توربينات الرياح الطائرة تسحب الطاقة من أعالي السماء

شركة صينية ناشئة تنشرها في الغلاف الجوي العلوي للأرض

توربينات الرياح الطائرة تسحب الطاقة من أعالي السماء
TT

توربينات الرياح الطائرة تسحب الطاقة من أعالي السماء

توربينات الرياح الطائرة تسحب الطاقة من أعالي السماء

عادةً ما تبرز توربينات الرياح من سطح الأرض مثل طواحين هوائية عملاقة. واليوم، تستكشف شركة صينية شكلاً جديداً: توربينات الرياح الطائرة. وتحلق هذه الطائرات الشبيهة بالمنطاد عالياً في السماء، ولا يربطها بالأرض سوى عدد من الكابلات، حيث تُولّد تياراً مستمراً من الطاقة، بفضل الرياح القوية الموجودة في الطبقات العليا من الغلاف الجوي.

وبدلاً من البقاء تحت رحمة تقلبات الرياح على سطح الأرض -أحد التحديات الرئيسة التي تواجه التوربينات الثابتة اليوم- لن يتذبذب إنتاج الطاقة لدى توربينات الرياح الطائرة، بفضل ثبات تدفق الرياح بالطبقات العليا. ويمكن لهذا التصميم أن يحل بعضاً من كبرى مشكلات توليد طاقة الرياح، دون الحاجة إلى الاستثمار في بنية تحتية واسعة، ما يقلص البصمة البيئية لعملية توليد طاقة الرياح.

من «ناسا» إلى الصين

وتجدر الإشارة إلى أن هذا المفهوم طرح للمرة الأولى من قِبل مهندس صيني، كان من بين رواد «مختبر الدفع النفاث»، التابع لوكالة «ناسا»، في منتصف أربعينات القرن الماضي. ومع أن هذه الفكرة لم تصادف نجاحاً داخل الولايات المتحدة، تزعم اليوم شركة الطاقة الصينية الناشئة «ساويس» أنها جاهزة لنشر آلاف التوربينات الطائرة التي يمكنها إنتاج 100 كيلوواط، ما يكافئ إنتاج طواحين الهواء الأرضية التي تُغذي الآن كل شيء، من المنشآت التجارية الصغيرة ومتوسطة الحجم، والعمليات الزراعية، إلى المنشآت الصناعية، وحتى المشروعات البلدية الصغيرة.

علاوة على ذلك، تعكف «ساويس» على بناء نموذج جديد يُضاهي قدرات طواحين الهواء الأرضية التقليدية، مع توربين يمكنه توليد أكثر من واحد ميغاواط.

وتعود جذور فكرة طاقة الرياح الجوالة جواً إلى مهندس الفضاء والطيران تشيان شيويسن المولود في شنغهاي، والذي هرب من الصين في ثلاثينات القرن الماضي للدراسة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، قبل الانضمام إلى «الفرقة الانتحارية» الشهيرة في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، المعروف اختصاراً باسم «كالتيك» ـ وهي مجموعة من المهندسين المهووسين بالصواريخ، وضعوا أسس رحلات الفضاء الأميركية الحديثة.

كان شيويسن مهاجراً ذكياً، ساهم في إحدى أهم الثورات التكنولوجية الأميركية على مر العصور. إلا أن مسيرته المهنية في الولايات المتحدة انتهت تحت وطأة شكوك تعود إلى العهد المكارثي (عهد مكافحة الشيوعية). وبعد سنوات من الإقامة الجبرية، جرى ترحيله إلى الصين عام 1955، حيث أصبح الأب المؤسس لبرنامج الصواريخ والفضاء الصيني. وشكّلت أبحاثه الأساس الذي قامت عليه سلسلة صواريخ «لونغ مارش» التي جعلت من بكين قوة فضائية عظمى.

وكذلك كان ذلك الوقت الذي شهد طرح النظريات التي جعلت من الممكن تطوير توربينات الرياح الطائرة الحالية. عام 1957، اقترح شيويسن ما سماه «قناة ناشر القاذف ejector diffuser duct»، وهي نظرية مفادها بأنه يمكن تسريع تدفق الهواء عبر التوربين بشكل كبير من خلال إضافة غلاف دائري مُصمّم بعناية حوله.

يُحدث الأنبوب المصمم على شكل حلقة فرق ضغط (ضغط منخفض خلف التوربين، وضغط أعلى أمامه)، يسحب هواءً إضافياً نحو الشفرات. هذا التأثير الذي يُشبه خلق «حلق» أو «حلقوم» صناعي للرياح بمقدوره أن يعزز الكفاءة بقوة، دون الحاجة إلى شفرات أكبر، أو أبراج أطول. وفي حين تعتمد التوربينات الأرضية التقليدية، بشكل كامل، على مساحة الشفرات، فإن نموذج «ناشر القاذف» الذي ابتكره شيويسن يُضاعف بفعالية الرياح الصالحة للاستخدام، من دون زيادة وزن الهيكل.

آنذاك، بدت فكرة شيويسن غريبة. جدير بالذكر أنه في ذلك الوقت كانت التوربينات لا تزال مشروعات هندسية متخصصة، ولم يكن لدى مُخططي الطاقة حماس كبير تجاه التصميمات التجريبية. وعليه، لم تبدأ هذه التصميمات في التبلور إلا بعد ذلك بكثير.

أحلام مُحطمة

في مجمله، لم يكن الأمر سهلاً، فرغم روعة الأفكار، فإن هندستها وتصنيعها غالباً ما يكونان في غاية الصعوبة، ما أدى إلى وقوع حوادث كثيرة. على مر العقود، حاول الكثيرون تحويل توربينات الرياح الطائرة إلى آلات عاملة.

