مصعب أبو توهة... عبَر من غزة إلى نيويورك في «طريق غير آمن»

الكاتب والشاعر يتسلّم قريباً جائزة «بوليتزر» الممنوحة للمرة الأولى لفلسطيني

مصعب أبو توهة خرج من غزة في نوفمبر 2023 ويحلم بالعودة إليها (صور الشاعر)
مصعب أبو توهة خرج من غزة في نوفمبر 2023 ويحلم بالعودة إليها (صور الشاعر)
TT

مصعب أبو توهة... عبَر من غزة إلى نيويورك في «طريق غير آمن»

مصعب أبو توهة خرج من غزة في نوفمبر 2023 ويحلم بالعودة إليها (صور الشاعر)
مصعب أبو توهة خرج من غزة في نوفمبر 2023 ويحلم بالعودة إليها (صور الشاعر)

في غزة، ترك مصعب أبو توهة خلفه الورود التي زرعها والده أمام باب الدار، ورائحة قالب حلوى عيد ميلاده الذي حضّرته أمّه في الخيال. ودّع الكاتب والشاعر الفلسطيني أول دفاتره، ولم يتسنَّ له الالتفات مرةً أخيرة إلى ألبومات الذكريات. فالمنزل في بيت لاهيا صار ركاماً، والرحيل ترفٌ كبير لا يمكن رفضه. حمل معه نسخةً مهترئة من ديوانه الشعري الأول وسار من جباليا إلى معبر رفح، متأبطاً حقيبة وعائلته الصغيرة: زوجته مرام، وأولاده مصطفى، ويزن، ويافا.

كانت الحرب قد شارفت على شهرها الثالث، والأطفال في عين القذائف والغارات الإسرائيلية على غزة، فاقتضى الرحيل. مصطفى الابن البكر يحمل الجواز الأميركي، لأنه وُلد في نيويورك يوم كان مصعب (32 عاماً) يتخصص في الكتابة الإبداعية في جامعة سيراكيوز.

وُلد أبو توهة في بيت لاهيا ولم يخرج من غزة قبل سن الـ26 للتخصص في أميركا (صور الشاعر)

طريق الخروج المحفوف بالنيران والإذلال والرعب، هو أكثر ما يتذكّره الكاتب عن أيامه الأخيرة في غزة نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) 2023. «أما المشهد الذي لا يفارق خيالي»، يخبر أبو توهة «الشرق الأوسط» في حوارٍ خاص عبر الفيديو بين نيويورك وبيروت، «فهو عندما توقَّفتْ بنا الشاحنة حيث كنت مختطفاً من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي. سمعتُ صوت إطلاق رصاص متقطّعاً، وظننت أنّ لحظة تصفيتي قد حانت. صلّيت حينها كي يتوقف قلبي عن الخفقان».

«طريقٌ غير آمن». عنوانٌ سردَ تحته أبو توهة القصة كلها؛ منذ الصاروخ الأول الذي أطلقته «حماس» على إسرائيل صباح 7 أكتوبر، حتى وصوله والعائلة إلى منزل إحدى الصديقات في مصر بعد الإفراج عنه وعبور معبر رفح. تلك اليوميات، بما فيها من اعتقالٍ وتعذيبٍ وتجريدٍ من الملابس على أيدي الجنود الإسرائيليين، وجدت لنفسها مساحةً على صفحات مجلة «نيويوركر» الأميركية العريقة.

وثّق أبو توهة رحلة خروجه من غزة ونشرها إلى جانب مقالات أخرى في مجلة «نيويوركر»

نشر الكاتب الرواية كاملةً بالإنجليزية، وهي اللغة التي تعمّد الكتابة بها منذ سطوره الأولى «لأنني أريد مخاطبة مَن تسبّبوا بنكبتنا وحكاياتنا المأساوية باللغة التي يفهمون»، يوضح أبو توهة.

