، ولا يزال. لكن من يرى بيروت، قد لا يصدق أن هؤلاء الذين لا يكفّون عن الاحتفاء بالمسرح والأدب والمعارض والأفلام والكتب هم على شفير هاوية. فعدا الانهيار الاقتصادي، والاضطرابات السياسية، جاءت الحرب كأنما كي لا تترك مجالاً لهدنة.

قد لا تكون مبالغة القول إن كثافة الأنشطة الثقافية في بلد صغير مثل لبنان، وفي الظرف الصعب الذي يعيشه، ومن دون أي تمويل من الدولة، تكاد تكون ظاهرة يصعب تفسيرها، حتى فهمهما.

كم الأنشطة والدعوات كثيرٌ حدّ الإرباك، وهذا يأتي في أحيان كثيرة على حساب النوعية. خشبات المسارح محجوزة مقدماً، ومواعيد الجمهور تتضارب. لشدة الطلب، ثمة مسرحيات تغيب ثم تعود، مثل «مجدرة حمرا» إخراج يحيى جابر، وتمثيل البديعة أنجو ريحان. وهي من المسرحيات التي راقت كثيراً للجمهور، كذلك أعيد تقديم «مونوبوز» للكاتبة والمخرجة والممثلة بيتي توتل. وفي نهاية العام، أعاد الأخوان صبّاغ مسرحية غنائية كانا قدّماها قبل سنوات طويلة، هي «أنا وغيفارا». وكذلك أخرج الفنان عبد الحليم كركلا من أرشيفه عمله الرائع «ألف ليلة وليلة» وأعاد تقديمه في بيروت، قبل أن يغادر إلى موسكو ليقدم العمل على «مسرح البولشوي»، بنجاح كبير.

وفي نهاية العام، قدّمت المخرجة لينا خوري مسرحيتها الجميلة «أبو الزوس» التي تعكس تعقيدات التركيبة اللبنانية، وهي تجمع بين الفكاهة والعمق، وتغوص في النفس البشرية على طريقتها.

ثمة كثافة يختلط فيها العثّ بالسمين، إن في الفن التشكيلي أو في الأعمال السينمائية، حتى في إصدارات الكتب. قد تكون الظاهرة أكبر من لبنان، بسبب انتشار وسائل التواصل، وهشاشة المعايير. لكن السؤال الذي لن تجد إجابة عليه، هو من يمول كل هذا الكمّ من الأعمال، حتى الهابطة منها؟ وما الذي أدخلنا في هذا الازدحام الثقافي؟ وهل هي ظاهرة صحية، لأنها تجلب الفرح والاجتماع حول التجاريب الإبداعية، أم ثرثرة لا طائل تحت غالبية ما يصدر عنها؟

الإجابات ليست يسيرة، لكن المؤكد أن ثمة الكثير مما يسعد ويبهج. من ذلك، عشرات الحفلات التي أحياها الكونسرفتوار الوطني للموسيقى هذا العام، في مختلف المناطق اللبنانية، بفضل رئيسته النشطة المؤلفة الموسيقية والمغنية هبة القواس، لتصبح الموسيقى الكلاسيكية، بفضل جهد أساتذة المعهد وطلابه، في متناول كل مواطن.

«ألف ليلة وليلة» من لبنان إلى موسكو

المعارض كانت كثيفة بدورها، نذكر منها معرض «ديفا: من أم كلثوم إلى داليدا» في «متحف سرسق»، في بيروت، نظَّمه «معهد العالم العربي» في باريس، حيث انطلق من هناك إلى أمستردام وعمّان، قبل أن يصل العاصمة اللبنانية.

في المعرض فساتين، صور، تسجيلات، أفلام، وثائقيات، قطع أثاث، شنط، دفاتر، أشياء أخرى كثيرة، تخص نجماتنا الأثيرات، مثل هند رستم، فيروز، وردة، أم كلثوم، صباح، وغيرهن كثيرات.