من جهتها، عكفت شركة «ألتاروس»، شركة فرعية تتبع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، على بناء منطاد مملوء بالهيليوم، ومزود في قلبه بتوربين رياح، على أمل أن يحلق على ارتفاع 2000 قدم لالتقاط رياح أسرع.

وعلى صعيد ثانٍ، نجحت شركة «كايت جين» الإيطالية في بناء نظام يشبه الطائرة الورقية يحلق على شكل رقم ثمانية، ويسحب المولدات على الأرض. حتى هذه اللحظة، لم يتجاوز النظام مرحلة النموذج الأولي.

أما شركة «ماكاني تكنولوجيز»، التي تأسست في منطقة خليج سان فرنسيسكو، واستحوذت عليها «غوغل» عام 2013، فقد جربت طائرة شراعية مربوطة ومزودة بدوارات، لكن الشركة تعرضت للإغلاق من جانب شركة «ألفابت» عام 2020. وحتى وكالة «ناسا» خاضت تجارب على هذه الأفكار. إلا أنه لم يكتب لأي منها النجاح على نطاق واسع، رغم أننا قد نرى طائرة ورقية تولد الكهرباء على المريخ، أو أي كوكب آخر يوماً ما.

اللافت أن كل تلك المحاولات جابهت المشكلات ذاتها: التعقيد الهندسي، واستقرار الطيران في ظل الرياح العاتية، والتصاريح الحكومية، وانخفاض تكاليف طاقة الرياح بسبب الغاز الطبيعي. إضافةً إلى ذلك، تُعدّ توربينات الرياح الثابتة مثالية للمنشآت الكبيرة، رغم تكلفتها، والوقت الذي تستغرقه، وتأثيرها البيئي.

* تيارات الهواء العليا أسرع بـ 3 مرات ويمكنها توليد طاقة أكبر بمقدار 27 مرة *

لماذا التوربينات الطائرة؟

تكمن جاذبية التوربينات الطائرة في قدرتها على التعامل مع رياح أقوى، وأكثر ثباتاً. جدير بالذكر أنه لا يمكن للأبراج التقليدية الوصول إلا إلى نحو 650 قدماً فوق سطح الأرض، حيث تتسم الرياح بالتقلب. على النقيض نجد أنه على ارتفاع 5000 قدم تتحرك تيارات الهواء أسرع بثلاث مرات، ويمكنها توليد طاقة أكبر بما يصل إلى 27 ضعفاً.

ولا تقتصر ميزة هذه التوربينات على إنتاجها النظري الثابت للطاقة فحسب، بل تتضمن كذلك ميزة قلة تكلفتها. إذ إن توربينات الرياح الثابتة تتسم بثمنها الباهظ، وتتطلب موارد هائلة في البناء والتركيب، بما يتجاوز بكثير تكلفة تصنيع الدوار والبرج وحدهما.

ويتطلب كل توربين أرضي مئات الأطنان من الفولاذ والخرسانة والمكونات الصناعية، بالإضافة إلى مواقع بناء ضخمة، وغالباً يحتاج إلى طرق جديدة، أو تفجير قمم الجبال لنقل المعدات، ووضعها في أماكنها. كما تتطلب التصميمات البحرية أبراجاً شبكية فولاذية تزن آلاف الأطنان، ومرافق بحرية متخصصة، وخدمات لوجستية معقدة.

وتترتب على هذه الاحتياجات من البنية التحتية آثار بيئية جسيمة: مساحات أرضية شاسعة تصل إلى 80 فداناً لكل توربين، واضطراب في الموائل، وتقييد الوصول إلى الأراضي، وشهور أو سنوات من التخطيط، وإصدار التصاريح، والبناء. وفي ظل الاستخدام المحدود حول التوربينات بسبب الضوضاء ومخاطر السلامة، تصبح أجزاء كبيرة من الأرض غير قابلة للاستفادة منها -حتى لأصحابها.

في المقابل، تزن التوربينات الطائرة، كتلك التي طورتها شركة «ساويس»، أقل من طن، ولا تتطلب أساساً دائماً، أو تنظيفاً للأرض، علاوة على أنه يمكن نشرها بسرعة، حيث لا يمكن للطاقة التقليدية الوصول إليها بأقل قدر من الاضطراب والتكلفة: حقول النفط النائية، والجزر الصغيرة، أو مناطق الكوارث، حيث تزداد أهمية السرعة والتنقل.

وشرعت شركة «ساويس» في أبحاثها على مولداتها الجوالة جواً، بالاعتماد على أفكار شيويسن، عام 2017. ودرست الشركة استخدام وسادة هوائية رئيسة من الهيليوم، مُدمجة مع جناح حلقي يُسرّع تدفق الهواء ويوجهه مباشرةً عبر المولدات المُدمجة، ما يُعزز الكفاءة نظرياً بأكثر من 20 في المائة.

وبحلول أكتوبر (تشرين الأول) 2024، أفادت التقارير بأن النموذج الأولي لطائرة S500 التابعة للشركة وصل إلى ارتفاع 1640 قدماً، وولّد 50 كيلوواط، مُحطماً بذلك الأرقام القياسية العالمية في الارتفاع والإنتاج، والتي كانت حتى ذلك الحين حكراً على فريق بحثي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وفي يناير (كانون الثاني) 2025، ضاعفت طائرة S1000 هذا الارتفاع، وتجاوزت عتبة 100 كيلوواط.

