توربينات الرياح الطائرة تسحب الطاقة من أعالي السماء

شركة صينية ناشئة تنشرها في الغلاف الجوي العلوي للأرض

توربينات الرياح الطائرة تسحب الطاقة من أعالي السماء
TT

توربينات الرياح الطائرة تسحب الطاقة من أعالي السماء

توربينات الرياح الطائرة تسحب الطاقة من أعالي السماء

عادةً ما تبرز توربينات الرياح من سطح الأرض مثل طواحين هوائية عملاقة. واليوم، تستكشف شركة صينية شكلاً جديداً: توربينات الرياح الطائرة. وتحلق هذه الطائرات الشبيهة بالمنطاد عالياً في السماء، ولا يربطها بالأرض سوى عدد من الكابلات، حيث تُولّد تياراً مستمراً من الطاقة، بفضل الرياح القوية الموجودة في الطبقات العليا من الغلاف الجوي.

وبدلاً من البقاء تحت رحمة تقلبات الرياح على سطح الأرض -أحد التحديات الرئيسة التي تواجه التوربينات الثابتة اليوم- لن يتذبذب إنتاج الطاقة لدى توربينات الرياح الطائرة، بفضل ثبات تدفق الرياح بالطبقات العليا. ويمكن لهذا التصميم أن يحل بعضاً من كبرى مشكلات توليد طاقة الرياح، دون الحاجة إلى الاستثمار في بنية تحتية واسعة، ما يقلص البصمة البيئية لعملية توليد طاقة الرياح.

من «ناسا» إلى الصين

وتجدر الإشارة إلى أن هذا المفهوم طرح للمرة الأولى من قِبل مهندس صيني، كان من بين رواد «مختبر الدفع النفاث»، التابع لوكالة «ناسا»، في منتصف أربعينات القرن الماضي. ومع أن هذه الفكرة لم تصادف نجاحاً داخل الولايات المتحدة، تزعم اليوم شركة الطاقة الصينية الناشئة «ساويس» أنها جاهزة لنشر آلاف التوربينات الطائرة التي يمكنها إنتاج 100 كيلوواط، ما يكافئ إنتاج طواحين الهواء الأرضية التي تُغذي الآن كل شيء، من المنشآت التجارية الصغيرة ومتوسطة الحجم، والعمليات الزراعية، إلى المنشآت الصناعية، وحتى المشروعات البلدية الصغيرة.

علاوة على ذلك، تعكف «ساويس» على بناء نموذج جديد يُضاهي قدرات طواحين الهواء الأرضية التقليدية، مع توربين يمكنه توليد أكثر من واحد ميغاواط.

وتعود جذور فكرة طاقة الرياح الجوالة جواً إلى مهندس الفضاء والطيران تشيان شيويسن المولود في شنغهاي، والذي هرب من الصين في ثلاثينات القرن الماضي للدراسة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، قبل الانضمام إلى «الفرقة الانتحارية» الشهيرة في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، المعروف اختصاراً باسم «كالتيك» ـ وهي مجموعة من المهندسين المهووسين بالصواريخ، وضعوا أسس رحلات الفضاء الأميركية الحديثة.

كان شيويسن مهاجراً ذكياً، ساهم في إحدى أهم الثورات التكنولوجية الأميركية على مر العصور. إلا أن مسيرته المهنية في الولايات المتحدة انتهت تحت وطأة شكوك تعود إلى العهد المكارثي (عهد مكافحة الشيوعية). وبعد سنوات من الإقامة الجبرية، جرى ترحيله إلى الصين عام 1955، حيث أصبح الأب المؤسس لبرنامج الصواريخ والفضاء الصيني. وشكّلت أبحاثه الأساس الذي قامت عليه سلسلة صواريخ «لونغ مارش» التي جعلت من بكين قوة فضائية عظمى.

وكذلك كان ذلك الوقت الذي شهد طرح النظريات التي جعلت من الممكن تطوير توربينات الرياح الطائرة الحالية. عام 1957، اقترح شيويسن ما سماه «قناة ناشر القاذف ejector diffuser duct»، وهي نظرية مفادها بأنه يمكن تسريع تدفق الهواء عبر التوربين بشكل كبير من خلال إضافة غلاف دائري مُصمّم بعناية حوله.