ومن المعارض التشكيلية المهمة، الذي أقامه «غاليري صالح بركات» للتشكيلي العراقي ضياء العزاوي، بعنوان «شهود الزور»، لنكتشف من جديد جداريات العزاوي، التي ترسم خرائط التراجيديات العربية، حيث يتحول الزائر إلى متفرج على المجزرة الكبرى. فالمقتلة عند هذا العراقي الحزين ممتدة من بغداد إلى الموصل فحلب، وبيروت وغزة.

وفي «متحف سرسق»، أقام الفنانان الموهوبان جوانا حاجي توما وخليل جريج، معرض «ذكرى النور» في استعادة لأجمل أعمالهما في السنوات العشر الأخيرة، بعد أن جابت مدناً عدّة، وعادت إلى بيروت لتجد مستقرها، وتحكي لأهل البلاد قصصهم وتاريخهم ومعاناتهم، وما دُفن تحت ترابهم.

من المواعيد التي أثارت إعجاباً كبيراً معارض «وي ديزين بيروت» أو «نحن نصمم بيروت» في نسخته الثانية، حيث أعيد رسم ملامح مواقع في العاصمة بأنامل مبدعين تفننوا في تقديم رؤى، أضافت إلى روح الأمكنة معاني أخرى، في بحث عن الهوية، والانتماء، والذاكرة. توزعت المشاريع الفنية في عدد من المواقع، من بينها عمارة «برج المر» و«فيلا عودة» و«الحمامات الرومانية» و«بناية الاتحاد» ومصنع «أبرويان».

وفي الصيف، وبسبب استمرار التهديدات، ترددت لجان المهرجانات طويلاً، قبل أن تعلن برامجها، لكنها في النهاية قررت ألا تغيب، وفضّلت أن تعتمد بشكل كبير على الفنانين اللبنانيين، دون توسيع الطموح والتورط مع فرق كبيرة. ومن أبرز ما قدّم في مهرجانات بيت الدين: ميوزيكال «كلو مسموح» الذي لعبت الدور الرئيسي فيه الفنانة كارول سماحة، وأخرجه وشارك في تمثيله روي الخوري، كما كان الافتتاح بـ«ديوانية حبّ» المستوحاة من مجالس الطرب القديمة. جمع الحدث ثلاثاً من أبرز المطربات العربيات: جاهدة وهبة (لبنان) التي أدارت بمهارة الجلسة الغنائية، وريهام عبد الحكيم (مصر)، ولبانة القنطار (سوريا)، مع نخبة من العازفين بقيادة المايسترو أحمد طه.

وتوالت المهرجانات السينمائية على مدار العام، واختير فيلم «أرزة» لتمثيل لبنان في الأوسكار، من إخراج ميرا شايب، بطولة دياموند أبو عبود، تدور أحداثه حول أم تكافح في بيروت وتواجه تحديات لاسترداد دراجتها النارية. وفاز فيلم «ثريا حبي» بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، للمخرج نيكولا خوري، يستكشف حياة الفنانة الراقصة ثريا بغدادي، وعلاقتها بزوجها الراحل المخرج السينمائي مارون بغدادي. كما صدر فيلم «مشقلب» عن 4 حكايات لبنانية في مرآة الكوميديا السوداء، أخرجها كل من لوسيان بورجيلي، وبان فقيه، ووسام شرف، وأريج محمود. وكذلك فيلم «صوت آب» لمارسيل غصن، يستحضر ألم مدينة تقطّعت أوصالها، وفيلم «نجوم الأمل والألم» لسيريل عريس، الذي شارك في «مهرجان البندقية»، وفيلم «إلى عالم مجهول» للمخرج مهدي فليفل.