وتبقى هناك تحديات، فالسلامة، على سبيل المثال، لا تزال تطرح سؤالاً ملحاً. على تلك الارتفاعات، يُمكن أن تتخذ الرياح منحى عنيفاً بسرعة. في هذا الصدد، أوضح وينغ هانكي، كبير مسؤولي التكنولوجيا في «ساويس»، لصحيفة «ساوث تشاينا مورنينغ بوست»، الصادرة في هونغ كونغ، أن تكنولوجيا النظام المزدوج للشركة -الرادار على الأرض وأجهزة الاستشعار في الوسادة الهوائية- تضمن الاستقرار. وفي ظل الظروف القاسية «يمكن للنظام أن يهبط بسرعة في غضون خمس دقائق»، حسبما قال.

هناك كذلك مشكلة الهيليوم. في الواقع، تعمل هذه الأشياء بطريقة مشابهة لبالونات الطقس، ودائماً ما يكون هناك تسريب، ما يُثير الشكوك حول متانتها. من جهته، صرّح دان تيانروي، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة «ساويس» بأن تسرب الغاز في منطاد الشركة قد انخفض إلى درجة أنه يُمكنه البقاء في الهواء لأكثر من 25 عاماً.

وبحسب «ساويس»، بدأ الإنتاج بكميات كبيرة بالفعل في يويانغ التي تقع على بُعد قرابة 700 ميل جنوب شرقي بكين، بعقود تتجاوز قيمتها 70 مليون دولار. في الوقت نفسه، يتخطى طموح الشركة هذه الحدود.

المحطة التالية: طبقة الستراتوسفير

اليوم، تستعد «ساويس» لرحلة تجريبية لطرازها الجديد S1500. من جهته، زعم وينغ أن «نظام S1500 المُطوَّر حديثاً يتميز بقدرة توليد تبلغ نحو واحد ميغاواط، أي ما يعادل قدرة برج توربينات الرياح التقليدي بارتفاع 100 متر، ومن المقرر إطلاق رحلته التجريبية قريباً».

وأضاف: «تشكل الرياح على ارتفاعات عالية مصدر طاقة قوياً، وغير مستغل في الغالب... وبمجرد بناء هذه الأنظمة بأعداد كبيرة، يُمكن أن تكون الطاقة التي تُنتجها رخيصة، مثل توربينات الرياح العادية».

ويتميز التصميم بنفس هيكل الطائرة المُصمَّم على شكل حلقات مجرى هواء يُسرِّع تدفق الهواء. وفي الداخل، يعمل 12 مولداً صغيراً، وكلها مصنوعة من ألياف الكربون بالتوازي، وستُولِّد طاقة على نطاق واسع من وحدة يقل وزنها بنسبة 90 في المائة عن توربينات أبراج الفولاذ.

من ناحيتها، لدى شركة «تيانروي» تصور يدور حول أساطيل من مناطيد الرياح، مصممة من فئة ميغاواط واحد للإنتاج، تعمل في طبقة الستراتوسفير، على ارتفاع يزيد عن 32000 قدم، حيث يُقال إن طاقة الرياح أقوى 200 مرة من طاقة الرياح على الأرض. وعن ذلك، قال وينغ: «في ذلك الوقت، ستكون تكلفة الكهرباء عُشر ما هي عليه اليوم».

بوجه عام، تُبرز هذه الأحلام كلاً من الوعود والتحديات التي تنطوي عليها طاقة الرياح الجوالة جواً. لقد شهد العالم صعود شركات ناشئة في مجال طاقة الرياح الجوالة جواً، وكذلك سقوط البعض. ويعتمد نجاح شركة «ساويس»، حيث فشلت «غوغل» والشركات الناشئة التابعة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والمهندسون الأوروبيون، على عوامل الحجم، والاقتصاد، والقدرة على الاستمرار. وفي الوقت الحالي، تحمل الشركة الرقم القياسي لأعلى وأقوى توربين طائر على الإطلاق –وهو حلمٌ جرى رسم ملامحه لأول مرة قبل ما يقرب من 70 عاماً، وقد يكون جاهزاً أخيراً للتحليق.

• مجلة «فاست كومباني» خدمات «تريبيون ميديا»


مقالات ذات صلة

أبحاث الروبوتات… «ضلَّت طريقها»

تكنولوجيا رودني بروكس

أبحاث الروبوتات… «ضلَّت طريقها»

شكوك في قدرة الروبوتات وفي سلامة استخدام الإنسان لها

تيم فيرنهولز (نيويورك)
تكنولوجيا سماعات أمامية وجانبية لتجسيم الصوتيات وسماعة متخصصة في الصوتيات الجهورية بتقنية 5.1

دليل شامل لإعداد نظام الصوت المحيطي المثالي في منزلك

أفضل طريقة للتمتع بتجربة السينما الغامرة في المنزل

تكنولوجيا سماعات أمامية وجانبية لتجسيم الصوتيات وسماعة متخصصة في الصوتيات الجهورية بتقنية 5.1

دليل شامل لإعداد نظام الصوت المحيطي المثالي في منزلك

أفضل طريقة للتمتع بتجربة السينما الغامرة في المنزل

الاقتصاد جانب من اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين «موبايلي» والمنتدى الاقتصادي العالمي (الشرق الأوسط)

«موبايلي» تتعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي لتطوير الرقمنة بالسعودية

وقَّعت «موبايلي» اتفاقية تعاون استراتيجي مع المنتدى الاقتصادي العالمي، بهدف تطوير البنية التحتية الرقمية والمساهمة في تحقيق مستهدفات «رؤية 2030».