يُحدث الأنبوب المصمم على شكل حلقة فرق ضغط (ضغط منخفض خلف التوربين، وضغط أعلى أمامه)، يسحب هواءً إضافياً نحو الشفرات. هذا التأثير الذي يُشبه خلق «حلق» أو «حلقوم» صناعي للرياح بمقدوره أن يعزز الكفاءة بقوة، دون الحاجة إلى شفرات أكبر، أو أبراج أطول. وفي حين تعتمد التوربينات الأرضية التقليدية، بشكل كامل، على مساحة الشفرات، فإن نموذج «ناشر القاذف» الذي ابتكره شيويسن يُضاعف بفعالية الرياح الصالحة للاستخدام، من دون زيادة وزن الهيكل.

آنذاك، بدت فكرة شيويسن غريبة. جدير بالذكر أنه في ذلك الوقت كانت التوربينات لا تزال مشروعات هندسية متخصصة، ولم يكن لدى مُخططي الطاقة حماس كبير تجاه التصميمات التجريبية. وعليه، لم تبدأ هذه التصميمات في التبلور إلا بعد ذلك بكثير.

أحلام مُحطمة

في مجمله، لم يكن الأمر سهلاً، فرغم روعة الأفكار، فإن هندستها وتصنيعها غالباً ما يكونان في غاية الصعوبة، ما أدى إلى وقوع حوادث كثيرة. على مر العقود، حاول الكثيرون تحويل توربينات الرياح الطائرة إلى آلات عاملة.

من جهتها، عكفت شركة «ألتاروس»، شركة فرعية تتبع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، على بناء منطاد مملوء بالهيليوم، ومزود في قلبه بتوربين رياح، على أمل أن يحلق على ارتفاع 2000 قدم لالتقاط رياح أسرع.

وعلى صعيد ثانٍ، نجحت شركة «كايت جين» الإيطالية في بناء نظام يشبه الطائرة الورقية يحلق على شكل رقم ثمانية، ويسحب المولدات على الأرض. حتى هذه اللحظة، لم يتجاوز النظام مرحلة النموذج الأولي.

أما شركة «ماكاني تكنولوجيز»، التي تأسست في منطقة خليج سان فرنسيسكو، واستحوذت عليها «غوغل» عام 2013، فقد جربت طائرة شراعية مربوطة ومزودة بدوارات، لكن الشركة تعرضت للإغلاق من جانب شركة «ألفابت» عام 2020. وحتى وكالة «ناسا» خاضت تجارب على هذه الأفكار. إلا أنه لم يكتب لأي منها النجاح على نطاق واسع، رغم أننا قد نرى طائرة ورقية تولد الكهرباء على المريخ، أو أي كوكب آخر يوماً ما.

اللافت أن كل تلك المحاولات جابهت المشكلات ذاتها: التعقيد الهندسي، واستقرار الطيران في ظل الرياح العاتية، والتصاريح الحكومية، وانخفاض تكاليف طاقة الرياح بسبب الغاز الطبيعي. إضافةً إلى ذلك، تُعدّ توربينات الرياح الثابتة مثالية للمنشآت الكبيرة، رغم تكلفتها، والوقت الذي تستغرقه، وتأثيرها البيئي.

* تيارات الهواء العليا أسرع بـ 3 مرات ويمكنها توليد طاقة أكبر بمقدار 27 مرة *

لماذا التوربينات الطائرة؟

تكمن جاذبية التوربينات الطائرة في قدرتها على التعامل مع رياح أقوى، وأكثر ثباتاً. جدير بالذكر أنه لا يمكن للأبراج التقليدية الوصول إلا إلى نحو 650 قدماً فوق سطح الأرض، حيث تتسم الرياح بالتقلب. على النقيض نجد أنه على ارتفاع 5000 قدم تتحرك تيارات الهواء أسرع بثلاث مرات، ويمكنها توليد طاقة أكبر بما يصل إلى 27 ضعفاً.