«شقتنا في مدينة بيت لاهيا شمال قطاع غزة تقع في الطابق الثالث. فوقنا وتحتنا يسكن إخوتي، ويعيش والداي في الطابق الأرضي. يربّي والدي الدجاج والأرانب في الحديقة. وعندي مكتبة مليئة بالكتب التي أحب». يقرّ أبو توهة في المقال الطويل بأن قرار الرحيل كان صعباً. ضاعفه صعوبةً الشعورُ بالذنب حيال الأهل الباقين تحت الحديد والنار والظلم.

مصعب أبو توهة مع زوجته مرام وأولاده مصطفى ويزن ويافا (صور الشاعر)

اليوم، ينظر من شقته الصغيرة في القارة البعيدة إلى الركام والجثث. تؤرقه المَشاهد الواردة من غزة عبر هاتفه لحظةً بلحظة. يعاني حبرُه الشحّ منذ شهرين بداعي الخيبة. يحدث أن يتساءل عن الجدوى من الكتابة أمام تلك الفظائع. ثم يتذكّر المنبر الذي سيقف عليه الشهر المقبل ليتسلّم جائزةً تُمنح للمرة الأولى لكاتبٍ من فلسطين. سيرفع مصعب أبو توهة جائزة «بوليتزر» المرموقة عن فئة التعليق الصحافي. من بين منشوراتٍ كثيرة، اختيرت مجموعة المقالات التي نشرها في «نيويوركر»، والتي وثّق فيها رحلة الخروج من القطاع المُدمَّر.

بيُسراه سيلتقط شهادة «بوليتزر»، أما يُمناه فسيضعها على صدره ليشهدَ لغزّة أمام الحضور المحتشد من كل أنحاء العالم. يقول أبو توهة إن جائزة «بوليتزر» نقطة تحوّل في مسيرته. ويوضح: «هي ليست مهمة بسبب قيمتها المعنوية والمهنية فحسب، بل لأنها تشكّل اعترافاً بي بصفتي فلسطينياً. كما يحمّلني هذا التكريم مسؤوليةً بأن أرفع مزيداً من الأصوات من غزة».

أمام فيديوهات الأبراج المتداعية وصور أشلاء الأطفال وحبّات الطحين الملطّخة بالدم، غالباً ما تصمت الكلمة ويجفّ الحبر. «لكن في الوقت ذاته أحاول أن أذكّر نفسي بأنّ الكتابة هي الأسلوب الوحيد الذي يمكّنني من إحياء قصص ناسٍ حُكم عليهم بالإبادة». يضيف أبو توهة: «حتى لو لم تُغيّر الكتابة الواقع، فإنها تمنح صوتاً للضحايا الذين اختفت أصواتهم إلى الأبد».

في رصيد أبو توهة ديوانا شعر بالإنجليزية وواحد بالعربية (صور الشاعر)

لطالما كان الشِّعر بالنسبة إلى مصعب أبو توهة مخضّباً بالدم، تفوح منه رائحة البارود ويعبق فيه الوردُ في آنٍ معاً. زارته القصيدة للمرة الأولى وهو في مطلع العشرينات، عندما كانت إسرائيل تقصف غزة عام 2014. ودّع 3 من أصدقائه برثاءٍ مكتوب بالإنجليزية، ونظم أبياتاً للأزهار النابتة من قلب ركام بيته المدمّر.

«لا تتفاجأ أبداً

إن رأيتَ وردةً تنبت

بين أنقاض المنزل:

هكذا نجَونا»

هو الذي كان محكوماً عليه بالبقاء تحت سماءٍ لا تحلّق فيها سوى طائرات عسكرية ومسيّرات، سافرَ عبر الكتابة والكتب. في الـ25 من عمره، أسّس «مكتبة إدوارد سعيد في بيت لاهيا مساحةً للتبادل الإنساني والثقافي». لحقها فرعٌ ثانٍ عام 2019 في حي النصر في مدينة غزة. لم يبقَ من المكتبتَين اليوم سوى أوراقٍ ممزّقة ومحترقة، وكتبٍ عالقة تحت الأنقاض.