«الشرق الأوسط» (الرياض )
الخليج المهندس أحمد الصويان وأنطونيو غوتيريش يبحثان الموضوعات المشتركة وسُبل التعاون (هيئة الحكومة الرقمية)

غوتيريش يشيد بتقدم السعودية النوعي في الحكومة الرقمية

أشاد أنطونيو غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة، بما حققته السعودية من تقدم نوعي في مجال الحكومة الرقمية، عادّاً ما وصلت إليه نموذجاً دولياً رائداً.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
TT

دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة

لطالما كان توقيت وصول الإنسان الحديث إلى أستراليا وكيفية حدوث ذلك واحداً من الأسئلة المثيرة في تاريخ البشرية. وتشير دراسة جينية جديدة إلى أن البشر وصلوا إلى القارة القديمة المعروفة باسم «ساهول» قبل نحو 60 ألف عام، وقد سلكوا في ذلك مسارَيْن مختلفَيْن عبر البحر، في واحدة من أقدم الأدلة المعروفة على الملاحة البحرية المتعمدة.

وقد نُشرت نتائج الدراسة في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 بمجلة «Science Advances»، إذ دعّمت ما يُعرف بفرضية «التسلسل الزمني الطويل» التي تفترض أن أولى موجات الاستيطان البشري في أستراليا حدثت قبل ما بين 60 و65 ألف سنة، وليس في فترة لاحقة، كما افترضت بعض النظريات السابقة.

قارة قديمة ونقاش طويل

كانت «ساهول» (Sahul) قارة واحدة تضم ما يُعرف اليوم بأستراليا وغينيا الجديدة وتسمانيا. ومع ارتفاع مستويات البحار بعد العصر الجليدي الأخير قبل نحو 9 آلاف عام انفصلت هذه اليابسة إلى القارات والجزر الحالية.

وعلى مدى عقود اختلف العلماء حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى هذه المنطقة، ففي حين افترضت بعض الدراسات وصولاً متأخراً نسبياً قبل نحو 47 إلى 51 ألف عام، قدمت الدراسة الجديدة أدلة قوية على استيطان أقدم بكثير.

ويقول عالم الآثار كريستوفر كلاركسون، من جامعة غريفيث في أستراليا الذي لم يشارك في الدراسة، إن هذه أول دراسة شاملة تربط بين علم الآثار والوراثة والمناخ والملاحة البحرية، وتقدم حجة قوية للغاية حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى أستراليا.

تتبع الأصول عبر خط الأم

وقد اعتمد الباحثون على نوع خاص من الحمض النووي (دي إن إيه) DNA يُعرف بالحمض النووي للميتوكوندريا، الذي يُورث غالباً من الأم فقط. وتُعد هذه المادة الوراثية أداة مهمة لتتبع السلالات البشرية عبر آلاف الأجيال.

وحلل الفريق الجينومات الميتوكوندرية لنحو ألف شخص معظمهم من السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة إلى جانب نحو 1500 جينوم منشور سابقاً. ومن خلال تتبع الطفرات الوراثية الصغيرة تمكّن الباحثون من إعادة بناء سلالات بشرية قديمة تعود إلى نحو 60 ألف عام.

مساران للهجرة نحو «ساهول»

ومن أبرز نتائج الدراسة أن البشر الأوائل لم يصلوا إلى «ساهول» عبر طريق واحد فقط بل عبر مسارَين مختلفين في الفترة الزمنية نفسها تقريباً.

كما يرجّح الباحثون أن إحدى المجموعتَين سلكت مساراً شمالياً عبر ما يُعرف اليوم بالفلبين وشرق إندونيسيا، في حين جاءت مجموعة أخرى عبر مسار جنوبي انطلقت فيه من جنوب شرق آسيا القارية مع عبور مساحات من البحر المفتوح.

وتشير النتائج إلى أن معظم السلالات الحية اليوم بين السكان الأصليين لأستراليا وغينيا الجديدة تعود إلى أسلاف اتبعوا المسار الشمالي.

ويقول عالم الآثار، آدم بروم، من جامعة غريفيث الأسترالية الذي لم يشارك أيضاً في الدراسة، إن هذه النتائج تقدم دعماً قوياً لفكرة أن المسار الشمالي كان المفتاح في الاستيطان الأول لأستراليا، مشيراً إلى اكتشافات حديثة لفنون كهوف قديمة جداً في إندونيسيا تدعم هذا الطرح.

أصل أفريقي واحد

وعلى الرغم من اختلاف المسارات تشير الدراسة إلى أن المجموعتَين تنحدران من سلالة بشرية واحدة خرجت من أفريقيا قبل نحو 70 إلى 80 ألف عام. ويُعتقد أن هذا الانقسام حدث في جنوب أو جنوب شرق آسيا قبل 10 إلى 20 ألف عام من الوصول إلى «ساهول».

ويؤكد الباحث المشارك في كلية العلوم التطبيقية بجامعة هدرسفيلد في المملكة المتحدة، مارتن ريتشاردز، أن السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة يمتلكون أقدم سلالة بشرية متصلة خارج أفريقيا دون انقطاع.

دليل مبكر على الملاحة البحرية

ولا تقتصر أهمية الدراسة على الجانب الجيني فحسب، بل تسلط الضوء أيضاً على القدرات التقنية للإنسان القديم، فالوصول إلى «ساهول» تطلّب عبور مسافات طويلة من البحر المفتوح حتى في فترات انخفاض مستوى سطح البحر.

وتقول الباحثة المشاركة هيلين فار، من مركز علم الآثار البحرية بقسم الآثار في جامعة ساوثهامبتون بالمملكة المتحدة، إن هذه الرحلات لم تكن نتيجة انجراف عشوائي بل دليل على استخدام القوارب والقيام برحلات بحرية محددة ومقصودة قبل نحو 60 ألف عام.