هبة طوجي في حفلها ضمن مهرجانات بعلبك الدولية

وخلال هذه السنة، تم إحياء الذكرى الـ135 لميلاد ميخائيل النعيمة، التي تعذر الاحتفاء بها العام الماضي، وأقيم مؤتمر تميز بدراسات وشهادات في ناسك الشخروب. كما اجتمع محبّو الروائي إلياس خوري وعائلته في المكتبة الوطنية لإحياء الذكرى الأولى لرحيله، بمشاركة وزير الثقافة غسان سلامة، الذي قلده وساماً بهذه المناسبة. كما تم تكريم الممثل القدير الراحل أنطوان كرباج في «مسرح المدينة». ومن ضمن التكريمات للراحلين، العودة إلى إرث منصور الرحباني بمناسبة مئويته، حيث أحيت نشاطات عدة، لعل أبرزها الحفل الموسيقي الخلاب، الذي قدمته هبة طوجي بمعية الموسيقي أسامة الرحباني على أدراج قلعة بعلبك ضمن «مهرجانات بعلبك الدولية» خلال الصيف.

وقد رحل عنا هذا العام الشاعر والمترجم والصحافي إسكندر حبش بعد معركة مع السرطان، وكذلك الإعلامي العاشق للغة العربية، الذي عرفه بعنايته الاستثنائية بلغة الضاد، بسّام برّاك. كما رحلت مها بيرقدار الخال زوجة الشاعر الراحل يوسف الخال، وبقيت لوحاتها وجرأتها. أما الفقيد الذي اهتزّ لوداعه لبنان فكان زياد الرحباني، بما له من مكانة في نفوس الناس.

كانت المفاجأة في «اليوم الوطني للتراث» الذي سمح طوال 3 أيام من 14 مايو (أيار) إلى 16 منه، بإعفاء الزوار من رسم دخول المتاحف والمواقع الأثرية التابعة لوزارة الثقافة، وخصصت لهم وسائل نقل، فكان المقبلون بالآلاف، ما وضع الوزارة أمام مأزق غير متوقع، ومفاجأة سعيدة غير محسوبة.

واحتفلت مؤسسة «المورد الثقافي» بعيدها العشرين في سينما «متروبوليس» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، التي هي أشبه بـ«وزارة ثقافة عربية». هكذا وصفتها إحدى المشاركات في الملتقى الذي جمع شبكة واسعة من المبدعين في المنطقة العربية، وهم في غالبيتهم من الذين تعاونوا مع «المورد»، ومنهم من أصبحوا نجوماً بفضل تمويلاتها، ومشاريعها المختلفة.

وبعض ما جاء في المداخلات عن التمويلات الأجنبية للثقافة في لبنان والمنطقة، ربما يجيب على جانب من أسئلتنا، حول سرّ انتعاش الأنشطة الثقافية، رغم الأزمة الاقتصادية.


فرنسا الثقافية 2025... صدمة التراث المنهوب وتحديات «السيادة الرقمية»

معرض "أرتميسيا، بطلة الفن"
معرض "أرتميسيا، بطلة الفن"
TT

فرنسا الثقافية 2025... صدمة التراث المنهوب وتحديات «السيادة الرقمية»

معرض "أرتميسيا، بطلة الفن"
معرض "أرتميسيا، بطلة الفن"

شهد عام 2025 تحولات كبرى، أعادت رسم ملامح المشهد الثقافي والفكري في فرنسا، فبين أسوار المتاحف العريقة وطاولات لجان التحكيم الأدبية، عاشت باريس مخاضاً فكرياً وتقنياً، وضع الهوية الفرنسية على محك التحديث والرقمنة، وسط صخب سياسي لم يغب عن ردهات الثقافة.

استهلت باريس عامها على وقع زلزال أمني وتراثي، تجاوزت ارتداداته الحدود الفرنسية، حين استيقظ العالم على نبأ السطو الصادم على «كنوز التاج» من قلب متحف اللوفر. إذ استهدفت السرقة «تاج لويس الخامس عشر» المرصع بنوادر الأحجار الكريمة التي تختزل تاريخ السيادة الفرنسية منذ مطلع القرن الثامن عشر. هذا التراث المنهوب يمثل حقباً سياسية متعاقبة، من الملكية المطلقة إلى الإمبراطورية النابليونية، ما جعل ضياعها خسارة لا تُقدر بثمن مادي. وقد أثارت الواقعة موجة عارمة من التغطية الإعلامية الدولية، حيث سارعت كبريات الصحف والوكالات العالمية إلى وضع فرنسا تحت مجهر المساءلة، وسط تساؤلات حادة حول «هشاشة» المنظومة الأمنية في الصروح الثقافية الكبرى. وانصبت الانتقادات على وزارة الثقافة وإدارة المتحف، متهمة إياها بالتقصير في حماية «أمانة التاريخ» التي لا تخص فرنسا وحدها، بل البشرية جمعاء.