ولا تقتصر ميزة هذه التوربينات على إنتاجها النظري الثابت للطاقة فحسب، بل تتضمن كذلك ميزة قلة تكلفتها. إذ إن توربينات الرياح الثابتة تتسم بثمنها الباهظ، وتتطلب موارد هائلة في البناء والتركيب، بما يتجاوز بكثير تكلفة تصنيع الدوار والبرج وحدهما.

ويتطلب كل توربين أرضي مئات الأطنان من الفولاذ والخرسانة والمكونات الصناعية، بالإضافة إلى مواقع بناء ضخمة، وغالباً يحتاج إلى طرق جديدة، أو تفجير قمم الجبال لنقل المعدات، ووضعها في أماكنها. كما تتطلب التصميمات البحرية أبراجاً شبكية فولاذية تزن آلاف الأطنان، ومرافق بحرية متخصصة، وخدمات لوجستية معقدة.

وتترتب على هذه الاحتياجات من البنية التحتية آثار بيئية جسيمة: مساحات أرضية شاسعة تصل إلى 80 فداناً لكل توربين، واضطراب في الموائل، وتقييد الوصول إلى الأراضي، وشهور أو سنوات من التخطيط، وإصدار التصاريح، والبناء. وفي ظل الاستخدام المحدود حول التوربينات بسبب الضوضاء ومخاطر السلامة، تصبح أجزاء كبيرة من الأرض غير قابلة للاستفادة منها -حتى لأصحابها.

في المقابل، تزن التوربينات الطائرة، كتلك التي طورتها شركة «ساويس»، أقل من طن، ولا تتطلب أساساً دائماً، أو تنظيفاً للأرض، علاوة على أنه يمكن نشرها بسرعة، حيث لا يمكن للطاقة التقليدية الوصول إليها بأقل قدر من الاضطراب والتكلفة: حقول النفط النائية، والجزر الصغيرة، أو مناطق الكوارث، حيث تزداد أهمية السرعة والتنقل.

وشرعت شركة «ساويس» في أبحاثها على مولداتها الجوالة جواً، بالاعتماد على أفكار شيويسن، عام 2017. ودرست الشركة استخدام وسادة هوائية رئيسة من الهيليوم، مُدمجة مع جناح حلقي يُسرّع تدفق الهواء ويوجهه مباشرةً عبر المولدات المُدمجة، ما يُعزز الكفاءة نظرياً بأكثر من 20 في المائة.

وبحلول أكتوبر (تشرين الأول) 2024، أفادت التقارير بأن النموذج الأولي لطائرة S500 التابعة للشركة وصل إلى ارتفاع 1640 قدماً، وولّد 50 كيلوواط، مُحطماً بذلك الأرقام القياسية العالمية في الارتفاع والإنتاج، والتي كانت حتى ذلك الحين حكراً على فريق بحثي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وفي يناير (كانون الثاني) 2025، ضاعفت طائرة S1000 هذا الارتفاع، وتجاوزت عتبة 100 كيلوواط.

وتبقى هناك تحديات، فالسلامة، على سبيل المثال، لا تزال تطرح سؤالاً ملحاً. على تلك الارتفاعات، يُمكن أن تتخذ الرياح منحى عنيفاً بسرعة. في هذا الصدد، أوضح وينغ هانكي، كبير مسؤولي التكنولوجيا في «ساويس»، لصحيفة «ساوث تشاينا مورنينغ بوست»، الصادرة في هونغ كونغ، أن تكنولوجيا النظام المزدوج للشركة -الرادار على الأرض وأجهزة الاستشعار في الوسادة الهوائية- تضمن الاستقرار. وفي ظل الظروف القاسية «يمكن للنظام أن يهبط بسرعة في غضون خمس دقائق»، حسبما قال.

هناك كذلك مشكلة الهيليوم. في الواقع، تعمل هذه الأشياء بطريقة مشابهة لبالونات الطقس، ودائماً ما يكون هناك تسريب، ما يُثير الشكوك حول متانتها. من جهته، صرّح دان تيانروي، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة «ساويس» بأن تسرب الغاز في منطاد الشركة قد انخفض إلى درجة أنه يُمكنه البقاء في الهواء لأكثر من 25 عاماً.