مكتبة إدوارد سعيد التي أسسها أبو توهة عام 2017 في غزة قبل أن تدمّرها إسرائيل (صور الشاعر)

بين أنقاض غزة ووسط رعبها وأخطارها، بقي والد مصعب كذلك وعددٌ من أشقائه وأفراد عائلة زوجته. من تغريبته الأميركية، لا يدّخر جهداً للتواصل اليومي معهم ومساندتهم معنوياً ومادياً. صحيحٌ أنّ النجاة انعكست شعوراً بالذنب تجاههم خلال الفترة الأولى، «إلا أنّ ما يخفف عني هو أنني أرفع صوتهم والغزّيين جميعاً من هنا، وهذا ما كنت لأستطيع أن أفعله في غزة». يوضح أبو توهة أن منشوراته ومحاضراته ولقاءاته وزياراته إلى مقر الأمم المتحدة وسواها من مراكز قرار، كلها مكرّسة «لسَرد حكايات العائلات التي أُبيدت، ونقل قصص الناجين».

أبو توهة محاضراً في واشنطن (صور الشاعر)

على ورقةٍ أمامه، يرسم شجرة عائلة لم يبقَ أحدٌ من أفرادها ليخبر بالفظائع. يهجس بتلك الأشجار التي اقتُلعت من جذورها. لا يريد لحكايات المأساة أن تصمت، مع أنّ الكلام بات يشكّل مخاطرة. يخوض مصعب أبو توهة حربه الخاصة في أميركا وسط «تهديدات بالترحيل بتحريضٍ من جماعات صهيونية متطرفة».

رغم ذلك، فهو يُبقي نوافذه مفتوحة لمنابر لا تقمع الأصوات الحرة، ولمزيدٍ من دواوين الشعر حيث ينبت العشب من الشظايا، ولحلمٍ لا يفارق خياله: العودة إلى غزة.


مقالات ذات صلة

محمود البريكان... شعرية الاغتراب

ثقافة وفنون محمود البريكان... شعرية الاغتراب

محمود البريكان... شعرية الاغتراب

تجربة الشاعر محمود البريكان، بوصفه أحد شعراء الحداثة العراقيين، المجايلين للشاعر بدر شاكر السياب، منذ خمسينات القرن الماضي، تجربة شعرية متفردة إلى حدٍ كبير.

فاضل ثامر
الوتر السادس مصطفى الجارحي: أغنياتي مُحمّلة بطاقات شعرية لا تخضع لحسابات السوق

مصطفى الجارحي: أغنياتي مُحمّلة بطاقات شعرية لا تخضع لحسابات السوق

كان لأغنيات الشاعر مصطفى الجارحي التي لحنها وغناها الفنان مصطفى رزق، مطرب الجاز المصري، حضور كبير في النسيج الدرامي لمسلسل «ولاد الشمس».

حمدي عابدين (القاهرة)
كتب ركائز الخطاب الشعري في أعمال الأبنودي

ركائز الخطاب الشعري في أعمال الأبنودي

صدر حديثا عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر كتاب «عبد الرحمن الأبنودي: شاعر الهوية المصرية» للناقد الدكتور رضا عطية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة

«تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة

يبدو ديوان «تجرحني بخفة وتعلو»، للشاعر المصري جمال القصاص، منذ عنوانه مفتوحاً على احتمالات تأويلية متعددة.

عمر شهريار
يوميات الشرق الشاعر ناصر بن جرّيد (صور متداولة للراحل)

الشاعر ناصر بن جرّيد… عبَر سكة التائهين ثم رحل

فقد الوسط الفني والثقافي والأدبي والرياضي في السعودية، الشاعر والأديب ناصر بن جرّيد، بعد معاناة مع المرض، تاركاً إرثاً لافتاً جمع بين الموهبة والإبداع.