في قلب هذا المناخ المشحون، انفتح ملف «الرقمنة والذكاء الاصطناعي» في القطاع الثقافي، ليشكل أكبر معركة آيديولوجية شهدها العام. ولم يكن هذا الجدل محصوراً في الأدوات التقنية، بل امتد ليشمل «أخلاقيات الإبداع». حيث دافعت وزارة الثقافة تحت إشراف رشيدة داتي عن استراتيجية «السيادة الرقمية»، الهادفة إلى رقمنة الأرشيف الوطني الفرنسي لحمايته من الاندثار وتسهيل وصول الأجيال الجديدة إليه عبر تقنيات الواقع المعزز. إلا أن هذا التوجه قوبل بمعارضة شرسة من نخب فكرية رأت في «خوارزميات الإبداع» تهديداً لـ«الاستثناء الثقافي الفرنسي». واحتدم النقاش حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيعيد إنتاج المعرفة أم سيعمل على «تنميطها»، وسط مخاوف من أن تتحول المتاحف والمكتبات من فضاءات للتأمل الحي إلى منصات رقمية باردة تفقد العمل الفني روحه التاريخية. كما شكّلت المعارض الكبرى التي احتضنتها المتاحف الباريسية خلال عام 2025 علامة فارقة في المشهد الثقافي الفرنسي، ليس من حيث الإقبال الجماهيري فقط، بل أيضاً من حيث الرهانات الفكرية والتاريخية والجمالية التي حملتها. وقد تصدّرت 3 معارض تحديداً قوائم «الأكثر انتظاراً» و«الأكثر زيارة»، وفرضت نفسها كأحداث ثقافية جامعة بين الفن والتاريخ والسياسة والذاكرة الإنسانية. منها معرض «الفن المُنحط»: محاكمة الفن الحديث في ظل النازية في متحف بيكاسو، وهو من بين أبرز معارض عام 2025، حيث وصف بالحدث الثقافي الاستثنائي لأنه أعاد فتح واحدة من أكثر الصفحات قتامة في تاريخ الفن الأوروبي، لأنه تناول سياسة النظام النازي في ثلاثينات القرن الماضي، حين جرى تصنيف أعمال فنية كبرى – لكاندينسكي، وبول كلي، وشاغال، وبيكاسو نفسه – على أنها «فن منحط»، وتمّ مصادرتها أو تدميرها أو استخدامها في حملات تشهير آيديولوجية. نجاح المعرض لم يكن جمالياً فحسب، بل معرفياً وسياسياً أيضاً. فقد استطاع أن يقدّم قراءة عميقة لعلاقة السلطة الشمولية بالإبداع، مظهراً كيف يتحول الفن في الأنظمة القمعية إلى ساحة صراع رمزي. وقد حظي المعرض بتغطية إعلامية واسعة، واستقبل أكثر من 240 ألف زائر، حسب أرقام المتحف، كما تصدّر قوائم «أهم 10 معارض التي لا تُفوّت في باريس عام 2025». وعلى نقيض الطابع السياسي الحادّ لمعرض بيكاسو، جاء معرض «ماتيس ومارغريت: نظرة أب» في متحف الفن الحديث بباريس ليقدّم تجربة شديدة الخصوصية والحميمية، مسلطاً الضوء على العلاقة بين الرسام هنري ماتيس وابنته مارغريت، التي كانت حاضرة في أعماله كملهمة وموضوع ونقطة ارتكاز إنسانية.