وبحسب «ساويس»، بدأ الإنتاج بكميات كبيرة بالفعل في يويانغ التي تقع على بُعد قرابة 700 ميل جنوب شرقي بكين، بعقود تتجاوز قيمتها 70 مليون دولار. في الوقت نفسه، يتخطى طموح الشركة هذه الحدود.

المحطة التالية: طبقة الستراتوسفير

اليوم، تستعد «ساويس» لرحلة تجريبية لطرازها الجديد S1500. من جهته، زعم وينغ أن «نظام S1500 المُطوَّر حديثاً يتميز بقدرة توليد تبلغ نحو واحد ميغاواط، أي ما يعادل قدرة برج توربينات الرياح التقليدي بارتفاع 100 متر، ومن المقرر إطلاق رحلته التجريبية قريباً».

وأضاف: «تشكل الرياح على ارتفاعات عالية مصدر طاقة قوياً، وغير مستغل في الغالب... وبمجرد بناء هذه الأنظمة بأعداد كبيرة، يُمكن أن تكون الطاقة التي تُنتجها رخيصة، مثل توربينات الرياح العادية».

ويتميز التصميم بنفس هيكل الطائرة المُصمَّم على شكل حلقات مجرى هواء يُسرِّع تدفق الهواء. وفي الداخل، يعمل 12 مولداً صغيراً، وكلها مصنوعة من ألياف الكربون بالتوازي، وستُولِّد طاقة على نطاق واسع من وحدة يقل وزنها بنسبة 90 في المائة عن توربينات أبراج الفولاذ.

من ناحيتها، لدى شركة «تيانروي» تصور يدور حول أساطيل من مناطيد الرياح، مصممة من فئة ميغاواط واحد للإنتاج، تعمل في طبقة الستراتوسفير، على ارتفاع يزيد عن 32000 قدم، حيث يُقال إن طاقة الرياح أقوى 200 مرة من طاقة الرياح على الأرض. وعن ذلك، قال وينغ: «في ذلك الوقت، ستكون تكلفة الكهرباء عُشر ما هي عليه اليوم».

بوجه عام، تُبرز هذه الأحلام كلاً من الوعود والتحديات التي تنطوي عليها طاقة الرياح الجوالة جواً. لقد شهد العالم صعود شركات ناشئة في مجال طاقة الرياح الجوالة جواً، وكذلك سقوط البعض. ويعتمد نجاح شركة «ساويس»، حيث فشلت «غوغل» والشركات الناشئة التابعة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والمهندسون الأوروبيون، على عوامل الحجم، والاقتصاد، والقدرة على الاستمرار. وفي الوقت الحالي، تحمل الشركة الرقم القياسي لأعلى وأقوى توربين طائر على الإطلاق –وهو حلمٌ جرى رسم ملامحه لأول مرة قبل ما يقرب من 70 عاماً، وقد يكون جاهزاً أخيراً للتحليق.

• مجلة «فاست كومباني» خدمات «تريبيون ميديا»


مقالات ذات صلة

أبحاث الروبوتات… «ضلَّت طريقها»

تكنولوجيا رودني بروكس

أبحاث الروبوتات… «ضلَّت طريقها»

شكوك في قدرة الروبوتات وفي سلامة استخدام الإنسان لها

تيم فيرنهولز (نيويورك)
تكنولوجيا سماعات أمامية وجانبية لتجسيم الصوتيات وسماعة متخصصة في الصوتيات الجهورية بتقنية 5.1

دليل شامل لإعداد نظام الصوت المحيطي المثالي في منزلك

أفضل طريقة للتمتع بتجربة السينما الغامرة في المنزل

تكنولوجيا سماعات أمامية وجانبية لتجسيم الصوتيات وسماعة متخصصة في الصوتيات الجهورية بتقنية 5.1

دليل شامل لإعداد نظام الصوت المحيطي المثالي في منزلك

أفضل طريقة للتمتع بتجربة السينما الغامرة في المنزل

الاقتصاد جانب من اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين «موبايلي» والمنتدى الاقتصادي العالمي (الشرق الأوسط)

«موبايلي» تتعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي لتطوير الرقمنة بالسعودية

وقَّعت «موبايلي» اتفاقية تعاون استراتيجي مع المنتدى الاقتصادي العالمي، بهدف تطوير البنية التحتية الرقمية والمساهمة في تحقيق مستهدفات «رؤية 2030».