بدر الخريف (الرياض)

زوجان بريطانيان يفوزان بجائزة يانصيب بمليون إسترليني للمرة الثانية

حقق ريتشارد ديفيز وفاي ستيفنسون-ديفيز فوزهما الكبير الثاني في سحب اليانصيب في نوفمبر (وكالة الأنباء البريطانية)
حقق ريتشارد ديفيز وفاي ستيفنسون-ديفيز فوزهما الكبير الثاني في سحب اليانصيب في نوفمبر (وكالة الأنباء البريطانية)
TT

زوجان بريطانيان يفوزان بجائزة يانصيب بمليون إسترليني للمرة الثانية

حقق ريتشارد ديفيز وفاي ستيفنسون-ديفيز فوزهما الكبير الثاني في سحب اليانصيب في نوفمبر (وكالة الأنباء البريطانية)
حقق ريتشارد ديفيز وفاي ستيفنسون-ديفيز فوزهما الكبير الثاني في سحب اليانصيب في نوفمبر (وكالة الأنباء البريطانية)

حقق زوجان محظوظان بشكل استثنائي فوزاً غير مسبوق بجائزة مليون جنيه إسترليني في اليانصيب في بريطانيا - للمرة الثانية.

وفاز ريتشارد ديفيز، 49 عاماً، وفاي ستيفنسون-ديفيز، 43 عاماً، بالجائزة الكبرى المكونة من سبعة أرقام في لعبة «يورومليونز مليونير ميكر» في يونيو (حزيران) 2018. وها هما الآن يكرران الإنجاز بمطابقة خمسة أرقام رئيسية والرقم الإضافي في سحب اليانصيب الذي أُجري في 26 نوفمبر (تشرين الثاني) - وهي فرصة ضئيلة للغاية، وفقاً للخبراء.

وقالت فاي، من وسط ويلز: «كنا نعلم أن احتمالية تكرار هذا الفوز ضئيلة للغاية، لكننا دليل على أن الإيمان يجعل أي شيء ممكناً».

وأوضح ريتشارد، لم يكن فوزهم الثاني مجرد اختيار الأرقام الصحيحة. وقال: «لقد تحقق لنا ذلك من خلال سلسلة من أربع سحوبات متتالية لليانصيب»، وفق ما أفادت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي).

وقال: «عندما تُطابق رقمين في سحب اليانصيب، تربح تلقائياً جائزة «لاكي ديب» للعبة التالية، وهذا ما حدث لنا.

طابقنا رقمين وفزنا بجائزة «لاكي ديب» مجانية من سحب سابق، مما أهّلنا للسحب التالي، وهكذا دواليك، حتى السحب الفائز في 26 نوفمبر».

ووفقاً لخبراء شركة «ألوين»، المشغلة لليانصيب الوطني، فإن احتمالات فوز ريتشارد وفاي بجائزة «يورومليونز مليونير ميكر» ثم خمسة أرقام والكرة الإضافية في اللوتو تتجاوز 24 تريليون إلى واحد.

ومع ذلك، من غير المرجح أن تُغيّر هذه الجائزة الأخيرة من توجه الزوجين نحو خدمة المجتمع. إذ يستخدم ريتشارد، مصفف الشعر السابق، مهاراته في مأوى للمشردين في كارديف، وهو مشروع تلقى تمويلاً حيوياً من اليانصيب الوطني، كما يُساعد أصدقاءه بالعمل سائق توصيل.

وتعمل الممرضة السابقة فاي طاهيةً متطوعةً في مطبخ سيجين هيدين المجتمعي في كارمارثين، كما تقدم خدمات الاستشارة النفسية لمنظمات محلية مثل جمعية بريكون آند ديستريكت مايند الخيرية. وقالت فاي، التي ستعمل حتى في يوم عيد الميلاد: «في المرة الأولى التي فزنا فيها، قدمنا ​​سيارات كهدايا، وتبرعنا بحافلة صغيرة لفريق الرجبي المحلي، وبذلنا قصارى جهدنا لمساعدة الأصدقاء والعائلة». وأضافت: «كان الأمر جديداً تماماً، وكان من الرائع أن نتمكن من إحداث فرق». وأردفت: «هذه المرة، من يدري؟ سنأخذ وقتنا ونستمتع باللحظة».