معرض "ماتيس ومارغريت: نظرة أب" في متحف الفن الحديث بباريس

تميّز هذا المعرض بنجاحه في إعادة قراءة أعمال ماتيس من زاوية جديدة، لا تركز على الابتكار التشكيلي أو اللون والخط فقط، بل على البعد العاطفي والنظرة الأبوية التي شكّلت جزءاً من مسيرته الفنية. وقد وجد النقاد في هذا المعرض مثالاً على قدرة المتاحف على تجديد السرديات الكلاسيكية، والانتقال من القراءة الأكاديمية البحتة إلى مقاربة إنسانية تُقرب الفن من الجمهور.

الإقبال الجماهيري اللافت (250 ألف زائر) خاصة من العائلات والمهتمين بتاريخ الفن الحديث، جعل المعرض واحداً من أكثر المعارض تداولاً في الصحافة الثقافية الفرنسية. أما معرض «أرتميسيا، بطلة الفن» في متحف جاكمار - أندريه، فقد شكّل بدوره حدثاً مفصلياً في سياق إعادة الاعتبار للفنانات النساء في تاريخ الفن، حيث أعاد المعرض تسليط الضوء على أرتميسيا جنتيليشّي، إحدى أبرز الرسامات في القرن السابع عشر، التي ظُلم اسمها طويلاً داخل سردية فنية هيمن عليها الرجال. ولم يكن الاهتمام بأرتميسيا محصوراً في كونها «امرأة فنانة»، بل بوصفها مبدعة ذات لغة بصرية قوية، عالجت في أعمالها موضوعات القوة، والعنف، والبطولة النسوية، في زمن كان الإبداع فيه امتيازاً ذكورياً. وقد ساهمت جودة الأعمال المعروضة، والسياق التاريخي الدقيق، في جعل المعرض من أنجح معارض الموسم (180 ألف زائر) وجذب جمهوراً متنوعاً، من طلبة الفنون إلى الباحثين والمهتمين بتاريخ أوروبا الثقافي.

أما في الأروقة الأدبية، فقد ظل إعلان الجوائز الكبرى الحدث الأكثر أهمية، حيث عكست خيارات هذا العام رغبة في العودة إلى السرديات الكبرى والقضايا الوجودية. في هذا السياق، حاز الكاتب لوران موفينييه على جائزة «غونكور» عن روايته «المنزل الفارغ»، وهي رواية سيكولوجية معقدة تفكك مفهوم الغياب والذاكرة في المجتمع المعاصر، وقد أشادت اللجنة ببراعته في تطويع اللغة الفرنسية لخدمة المشاعر الدفينة. وفي المقابل، نالت الكاتبة أديلايد دي كليرمون - تونير جائزة «رينودو» عن عملها «أردت أن أعيش!»، الذي مزج بين التأريخ والدراما الإنسانية، متناولاً صراعات الهوية في أوروبا الوسطى. ولم يغب الجدل السياسي عن الموسم الأدبي، إذ تصدر كتاب الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي «يوميات سجين» قوائم الأكثر مبيعاً، مثيراً عاصفة من الردود؛ حيث لم يكتفِ ساركوزي بعرض تجربته القانونية، بل خاض في نقاشات فلسفية حول العدالة والمصير، ما دفع النقاد إلى اعتباره «بياناً سياسياً» بصبغة أدبية تهدف إلى استعادة مكانته في التاريخ الفرنسي المعاصر.

وعلى صعيد المنشآت الثقافية، دخلت فرنسا مرحلة «الترميم الكبير» مع انطلاق الأشغال الضخمة في مركز جورج بومبيدو. هذا الصرح الذي أحدث ثورة معمارية عند افتتاحه في عام 1977 بتصميمه الذي يظهر أحشاء المبنى من أنابيب وسلالم كهربائية، أغلق أبوابه كلياً في سبتمبر (أيلول) 2025 لبدء عمليات تحديث شاملة تستمر لمدة 5 سنوات. وتهدف الأشغال إلى معالجة تآكل الهياكل المعدنية وتحديث أنظمة الطاقة لتتوافق مع المعايير البيئية الحديثة، بتكلفة تجاوزت 260 مليون يورو، تساهم فيها المملكة العربية السعودية بأكثر من 50 مليون يورو، في إطار إبرام اتفاقيات ثقافية بين البلدين.