«الشرق الأوسط» (الرياض )
الخليج المهندس أحمد الصويان وأنطونيو غوتيريش يبحثان الموضوعات المشتركة وسُبل التعاون (هيئة الحكومة الرقمية)

غوتيريش يشيد بتقدم السعودية النوعي في الحكومة الرقمية

أشاد أنطونيو غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة، بما حققته السعودية من تقدم نوعي في مجال الحكومة الرقمية، عادّاً ما وصلت إليه نموذجاً دولياً رائداً.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟
TT

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

يعتمد العلماء منذ سنوات طويلة على خرائط الجينات البشرية لفهم كيفية عمل الجسم وتفسير أسباب الأمراض، بل أيضاً لتطوير علاجات دقيقة لها.

بيانات وراثية أوروبية

لكنّ دراسة علمية حديثة كشفت أن هذه الخرائط رغم أهميتها لا تُمثل البشرية جمعاء بعدالة؛ لأنها بُنيت في الأساس على بيانات وراثية لأشخاص من أصول أوروبية، ما أدّى إلى تجاهل جزء كبير من التنوع الجيني العالمي.

وتُشير الدراسة التي نُشرت في مجلة «Nature Communications» في 3 ديسمبر (كانون الأول) 2025 إلى أن هذا الخلل العلمي ليس تفصيلاً بسيطاً، بل قد يؤثر مباشرة في فهمنا للأمراض، وكيف تختلف بين الشعوب، ولماذا تظهر بعض الحالات الصحية بشكل أكثر شيوعاً أو بشدة أكبر لدى مجموعات سكانية دون غيرها.

ما هي خرائط الجينات؟

خرائط الجينات بمثابة دليل إرشادي يوضح مواقع الجينات في الحمض النووي «دي إن إيه» (DNA)، ويشرح كيف تُستخدم هذه الجينات داخل الخلايا لإنتاج البروتينات، وهي الجزيئات المسؤولة عن معظم وظائف الجسم. لكن الجين الواحد لا يعمل دائماً بالطريقة نفسها، إذ يمكنه إنتاج أكثر من نسخة من التعليمات الجينية تُعرف بجزيئات الحمض النووي الريبي «RNA»، من خلال عملية تُسمى «التضفير» (splicing). وقد تؤدي هذه النسخ المختلفة إلى بروتينات متباينة، ومن ثم إلى اختلافات في وظائف الخلايا والاستجابة للأمراض.

ما التضفير الجيني؟

عند قراءة الخلية للتعليمات الوراثية لا تستخدم النص الخام كما هو، فبعد نسخ الجين إلى الحمض النووي الريبي «RNA» تقوم الخلية بعملية تُسمى التضفير؛ حيث تُزال الأجزاء غير الضرورية، وتُربط الأجزاء المفيدة فقط لتكوين رسالة جينية جاهزة لصنع البروتين.

الأهم من ذلك أن الخلية قد تُغيّر طريقة الربط أحياناً في عملية تُعرف بـالتضفير البديل، ما يسمح للجين الواحد بإنتاج عدة بروتينات مختلفة، وهذه الآلية تفسر التنوع الكبير في وظائف الخلايا، كما تُساعد العلماء على فهم سبب اختلاف الأمراض واستجابتها للعلاج بين الأفراد والشعوب.