وفي حديثه على إذاعة «بي بي سي»، قال ريتشارد: «إن إعلان فوزنا هذه المرة لم يكن قراراً سهلاً». وقال: «منذ الفوز الأول، شاركنا في العديد من الفعاليات المتعلقة باليانصيب والجمعيات الخيرية». وأضاف: «هناك الكثير من الخير في العالم، بينما تسود الأخبار الكئيبة والمحبطة هذه الأيام. إنها حقاً جرعة من البهجة».

وقال آندي كارتر، كبير مستشاري الفائزين في شركة ألوين: «ما زلت أتذكر اليوم الذي التقيت فيه بريتشارد وفاي لأول مرة، ومن دواعي سروري أن أكون معهما وهما يحتفلان بفوزهما الثاني بجائزة مليون جنيه إسترليني». وأضاف: «لقد لمستُ الأثر الإيجابي للفوز الأول، وأعلم أن هذا الفوز الثاني سيكون له نفس القدر من الأهمية».


خيرية نظمي لـ«الشرق الأوسط»: حياتي الفنّية بدأت بعد الخمسين

خيرية نظمي في مشهد من فيلم «هجرة» (الشرق الأوسط)
خيرية نظمي في مشهد من فيلم «هجرة» (الشرق الأوسط)
TT

خيرية نظمي لـ«الشرق الأوسط»: حياتي الفنّية بدأت بعد الخمسين

خيرية نظمي في مشهد من فيلم «هجرة» (الشرق الأوسط)
خيرية نظمي في مشهد من فيلم «هجرة» (الشرق الأوسط)

في مسيرة بعض الممثلين، تأتي الأدوار المهمّة في وقت متأخر، وهو ما حصل مع الممثلة السعودية خيرية نظمي، بطلة فيلم «هجرة»، التي تحدَّثت بشفافية لـ«الشرق الأوسط»، قائلةً: «حياتي الفنّية بدأت بعد الخمسين»، مُعبّرةً عن سعادتها الغامرة بهذه التجربة التي نقلتها إلى منطقة مختلفة، بوصفها ثمرة رحلة طويلة من التراكم الفنّي والتجربة الإنسانية.

بطولة «هجرة» جاءت في مرحلة شعرت فيها خيرية بأنّ علاقتها بالتمثيل أصبحت أوضح وأكثر هدوءاً. وتتحدَّث عن هذه التجربة بثقة، مؤكدةً أن مرحلة ما بعد الخمسين حوَّلت العمر من مجرّد رقم إلى رصيد من المشاعر والمواقف والقدرة على قراءة الشخصيات بعمق، ممّا غيّر زاوية نظرها للأمور، وجعل اختياراتها أكثر وعياً ومسؤولية.

وللمرة الأولى، سارت خيرية نظمي على السجادة الحمراء في مهرجانات عالمية بصفتها نجمة سينمائية عبر بطولتها فيلم المخرجة شهد أمين «هجرة»، الذي كان عرضه العالمي الأول في مهرجان البندقية، وهناك حصد جائزة «نيتباك» لأفضل فيلم آسيوي، ثم واصل حضوره في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» بجدة، ليفوز بجائزتين هما «جائزة اليسر من لجنة التحكيم» وجائزة «فيلم العلا لأفضل فيلم سعودي».

خيرية، التي التقتها «الشرق الأوسط» في «البحر الأحمر»، تُشير إلى أن الفرق بين الأدوار الرئيسية وتحمُّل بطولة كاملة يكمُن في الإيقاع اليومي للتصوير، وفي الالتزام الجسدي والنفسي المستمرّ، قائلةً: «التصوير في (هجرة) امتد ساعات يومياً، وعلى مدى شهرين ونصف الشهر تقريباً، وهو ما تطلَّب جهداً مضاعفاً، وانغماساً كاملاً في الشخصية». هذا التعب، كما تصفه، أثمر لاحقاً مع خروج الفيلم إلى الجمهور، وظهور ردود الفعل في العروض الأولى، والإشادات التي ركّزت على الأداء والنظرة والتعبير الصامت.