المشهد الثقافي المصري... نفض أحزان الفقد ومواصلة الأنشطة المعتادة

جانب من مؤتمر الخط العربي
جانب من مؤتمر الخط العربي
TT

المشهد الثقافي المصري... نفض أحزان الفقد ومواصلة الأنشطة المعتادة

جانب من مؤتمر الخط العربي
جانب من مؤتمر الخط العربي

عام مثقل بالفقد والأحزان عاشته الثقافة المصرية خلال 2025، فقد غيَّب الموت كوكبة من المبدعين والشعراء والنقاد، جميعهم لعبوا أدواراً متنوعة في شد هموم الثقافة والمثقفين نحو آفاق أرقى حافلة بالمغامرة والتجريب. من بينهم الروائيان، صنع الله إبراهيم، صاحب رواية «تلك الرائحة»، ورءوف مسعد، صاخب رواية: «بيضة النعامة»، والشاعر أحمد عنتر مصطفى صاحب ديوان «مأساة الوجه الثالث»، والناقد دكتور محمد السيد إسماعيل صاحب كتاب «الرواية والسلطة»، والناقد دكتور محمد عبد المطلب، والذي يعد من أبرز النقاد المؤسسين في النقد الأدب العربي، بانفتاحه على تيارات الحداثة في الشعر وقدم كتاباً مهماً عن قصيدة النثر بعنوان «النص المشكل».

كما غيَّب الموت دكتور محمد صابر عرب وزير الثقافة الأسبق الذي تولى حقيبة الثقافة في ثلاث حكومات متتالية عقب ثورة يناير (كانون الثاني)، وحافظ على استقلاليتها في فترة اتسمت بالاضطراب السياسي، وله مؤلفات قيمة في التاريخ الأدبي، وفوجئت الحياة الثقافية برحيل اثنين من أهم الناشرين، الناشر حسني سليمان، مؤسس دار «شرقيات» ومحمد هاشم، مؤسس دار «ميريت» وكلاهما لعب دوراً مهماً في دفع أجيال جديدة من الكتاب في شتى مناحي الإبداع، وفي غمرة الأحزان رحلت الفنانة سميحة أيوب، الملقبة بـ«سيدة المسرح العربي» بعد مسيرة حافلة بالفن، قدمت خلالها أكثر من 170 عملاً مسرحياً، منها «السلطان الحائر» و«سكة السلامة»، ولحقت بها الفنانة سمية الألفي عن عمر يناهز 72 عاماً، بعد صراع مع المرض، ورحلة عطاء متميزة بخاصة في المسلسلات التليفزيونية.

كما غيّب الموت المخرج داوود عبد السيد، أحد ابرز مخرجي موجة الواقعية الجديدة في السينما المصرية.

برغم هذا الجو واصلت الحياة الثقافية أنشطتها وفعالياتها المعتادة، وتصدر نجيب محفوظ المشهد، حيث يحتفل معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته المقبلة بمرور عشرين عاماً على رحيله. وبهذه المناسبة أطلقت وزارة الثقافة جائزة «نجيب محفوظ للرواية العربية» بقيمة 500 ألف جنيه مصري (نحو 10 آلاف دولار أميركي)، وأعلنت الوزارة أن الجائزة سيمنحها معرض القاهرة الدولي للكتاب سنوياً بداية من هذا العام، الذى يحتفل فيه المعرض بذكرى مرور عشرين سنة على وفاة «أديب نوبل» نجيب محفوظ.