إعادة رسم تاريخ الهجرة البشرية

وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى أن الإنسان الحديث كان أكثر قدرة على التخطيط والتنقل والاستكشاف عما كان يُعتقد سابقاً، وأن استيطان أستراليا لم يكن حدثاً واحداً بسيطاً بل عملية معقدة شاركت فيها مجموعات متعددة ومسارات مختلفة.

ومع استمرار تطور تقنيات تحليل الحمض النووي واكتشاف مواقع أثرية جديدة يتوقع العلماء أن تتضح صورة أكثر دقة عن بدايات انتشار الإنسان الحديث حول العالم، لتؤكد أن أستراليا كانت من أوائل محطات هذه الرحلة البشرية الكبرى.


اكتشاف علمي لأحد «محركات» سرطان البروستاتا... يمهد لعلاجات أكثر دقة

طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
TT

اكتشاف علمي لأحد «محركات» سرطان البروستاتا... يمهد لعلاجات أكثر دقة

طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا

في خطوة علمية قد تغيِّر أسلوب فهمنا لسرطان البروستاتا وتشخيصه وعلاجه، كشف باحثون من معهد «آرك» وجامعة «كاليفورنيا»، ومركز «فريد هاتشينسون للسرطان» في واشنطن بالولايات المتحدة، عن منظِّم غير متوقع لمسار مستقبل الأندروجين، وهو بروتين لم يحظَ سابقاً بكثير من الاهتمام، وكان يُعتقد أنه مجرد إنزيم بسيط ضمن مسار تصنيع البروستاغلاندين (prostaglandin).

وجاء هذا الكشف الذي نُشر في مجلة «Nature Genetics» في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، نتيجة فحص شامل للجينوم باستخدام «تقنية كريسبر»، وأعاد تعريف الدور البيولوجي لبروتين «PTGES3» كما فتح الباب أمام فئة جديدة محتملة من العلاجات لسرطان البروستاتا المقاوم للعلاج الهرموني.

نافذة على بيولوجيا الورم

يعتمد سرطان البروستاتا على نشاط مفرط لمستقبِل الأندروجين، وهو بروتين ينظِّم نمو الخلايا استجابة لهرمونات الذكورة.

ولفهم الجينات التي تُبقي هذا المستقبِل نشطاً، طوَّر الباحثون نموذجاً متقدماً لخلايا سرطانية يحمل وسماً فلورياً (fluorescent tag) (هو جزيء مرتبط كيميائياً للمساعدة في اكتشاف جزيء حيوي، مثل البروتين أو الأجسام المضادة أو الأحماض الأمينية) يضيء تبعاً لكمية مستقبِل الأندروجين داخل الخلية، ما سمح بتتبُّعه بدقة لحظة بلحظة.

وبالاستفادة من «تقنية كريسبر» عطَّل العلماء آلاف الجينات واحداً تلو الآخر لاكتشاف الجينات التي يعتمد عليها مستقبِل الأندروجين ليبقى مستقراً وموجوداً داخل الخلية.

ثم جاءت النتائج لتؤكد دور جينات معروفة، مثل HOXB13 وGATA2 لكنها كشفت أيضاً مفاجأة كبيرة في PTGES3 وهو بروتين لم يكن محسوباً ضمن قائمة اللاعبين الرئيسيين في هذا المسار.

* لماذا يُعد PTGES3 اكتشافاً مهماً؟ على خلاف البروتينات المماثلة له لم يكن تأثير PTGES3 مرتبطاً بوظيفته المفترضة كإنزيم. بل ظهر أنه يؤدي دوراً مزدوجاً في دعم مستقبل الأندروجين؛ إذ إنه يعمل كمرافق بروتيني Co-chaperone داخل السيتوبلازم ما يساعد على استقرار مستقبل الأندروجين ويمنع تدهوره. ويعمل أيضاً كعامل مساعد داخل النواة؛ حيث يعزز قدرة المستقبل على الارتباط بالحمض النووي وتشغيل الجينات التي تغذي نمو الورم.

وهذا الدور الثنائي يجعل هذا البروتين كأحد «محركات» سرطان البروستاتا التي تعتمد عليها الخلايا السرطانية لمواصلة النمو والانتشار.

آفاق جديدة لعلاج السرطان

• من المختبر إلى المرضى: عند تحليل بيانات مئات المرضى وجد الباحثون أن ارتفاع مستويات PTGES3 يرتبط بانخفاض فعالية العلاج الهرموني، وهو مؤشر مبكر على مقاومة الورم.

وعند اختبار تعطيل هذا البروتين في فئران مصابة بسرطان البروستاتا انخفضت مستويات مستقبل الأندروجين، وتباطأ نمو الورم بشكل كبير، وهو دليل إضافي على دوره الحاسم واستحقاقه أن يكون هدفاً دوائياً جديداً.

ويقول الباحث الرئيسي لوك غيلبرت (وهو باحث رئيسي في معهد «آرك» وأستاذ مشارك في جراحة المسالك البولية في كلية الطب بجامعة «كاليفورنيا») إن هذا العمل يبرهن على قوة الفحص الجيني غير المنحاز عبر «تقنية كريسبر» وقدرتنا على اكتشاف وظائف جديدة لبروتينات ظنَّ العلماء أنهم يعرفونها جيداً.

• تطوير أدوية علاجية: تستهدف العلاجات الحالية مستقبل الأندروجين مباشرة؛ سواء بتقليل الهرمونات الذكرية أو بحجب قدرة المستقبِل على الوصول إلى الحمض النووي.

لكن النتائج الجديدة تقدِّم استراتيجية مختلفة تكمن بالتدخل في استقرار مستقبل الأندروجين نفسه، عبر التأثير على البروتينات التي تحميه وترافقه ومن ضمنها PTGES3.