خيرية نظمي على السجادة الحمراء (مهرجان البحر الأحمر)

سنوات من الكوميديا

قبل «هجرة»، رسَّخت خيرية حضورها في الأعمال الكوميدية، وتتوقَّف عند هذه المرحلة بكونها مدرسة أساسية في مسيرتها، تعلَّمت خلالها الإيقاع، والتوقيت، والقدرة على التقاط التفاصيل الصغيرة. وتستذكر تجربتها في مسلسل «سكة سفر» من خلال شخصية «بركة»، التي تقول إنها كانت قريبة من روحها، وتفاعلت معها بعفوية عالية. تبتسم وهي تتحدَّث عن «بركة»، مضيفةً: «هذه الشخصية خرجت مني بشكل تلقائي»، موضحةً أنها تعاملت مع النص بطاقة مفتوحة، وسمحت للارتجال بقيادة كثير من اللحظات. هذا التفاعل العفوي، كما ترى، وصل إلى الجمهور السعودي والعربي، وصنع حالة قبول واسعة، وأكد قدرتها على حمل الدور الكوميدي وصناعة شخصية تعيش خارج إطار الحلقة.

وتشير إلى أنّ «سكة سفر» شكّل إحدى أبرز تجاربها، ضمن مسار متنوّع سبقها، مؤكدةً أنّ انغماسها في الكوميديا أثبت نجاحه، وساعدها على بناء علاقة مباشرة مع الجمهور، وهي مرحلة منحتها ثقة إضافية، ووسَّعت أدواتها، إذ ترى أنّ الكوميديا فنّ يحتاج إلى حسّ داخلي عالٍ وصدق في الأداء.

خيرية نظمي وحفيدتها في الفيلم لمار فادن في مشهد من «هجرة» (الشرق الأوسط)

«هجرة»... اختبار العمق

في تلك المرحلة، كانت خيرية تتطلَّع إلى تنويع أدوارها، وتؤمن بأن التنقّل بين الأنواع يكشف عن جوانب مختلفة من الموهبة، ويمنح الممثل فرصة أوسع للتجريب. هذا التطلُّع قادها إلى أدوار تحمل ثقلاً مختلفاً، وتضعها أمام تحدّيات جديدة، خصوصاً في الدراما، وهو ما وجدته في فيلم «هجرة»، إذ انتقلت إلى منطقة أكثر كثافة، ودور يعتمد على الحضور الداخلي أكثر من الحوار المباشر.

في «هجرة»، قدَّمت شخصية «ستي»، الجدّة التي تعتزم الذهاب إلى الحج برفقة اثنتين من حفيداتها، وفي أثناء الرحلة تضيع إحداهن، فتتحمّل مسؤولية البحث عنها. وهي شخصية مركّبة، حازمة في ظاهرها، قوية في مواقفها، وتحمل في داخلها ضعفاً إنسانياً واضحاً. وتصف خيرية هذا التركيب بأنه «تحدٍّ حقيقي، لأنّ التوازن بين الصلابة والانكسار يحتاج إلى وعي نفسي دقيق، وقدرة على الإمساك بالتفاصيل الصغيرة».

وتضيف: «كثير من المَشاهد اعتمد على النظرة أكثر من الكلمة، وعلى الصمت أكثر من الحوار»، مؤكدةً أنّ ذلك جاء نتيجة مباشرة للتدريب والتحضير المُسبَق. وتولي خيرية أهمية كبيرة لمرحلة التحضير، مشيرةً إلى أنّ وجود المُخرجة شهد أمين، وحرصها على بناء الشخصية من الداخل إلى الخارج، صنعا فارقاً واضحاً في الفيلم الذي اختارته المملكة لتمثيلها في سباق «الأوسكار» لعام 2026.