ومن جانبه، قال الدكتور أحمد مجاهد المدير التنفيذي للمعرض: «إن أديباً بقامة نجيب محفوظ يليق به أن تمنح وزارة الثقافة المصرية جائزة كبرى باسمه، بوصفه الأديب العربي الوحيد الفائز بجائزة نوبل، حيث تبلغ قيمة الجائزة 500 ألف جنيه، وميدالية ذهبية أسوة بجائزة النيل، وهي ممولة بالكامل من البنك الأهلي المصري». وبدأ تقدم الروائيين المصرين والعرب للجائزة صباح الخميس 4 ديسمبر (كانون الثاني) 2025، ويستمر حتى الأحد 4 يناير 2026، ويكون التقديم بإرسال ثلاث نسخ من الرواية المتقدمة للمسابقة، بشرط أن تكون منشورة بتاريخ عام 2025.

أثارت الجائزة حالة من الجدل في الأوساط الثقافية، فبرغم الاحتفاء بها فإن البعض رأي أنها تشكل انعكاساً لتخبط سياسات وزارة الثقافة، فمن غير المعقول أن يكون لدينا ثلاث جوائز باسم نجيب محفوظ، منها جائزة يمنحها المجلس الأعلى للثقافة وهو تابع لوزارة الثقافة. كما رأى البعض أن أطلاق هذه الجائزة يمثل تحدياً ضمنياً لجائزة نجيب محفوظ الراسخة التي دشنتها الجامعة الأميركية بالقاهرة وتم إنشاؤها بواسطة قسم النشر بها، وانطلقت في عام 1996، ووصلت قيمتها المادية إلى خمسة آلاف دولار أميركي، ويتم ترجمة الرواية الفائزة إلى اللغة الإنجليزية 1996، وتمنح في حفل يقام كل عام في 11 ديسمبر الموافق لمولد نجيب محفوظ. ومن الأنشطة المهمة التي شهدها الواقع الثقافي خلال هذا العام، ملتقى ذاكرة القصة المصرية في دورته الرابعة والتي حملت اسم «دورة الكاتب محسن يونس». نظم الملتقى موقع صدى برئاسة الكاتب والناقد سيد الوكيل، واستضافه بيت السناري الأثري بالقاهرة التابع لمكتبة الإسكندرية، جاءت فعاليات الملتقى تحت عنوان: «تجليات المكان في القصة القصيرة»، في محاولة لإحياء الذاكرة السردية المصرية، وتسليط الضوء على تطور فن القصة القصيرة، ودور المكان في تشكيل البنية السردية، بالإضافة إلى خلق مساحة للحوار وتبادل الخبرات بين الكتّاب والباحثين المهتمين بهذا الفن.

ناقش الملتقى في جلسته الأولى، السمات الفنية المميزة لفن القصة القصيرة لدى الكاتب محسن يونس، وهو يعيش في مدينة دمياط الساحلية، وذلك تحت عنوان «محسن يونس... رحلة إبداع»، أما الجلسة الثانية فناقشت «المكان في القصة القصير... رؤية منهجية»، بينما تناولت الجلستان الثالثة والرابعة محاور متعددة حول فن القصة القصيرة، من خلال قراءات ونقاشات نقدية شارك فيها عددٌ من الكتّاب والمهتمين بالأدب.

وخلال الفترة من 26 إلى 29 ديسمبر الحالي سوف تشهد مدينة العريش بشمال سيناء انطلاق فعاليات المؤتمر العام لأدباء مصر في دورته السابعة والثلاثين، دورة الأديب الراحل محمد جبريل.

وكان وزير الثقافة قد أعلن اختيار محافظة شمال سيناء عاصمة للثقافة المصرية لعام 2026 وذلك عقب موافقة محافظ شمال سيناء على مقترح استضافة العريش للدورة الحالية من المؤتمر، تقديراً للمكانة الرمزية والثقافية للمحافظة.