ويقول الباحث الأول هاولونغ لي من مركز «فريد هاتشينسون للسرطان» وقسم علاج الأورام بالإشعاع بجامعة «كاليفورنيا»: «نتوقع أن يساعد هذا النهج في فهم عوامل نسخ أخرى مهمة في سرطانات تعتمد على الهرمونات، وليس سرطان البروستاتا فقط».

ويعمل الفريق حالياً على فهم البنية الدقيقة لتفاعل PTGES3 مع مستقبل الأندروجين، تمهيداً لتطوير أدوية تستهدف هذا الارتباط، بما في ذلك تقنيات تفكيك البروتينات مثل PROTACs التي حققت نجاحاً في تجارب سريرية لأهداف دوائية أخرى.

ويمثل اكتشاف PTGES3 كمنظم رئيسي لمستقبل الأندروجين تحولاً مهماً في فهم سرطان البروستاتا؛ خصوصاً لدى المرضى الذين يعانون من مقاومة للعلاج الهرموني.

وإلى جانب كشف آليات جديدة وراء نمو الورم يقدِّم هذا الاكتشاف مساراً واعداً لعلاجات أكثر فعالية ودقة قد تغيِّر مستقبل الرعاية للمرضى المصابين بأحد أكثر السرطانات شيوعاً بين الرجال.

إنه مثال حي على كيف يمكن لتقنيات الجينوم الحديثة -كالفحص الشامل باستخدام «كريسبر»- أن تعيد كتابة قواعد علم الأورام وتفتح آفاقاً علاجية لم تكن متاحة من قبل.


نظرة إلى الذكاء الاصطناعي... وصحة الدماغ في 2025

الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
TT

نظرة إلى الذكاء الاصطناعي... وصحة الدماغ في 2025

الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته

إليكم ما يقوله أربعة من الاختصاصيين في حول الجوانب العلمية التي أثارت اهتمامهم في عام 2025.

الذكاء الاصطناعي: محتوى منمق وغير منطقي

نحن نغرق في بحر من المحتوى المُنمّق وغير المنطقي الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي، كما تتحدث الكاتبة أنالي نيويتز، صاحبة عمود «هذا يُغيّر كل شيء»، عن كيفية انتشار المحتوى المُولّد بالذكاء الاصطناعي على نطاق واسع في عام 2025.

لا شك أن 2025 سيُذكَر بوصفه عام المحتوى المُنمّق. وهذا المصطلح الشائع يُطلق على المحتوى غير الصحيح والغريب، بل والقبيح في كثير من الأحيان، الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي، وقد أفسد تقريباً كل منصة على الإنترنت... إنه يُفسد عقولنا أيضاً.

لقد تراكمت كميات هائلة من هذا المحتوى المُنمّق خلال السنوات القليلة الماضية، لدرجة أن العلماء باتوا قادرين على قياس آثاره على الناس بمرور الوقت.

• نشاط دماغي أقل لدى المستخدمين. وجد باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الأشخاص الذين يستخدمون نماذج لغوية ضخمة (LLMs)، مثل تلك التي تقف وراء برنامج «تشات جي بي تي»، لكتابة المقالات، يُظهرون نشاطاً دماغياً أقل بكثير من أولئك الذين لا يستخدمونها.

• آثار سلبية على الصحة النفسية. ثم هناك الآثار السلبية المحتملة على صحتنا النفسية، حيث تشير التقارير إلى أن بعض برامج الدردشة الآلية تُشجع الناس على تصديق الأوهام أو نظريات المؤامرة، بالإضافة إلى حثّهم على إيذاء أنفسهم، وأنها قد تُسبب أو تُفاقم الذهان.

• تقنية التزييف العميق. أصبحت تقنية التزييف العميق شائعة؛ ما يجعل التحقق من الحقيقة على الإنترنت أمراً مستحيلاً. ووفقاً لدراسة أجرتها «مايكروسوفت»، لا يستطيع الناس التعرف على مقاطع الفيديو التي يُنشئها الذكاء الاصطناعي إلا في 62 في المائة من الحالات.

وأحدث تطبيقات شركة «اوبن ايه آي» هو «سورا» Sora، وهي منصة لمشاركة الفيديوهات تُنشأ بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي - باستثناء واحد. يقوم التطبيق بمسح وجهك وإدراجك أنت وأشخاص حقيقيين آخرين في المشاهد المزيفة التي يُنشئها. وقد سخر سام ألتمان، مؤسس الشركة، من تبعات ذلك بالسماح للناس بإنشاء فيديوهات يظهر فيها المستخدم وهو يسرق وحدات معالجة الرسومات ويغني في الحمام.

• تقليل الإنتاجية. لكن ماذا عن قدرة الذكاء الاصطناعي المزعومة على جعلنا نعمل بشكل أسرع وأكثر ذكاءً؟ وفقاً لإحدى الدراسات، عندما يُدخل الذكاء الاصطناعي إلى مكان العمل، فإنه يُقلل الإنتاجية، حيث أفادت 95 في المائة من المؤسسات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي بأنها لا تحصل على أي عائد ملحوظ على استثماراتها.

مذنب "سوان" الى يمين تجمّع من النجوم

تدمير الأرواح والوظائف

إن الفساد يُدمر الأرواح والوظائف، ويُدمر تاريخنا أيضاً. أنا أكتب كتباً عن علم الآثار، ويقلقني أن ينظر المؤرخون إلى وسائل الإعلام من تلك الحقبة ويكتشفوا زيف محتوانا، المليء بالخداع والتضليل.