ترى خيرية أنّ فيلم «هجرة» يشكّل مرحلة تحوّل في مسيرتها الفنّية (مهرجان البحر الأحمر)

رَمش العين... التحدّي الأكبر

تتوقف خيرية عند تفصيل صغير، وتبتسم وهي ترويه، موضحةً أنّ المخرجة طلبت منها تخفيف الرَّمش، لأن الكاميرا الكبيرة تلتقط كل حركة. في البداية، شعرت بالغرابة، ثم عادت إلى البيت وهي تفكر في وجهها، وفي عادات ملامحها، وفي تفاصيل تؤدّيها تلقائياً. وتضحك وهي تقول إنّ عضلات وجهها اعتادت الابتسامة حتى في لحظات السكون، كأنّ الوجه تعلَّم هذا التعبير مع الزمن.

وتؤكد أن شخصية «ستي» احتاجت إلى وجه جامد، ونظرة ثابتة، وحضور صامت يخلو من أي ليونة. التحكُّم في رمشة العين، كما تقول، تحوّل إلى تمرين يومي ومحاولة واعية للسيطرة على فعل طبيعي، مضيفةً: «هذه التجربة جعلتني أدرك أنّ التحكُّم في النظرة يكشف عن جوهر الممثل أكثر من التحكُّم في الكلام أو الحركة، لأنّ العين تفضح الإحساس قبل أن يُقال».

تحدَّثت خيرية نظمي عن أصعب اللحظات التي واجهتها خلال التصوير (إنستغرام)

طبقات الحزن والفرح

عند الحديث عن التوحُّد مع الشخصية، تتحدَّث خيرية عن علاقتها بالألم الشخصي، وتقول: «كلّ إنسان يحمل في داخله تجارب موجعة». وتستدعي هذه التجارب خلال الأداء، بما يمنح المشهد صدقاً داخلياً ويجعل التعبير أقرب إلى الواقع. كما توضح أنّ هذا الإحساس رافقها بعد انتهاء التصوير، مع استمرار جولات الفيلم في المهرجانات، وردود الفعل التي تلقتها من الجمهور.

وعن المرحلة المقبلة، تتحدَّث بنبرة هادئة وحاسمة، مؤكدةً أنّ خياراتها تتّجه نحو أدوار تحمل عمقاً حقيقياً، وتمنحها فرصة لاكتشاف مساحات جديدة في أدائها، قائلة: «كلّما كان الدور أقوى، ازدادت حماستي له، لأني أرى في التحدّي جوهر التجربة الفنية».

وتتوقّف عند تقييمات المخرجين والمنتجين، التي تعدّها مرآة مهمّة لتطورها، مشيرةً إلى أنّ أحدهم قال لها إنّ من أبرز نقاط قوتها قدرتها على خلق طبقات متعدّدة من الحزن والفرح، بما يمنح المخرج مرونة كبيرة في بناء المشهد، سواء احتاج إلى إحساس هادئ، أو دمعة واحدة، أو انفعال كامل.

وفي ختام حديثها، تعود خيرية إلى فكرة السلام الداخلي، مؤكدةً أنها تعيش حالة رضا وتصالح مع الذات، وترى أنّ هذا الشعور انعكس على أدائها، ومنحها حضوراً أكثر هدوءاً وثباتاً أمام الكاميرا. هذا السلام، في رأيها، يرتبط بمرحلة نضج إنساني يصل إليها الإنسان بعد رحلة طويلة من التجربة، وفي هذه المرحلة يصبح التعبير أكثر صدقاً، ويصبح الصمت أبلغ، وتصل الأدوار في توقيتها الصحيح.


مهندسة ألمانية تصبح أول مستخدم لكرسي متحرك يقوم برحلة إلى الفضاء

ميشيلا بنتهاوس تغادر كبسولة صاروخ «نيو شيبرد» إلى كرسيها المتحرك (رويترز)
ميشيلا بنتهاوس تغادر كبسولة صاروخ «نيو شيبرد» إلى كرسيها المتحرك (رويترز)
TT

مهندسة ألمانية تصبح أول مستخدم لكرسي متحرك يقوم برحلة إلى الفضاء

ميشيلا بنتهاوس تغادر كبسولة صاروخ «نيو شيبرد» إلى كرسيها المتحرك (رويترز)
ميشيلا بنتهاوس تغادر كبسولة صاروخ «نيو شيبرد» إلى كرسيها المتحرك (رويترز)

أصبحت مهندسة ألمانية، أول مستخدم لكرسي متحرك يخرج إلى الفضاء، بعد قيامها برحلة قصيرة على متن مركبة تابعة لشركة «بلو أوريجين».