أين تكمن المشكلة؟

المشكلة الأساسية، حسب الدراسة، أن معظم خرائط الجينات الحالية اعتمدت على عينات وراثية من أشخاص ذوي أصول أوروبية. ورغم أن البشر يتشابهون جينياً بنسبة تقارب 99.9 في المائة فإن النسبة المتبقية تعكس تاريخاً طويلاً من التطور والاختلافات التي نشأت بسبب العزلة الجغرافية والبيئية.

ويضيف المؤلف المشارك الرئيسي الدكتور روديريك غويغو من مركز «تنظيم الجينوم» بمعهد «برشلونة للعلوم والتكنولوجيا» بإسبانيا، أنه وبسبب هذا التركيز الأوروبي لم تُسجَّل الكثير من النسخ الجينية الموجودة لدى سكان أفريقيا وآسيا والأميركتين، ونتيجة ذلك ظلّت أجزاء مهمة من النشاط الجيني البشري غير مرئية للعلماء.

ماذا اكتشف الباحثون؟

واستخدم فريق البحث تقنية متطورة تُعرف باسم «تسلسل الحمض النووي الريبي طويل القراءة»، وهي تقنية تسمح بقراءة جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» كاملة، وليس على شكل أجزاء صغيرة كما في الطرق الأقدم.

وقام الباحثون بتحليل خلايا دم من 43 شخصاً ينتمون إلى مجموعات سكانية متنوعة حول العالم. وكانت النتيجة مفاجئة؛ حيث جرى اكتشاف نحو 41 ألف نسخة من جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» لم تكن مدرجة في خرائط الجينات الرسمية. والأهم من ذلك أن نسبة كبيرة من هذه النسخ يمكن أن تنتج أشكالاً جديدة أو مختلفة من البروتينات لم يكن العلماء على علم بوجودها من قبل.

وتبيّن أن هذه النسخ الجديدة تظهر بشكل أكبر لدى الأشخاص من أصول غير أوروبية، في حين كانت معظم النسخ لدى الأوروبيين معروفة مسبقاً، ما يؤكد وجود تحيّز علمي غير مقصود في قواعد البيانات الجينية.

لماذا يهمنا هذا الاكتشاف؟

وتكمن أهمية هذه النتائج في ارتباط بعض النسخ الجينية المكتشفة حديثاً بجينات معروفة لها علاقة بأمراض مثل الربو والذئبة الحمراء والتهاب المفاصل الروماتويدي واضطرابات الكولسترول. وهذا لا يعني بالضرورة أن هذه النسخ تسبب الأمراض، لكنه يعني أن العلماء قد يكونون قد أغفلوا إشارات جينية مهمة تُساعد على فهم اختلاف المرض بين الشعوب.

فإذا كانت الخرائط الجينية لا تتضمن كل النسخ الموجودة فعلياً فإن الأبحاث الطبية التي تعتمد عليها قد تكون ناقصة، وقد لا تُفسر بدقة لماذا يستجيب بعض المرضى للعلاج في حين لا يستجيب آخرون.

نحو طب أكثر عدالة

تُشير الدراسة إلى أن الاعتماد على «جينوم مرجعي واحد» لجميع البشر لم يعد كافياً، فعندما استخدم الباحثون خرائط جينية شخصية لكل فرد ظهرت نسخ إضافية لم تكن مرئية من قبل، خصوصاً لدى ذوي الأصول الأفريقية.

ولهذا يدعو العلماء إلى العمل على إنشاء ما يُعرف بـ«البانترانسكريبتوم البشري» (pantranscriptome) وهو مشروع طموح يهدف إلى جمع كل نسخ الحمض النووي الريبي «RNA» المستخدمة في مختلف أنسجة الجسم وعبر مراحل العمر ولدى جميع الشعوب.

الخطوة التالية

ويعترف الباحثون بأن دراستهم ما زالت محدودة، إذ شملت نوعاً واحداً من الخلايا وعدداً صغيراً نسبياً من الأشخاص. ومع ذلك فإن حجم الاكتشافات يُشير إلى أن ما نعرفه اليوم قد لا يكون سوى «قمة جبل الجليد».