إن أحد أهم أسباب تدويننا الأمور أو توثيقها بالفيديو هو ترك سجل لما كنا نفعله في فترة زمنية محددة. وعندما أكتب، آمل أن أسهم في إنشاء سجلات للمستقبل؛ حتى يتمكن الناس اللاحقون من إلقاء نظرة على حقيقتنا، بكل ما فيها من فوضى.

إن برامج الدردشة الآلية التي تعمل بالذكاء الاصطناعي تُردد كلماتٍ بلا معنى؛ فهي تُنتج محتوًى لا ذكريات. ومن منظور تاريخي، يُعدّ هذا، من بعض النواحي، أسوأ من الدعاية. على الأقل، إن الدعاية من صنع البشر، ولها هدف محدد، وهي تكشف عن الكثير من سياساتنا ومشاكلنا. أما الزيف فيمحونا من سجلنا التاريخي؛ إذ يصعب استشفاف الغاية منه.

ماذا يخبئ لنا المستقبل؟ ماذا سيفعل الذكاء الاصطناعي بالفن؟ كيف سنتعامل مع عالمٍ تندر فيه الوظائف، ويتصاعد فيه العنف، ويتم فيه تجاهل علوم المناخ بشكل ممنهج؟

الحفاظ على صحة الدماغ

كيف تعلمتُ الحفاظ على صحة دماغي؟ تتحدث هيلين تومسون، كاتبة عمود في علم الأعصاب، عن تغييرات بسيطة أحدثت فرقاً كبيراً في صحتها هذا العام.

• غذاء صحي: لقد تعلمت أن أعيش بنمط حياة صحي. كل صباح، أضيف ملعقة من الكرياتين إلى الماء، وأشربه مع الفيتامينات المتعددة، ثم أتناول بعض الزبادي العادي الغني بالبكتيريا. ويتناول أطفالي حبوب الإفطار المنزلية، ويشربون الكفير، ويحاولون التحدث بالإسبانية باستخدام تطبيق «دولينغو». وبعد توصيلهم إلى المدرسة، أغطس في بركة ماء باردة، ثم أستريح في الساونا قبل العمل. لاحقاً، أضيف دائماً ملعقة من مخلل الملفوف إلى غدائي، ولا أفوّت فرصة للمشي قليلاً في الحديقة.

حياتي الجديدة المفعمة بالرضا هي نتيجة مباشرة لقضاء عام كامل في البحث عن طرق مثبتة علمياً للحفاظ على صحة الدماغ - من تعزيز الاحتياطي المعرفي إلى تنمية ميكروبيوم صحي. الآن، وأنا أُقيّم الوضع، أرى أن تغييرات بسيطة أحدثت فرقاً كبيراً.

• تجربة طبية. جاء أحد أبسط الدروس من جو آن مانسون في مستشفى بريغهام والنساء في ماساتشوستس، التي أرسلت إلي تفاصيل تجربة واسعة النطاق على كبار السن تُظهر أن تناول الفيتامينات المتعددة يومياً يُبطئ التدهور المعرفي بأكثر من 50 في المائة. وعندما سألت خبراء آخرين عن المكملات الغذائية، إن وُجدت، التي قد تُعزّز صحة الدماغ، برز الكرياتين في ذهني - فهو يُزود الدماغ بمصدر طاقة عندما يكون في أمس الحاجة إليه. لكن التغيير حدث في سلة مشترياتنا الأسبوعية؛ إذ أقنعتني محادثاتي مع علماء الأعصاب وخبراء التغذية بأهمية العناية المستمرة بميكروبيوم الأمعاء. لذا؛ بدأت عائلتي بتطبيق ذلك: تناول ثلاثة أنواع من الأطعمة المخمرة يومياً بناءً على نصيحة عالم الأوبئة تيم سبيكتور، والامتناع عن تناول الأطعمة فائقة المعالجة في وجبة الإفطار، والحرص على إدخال مزيج متنوع من الأطعمة الكاملة في نظامنا الغذائي.

• التواصل مع البيئة. كما أن التعرّض للبرد والحرارة يُمكن أن يُقلل من الالتهابات والتوتر، ويُعزز التواصل بين الشبكات الدماغية المسؤولة عن التحكم في العواطف واتخاذ القرارات والانتباه؛ ما قد يُفسر ارتباطها بتحسين الصحة النفسية. كما أصبح الخروج إلى الطبيعة أولويةً عائلية. فقد تعلمتُ أن البستنة تُعزز تنوع بكتيريا الأمعاء المفيدة، بينما قد يُفيد المشي في الغابات الذاكرة والإدراك، ويُساعد على الوقاية من الاكتئاب.

والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو سرعة ظهور النتائج. فبينما تُعدّ بعض العادات استثماراً طويل الأمد في الصحة الإدراكية، إلا أنني مقتنعة بأن عادات أخرى كان لها تأثير فوري: أطفال أكثر هدوءاً، وتحسن في التركيز، وطاقة أكبر. ربما يكون تأثيراً وهمياً، لكن هناك ما يُجدي نفعاً.

مذنبات كونية متألقة

أما شاندا بريسكود - وينشتاين، كاتبة عمود في مجلة «سبيس - تايم»، فقد قدمت ملاحظات ميدانية حول كيفية تصدّر المذنبات عناوين الأخبار في عام 2025.

• المذنب «ليمون» لقد كان عام 2025 حافلاً بالمذنبات. فقد اكتُشف المذنب ليمون Lemmon في يناير (كانون الثاني) الماضي، وظلّ حديث الساعة لمدة تسعة أشهر. كانت صور ذيل ليمون الطويل والجميل، الناتج من تسخين الشمس للمذنب، تخطف أنفاسي في كل مرة.