وأطلقت الشركة المملوكة للملياردير الأميركي جيف بيزوس، صاروخها «نيو شيبرد» في مهمة جديدة شبه مدارية في تمام الساعة 8,15 صباحاً (14,15 بتوقيت غرينتش) من قاعدتها في تكساس.

بنتهاوس تتحدث إلى هانز كونيغسمان المدير التنفيذي المتقاعد من شركة «سبيس إكس» الذي ساعد في تنظيم رحلتها ورعايتها (ا.ب)

واجتازت ميشيلا بنتهاوس، مهندسة الطيران والفضاء والميكاترونيكس في وكالة الفضاء الأوروبية، مع خمسة سياح فضائيين آخرين خط كارمان الذي يشكل الحد الفاصل بين الغلاف الجوي والفضاء في الرحلة التي استغرقت نحو 10 دقائق.

المهندسة الألمانية ميشيلا بنتهاوس داخل نموذج أولي لكبسولة فضائية يوم الاثنين 15 ديسمبر (ا.ب)

وتستخدم ميشيلا بنتهاوس الكرسي المتحرك نتيجة تعرضها لإصابة في النخاع الشوكي إثر حادث دراجة هوائية جبلية.

وقالت في مقطع فيديو نشرته شركة «بلو أوريجين»: «بعد الحادث الذي تعرضت له، أدركت بحق كم أن عالمنا لا يزال مغلقاً أمام الأشخاص من ذوي الإعاقة».

وأضافت: «إذا أردنا أن نكون مجتمعاً شاملاً، علينا أن نكون شاملين في كل جانب، وليس فقط في الجوانب التي نرغب أن نكون فيها كذلك».

وأقلع الصاروخ الذي يعمل بشكل آلي بالكامل نحو الفضاء، ثم انفصلت عنه الكبسولة التي تحمل السياح الفضائيين قبل أن تهبط برفق في صحراء تكساس.

وهذه هي الرحلة المأهولة الـ16 لشركة «بلو أوريجين» التي تقدم منذ سنوات برنامج رحلات سياحية فضائية بواسطة صاروخها «نيو شيبرد»، دون الاعلان عن كلفتها.

وبعث رئيس وكالة «ناسا» الجديد، جاريد ايزاكمان، بتهنئة إلى ميشيلا في منشور على منصة إكس، قائلاً: رلقد ألهمت الملايين للنظر إلى السماء وتخيل ما هو ممكن».

وسافر عشرات الأشخاص إلى الفضاء مع «بلو أوريجين»، بمن فيهم المغنية كايتي بيري، والممثل ويليام شاتنر الذي جسد شخصية الكابتن كيرك في مسلسل «ستار تريك».

ميشيلا بنتهاوس بعد هبوط كبسولة صاروخ «نيو شيبرد» (ا.ب)

وتسعى شركات الفضاء الخاصة التي تقدم رحلات فضائية إلى الترويج لخدماتها عبر الشخصيات المشهورة والبارزة، من أجل الحفاظ على تفوقها مع احتدام المنافسة.

وتقدم «فيرجن غالاكتيك» تجربة طيران فضائي مماثلة.

ولدى «بلو أوريجين» أيضاً طموحات لمنافسة شركة «سبايس إكس» التابعة لإيلون ماسك في سوق الرحلات الفضائية المدارية.

وهذا العام نجحت شركة بيزوس في تنفيذ رحلتين مداريتين بدون طاقم باستخدام صاروخها الضخم نيو غلين الأكثر تطوراً من «نيو شيبرد».