ينظم المؤتمر الهيئة العامة لقصور الثقافة تحت عنوان: «الأدب والدراما... الخصوصية الثقافية والمستقبل»، ويعقد برئاسة السيناريست مدحت العدل. ويشارك في فعالياته نخبة من الأدباء والباحثين والأكاديميين من مختلف المحافظات، بهدف رصد وتوثيق المشهد الأدبي في ربوع الوطن، وتقديم رؤى نقدية وفكرية تسهم في مناقشة قضايا الثقافة المصرية المعاصرة، ودورها في تعزيز الوعي والإبداع، وذلك من خلال ستة محاور رئيسية تشمل جلسات بحثية وحلقات نقاشية متنوعة؛ منها «النص الشعري ومفردات الخصوصية الثقافية»، من خلال قراءة تطور الشعر المصري فصيحاً وعامياً عبر مراحله المختلفة، و«الرواية وصراع الهويات في المجتمع المصري»، عبر تحليل كيفية تناول الرواية المصرية لقضايا المجتمع وتنوعاته والقيم الوافدة إليه.

وعلى مستوى الفن أطلق «صندوق التنمية الثقافية» بوزارة الثقافة الدورة العاشرة من ملتقى القاهرة الدولي لفنون الخط العربي، بمشاركة نخبة من كبار الخطاطين والفنانين والباحثين من مصر وعدد من الدول العربية والأجنبية، وتخللتها ورش عمل لفهم جماليات الخط العربي، واختير شيخ الخطاطين المصريين خضير البور سعيدي قوميسيراً عاماً للدورة.

تحمل الدورة اسم الخطاط الراحل الحاج سيد عبد القادر «الحاج زايد» وذلك في إطار حرص وزارة الثقافة على تكريم رموز هذا الفن. وتستمر فعالياتها بقصر الفنون بدار الأوبرا من 18 إلى 28 ديسمبر الحالي، وأبدى المشاركون في الملتقى حرصهم على تعزيز مكانة الحرف العربي كأحد ركائز الهوية الثقافية في كل المجالات العلمية والفنية والزخرفية ومناقشة قضاياه المتنوعة، بخاصة ما بين الأصالة والتجديد. كما شهد الملتقى تكريم نخبة من كبار الخطاطين تقديراً لإسهاماتهم البارزة في خدمة فن الخط العربي، حيث يتم منح شهادات تقدير للمكرمين والفائزين من مصر وخارجها وضيوف الشرف، كما كرم الملتقى الفنان محمد بغدادي، تقديراً لدوره البارز في دعم الملتقى وفن الخط العربي.

الكاتبة سلوى بكر

ومن الأخبار المفرحة في هذا العام حصول الكاتبة الروائية سلوى بكر على جائزة «بريكس» الأدبية في دورتها الأولى، لتكون بذلك أول فائزة في تاريخ الجائزة.

تدعم الجائزة المؤلفين المعاصرين الذين تعكس أعمالهم القيم الثقافية والروحية لشعوب دول بريكس. وأعلنت نتائج التصويت من قبل لجنة تحكيم دولية خلال مهرجان الفنون لدول بريكس، الذي أُقيم في مدينة خاباروفسك الروسية بين 26 و30 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وحضر الحفل ممثلون من حكومة إقليم خاباروفسك، ودبلوماسيون، وكتّاب، وناشرون، وأفراد من المجتمع المدني من دول بريكس وشركائها.

وفي هذا السياق، قال السفير الرسمي لجائزة بريكس الأدبية والمدير العام للمجموعة الإعلامية الأوراسية، سيرغي ديمينسكي، إن «اختيار سلوى بكر كأول فائزة بجائزة بريكس الأدبية يعد إشارة إلى الناشرين والمؤسسات الثقافية في دولنا. وأنا واثق من أن أعمالها ستُترجم إلى اللغة الروسية، وسيصبح اسمها معروفاً في دول بريكس ليس فقط لأعضاء الدائرة الضيقة من المتخصصين في الأدب المعاصر، بل أيضاً لجمهور أوسع من القراء».

واحتفاء بفوزها استقبلها وزير الثقافة الدكتور أحمد هنو بمكتبه وسلمها درع الوزارة... تنتمي سلوى بكر لجيل السبعينيات في مصر، وصدر لها سبع مجموعات قصصية وسبع روايات ومسرحية، وترجمت أعمالها إلى عدد من اللغات الأوروبية.