• المذنب «سوان». ثم كان هناك اكتشاف المذنب C/2025 R2 (سوان) في سبتمبر (أيلول)، وهو مذنب شديد السطوع لدرجة أنه حتى عندما كان قريباً من القمر في عيد «الهالوين»، كان لا يزال مرئياً بوضوح للمراقبين. وكان هناك أيضاً المذنب 3I/أطلس، الذي اشتهر بعد أن أعلن عالم فلك في جامعة هارفارد، متخصص في علم الكونيات، أنه مسبار فضائي.

إن رحلتنا مع المذنبات هذا العام ليست سوى أحدث حلقة في سلسلة طويلة من ردود فعل البشر تجاه الأجرام السماوية الغامضة التي تظهر في السماء. وبينما نستذكر العام الماضي، شهدنا أحداثاً كثيرة مخيفة ومُحبطة؛ ما قد يدفعنا للاعتقاد بأن هذه المذنبات ربما نذرت بنهاية العالم كما نعرفه.

«إنسان دينيسوفان»

«إنسان دينيسوفان» قلب مفاهيمنا عن الإنسان القديم رأساً على عقب. وهنا يستعرض مايكل مارشال، كاتب عمود «قصة الإنسان»، أهم اكتشافات «إنسان دينيسوفان» لهذا العام.

يصادف هذا العام مرور 15 عاماً على اكتشافنا «إنسان دينيسوفان»، وهي إنسان من مجموعة من البشر القدماء الذين عاشوا في ما يُعرف اليوم بشرق آسيا قبل عشرات آلاف السنين. وقد أثار هذا الإنسان فضولي منذ ذلك الحين؛ لذا سررتُ هذا العام برؤية سلسلة من الاكتشافات المثيرة التي وسّعت فهمنا لمكان عيشهم وهويتهم.

• أدلة من جزيئات إصبع. كان «إنسان دينيسوفان» أول أشباه البشر الذين تم اكتشافهم بشكل أساسي من خلال الأدلة الجزيئية. وكانت أول أحفورة معروفة عبارة عن عظمة إصبع من كهف دينيسوفا في سيبيريا، التي كانت صغيرة جداً بحيث لا يمكن التعرف عليها من خلال شكلها، ولكنها أسفرت عن تحليل الحمض النووي في عام 2010. وأشارت النتائج الجينية إلى أن «إنسان دينيسوفان» كان مجموعة شقيقة لـ«إنسان نياندرتال»، الذي عاش في أوروبا وآسيا. كما أظهرت النتائج أيضاً أنهم تزاوجوا مع الإنسان الحديث.

واليوم، يمتلك سكان بعض مناطق جنوب شرقي آسيا، مثل بابوا غينيا الجديدة والفلبين، أعلى نسب الحمض النووي لـ«إنسان دينيسوفان» في جينوماتهم.

ومنذ ذلك الحين، سعى الباحثون جاهدين للعثور على المزيد من الأمثلة على «إنسان دينيسوفان»، لكنّ هذه الجهود كانت بطيئة. ولم يظهر مثال ثانٍ إلا في عام 2019: عظم فك من كهف بايشيا كارست في شياخه على هضبة التبت.

• اكتشافات جديدة. ثم جاء عام 2025 وتدفقت الاكتشافات الجديدة. ففي أبريل (نيسان) الماضي، تأكد وجود «إنسان دينيسوفان» في تايوان. وأكد الباحثون هذا الاكتشاف الآن باستخدام البروتينات المحفوظة داخل الأحفورة. ثم في يونيو (حزيران) الماضي عُثر على أول وجه لإنسان، حيث وُصفت جمجمة من مدينة هاربين شمال الصين عام 2021، وسُميت نوعاً جديداً.

حتى الآن، تبدو هذه النتائج منطقية للغاية. كما أنها رسمت صورة متكاملة لـ«إنسان دينيسوفان» كإنسان ضخم البنية.

وكان الاكتشافان الآخران في عام 2025 مفاجأتين كبيرتين. ففي سبتمبر، أُعيد بناء جمجمة مهشمة من يونشيان في الصين. ويبدو أن جمجمة يونشيان 2 تعود إلى «إنسان دينيسوفان» مبكر، وهو اكتشاف مثير للاهتمام؛ نظراً لقدمها التي تبلغ نحو مليون عام. ويشير هذا إلى أن «إنسان دينيسوفان» كان موجوداً مجموعةً منفصلة منذ مليون عام على الأقل، أي قبل مئات آلاف السنين مما كان يُعتقد سابقاً. كما يدل هذا على أن السلف المشترك بيننا وبين «إنسان نياندرتال»، والمعروف باسم السلف العاشر، قد عاش قبل أكثر من مليون عام.

• استخلاص جينوم من سن وحيدة. بعد شهر واحد فقط، أعلن علماء الوراثة عن ثاني جينوم عالي الجودة لـ«إنسان دينيسوفان»، والذي استُخرج من سنّ عمرها 200 ألف عام في كهف دينيسوفا. الأهم من ذلك، أن هذا الجينوم كان مختلفاً تماماً عن الجينوم الأول المُبلغ عنه، والذي كان أحدث عهداً، كما أنه كان مختلفاً عن الحمض النووي للـ«دينيسوفان» لدى البشر المعاصرين.

ويُشير هذا إلى وجود ثلاث مجموعات على الأقل من الـ«دينيسوفان»: مجموعة مبكرة، ومجموعة لاحقة، ومجموعة تزاوجت مع جنسنا البشري. هذه المجموعة الثالثة، من الناحية الأثرية، تظل لغزاً محيراً.

* مجلة «نيو ساينتست» - خدمات «تريبيون ميديا»