ويؤكد العلماء أن بناء خرائط جينية أكثر شمولاً لن يكون مجرد إنجاز علمي بل خطوة أساسية نحو طب جينومي أكثر دقة وعدالة يراعي التنوع الحقيقي للبشرية، ويضمن أن يستفيد الجميع من التقدم العلمي، لا فئة واحدة فقط.


بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
TT

بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض

لم يعد الذكاء الاصطناعي في الطب ضيفاً تجريبياً، ولا فكرةً مستقبلية تُناقَش في مؤتمرات النخبة. لقد دخل العيادة بهدوء، وجلس إلى جوار الطبيب دون معطف أبيض، وبدأ يشارك في قراءة الأشعة، واقتراح خطط العلاج، وكتابة ملاحظات السجل الطبي، وأحياناً في ترتيب أولويات المرضى أنفسهم.

تساؤلات أخلاقية

ومع هذا الدخول الصامت، وُلد سؤال أكبر من التقنية ذاتها: ما الذي يجب أن يعرفه المريض؟ ومَن يضمن عدالة القرار؟ ومَن يتحمّل الخطأ إن وقع؟

هذه ليست أسئلة فلسفية مجردة، بل أسئلة أخلاقية يومية، يواجهها الطب الحديث في عام 2025، في غرف الطوارئ، وعيادات الأورام، ومراكز الأشعة، وحتى في التطبيقات الصحية التي يحملها المرضى في جيوبهم.

حين يُصبح القرار مشتركاً... مَن المسؤول؟

في الطب التقليدي، كانت المسؤولية واضحة نسبياً: الطبيب يشخّص، ويقرّر، ويتحمّل تبعات قراره. أما في الطب المدعوم بالذكاء الاصطناعي، فقد أصبح القرار مشتركاً، ولكنه غير متكافئ:

- خوارزمية تقترح.

- طبيب يراجع أو يثق.

- مريض لا يرى إلا النتيجة.

فإذا أخطأت الخوارزمية في قراءة صورة، أو بالغت في تقدير خطر، أو تجاهلت متغيراً نادراً... من يُسأل؟ هل هو الطبيب الذي اعتمد عليها؟ أم المستشفى الذي اشترى النظام؟ أم الشركة التي درّبت الخوارزمية على بيانات غير مكتملة؟

هنا، لا يكفي أن نقول إن الذكاء الاصطناعي «أداة مساعدة»، فالأداة التي تُغيّر مسار قرار علاجي قد تُغيّر مصير إنسان.

قرار واحد... ووجوه مختلفة: سؤال العدالة الخوارزمية

عدالة الخوارزمية... هل هي محايدة حقّاً؟

يُروَّج للذكاء الاصطناعي بوصفه أكثر عدالة من البشر، لأنه لا يتعب ولا يتحيّز عاطفياً، لكن الحقيقة العلمية تقول شيئاً أكثر تعقيداً: الخوارزمية ترث تحيّزات البيانات التي دُرِّبت عليها. فإذا كانت البيانات تمثّل فئات عمرية أو عرقية أو جغرافية دون غيرها، فإن القرار الناتج قد يكون دقيقاً لفئة... وخاطئاً لأخرى.

وإذا كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تُدرَّب في بيئات صحية غربية متقدمة، فهل تكون قراراتها عادلة حين تُستخدم في سياقات صحية مختلفة في العالم العربي أو الدول النامية؟

العدالة هنا ليست شعاراً أخلاقياً، بل شرط علمي وسريري. خوارزمية غير عادلة قد تكون أخطر من طبيب متعب.

حق المريض في المعرفة... إلى أي حدّ؟

أحد أكثر الأسئلة حساسية اليوم هو: هل يحق للمريض أن يعرف أن قرار علاجه أسهم فيه ذكاء اصطناعي؟ أخلاقياً، يميل الجواب إلى «نعم»، فالمريض ليس مجرد متلقٍّ للعلاج، بل شريك في القرار، ومن حقه أن يعرف كيف صُنِع هذا القرار، وبأي أدوات، وعلى أي افتراضات.

لكن الواقع السريري أكثر تعقيداً. لا أحد يريد أن يُربك المريض بتفاصيل تقنية لا يفهمها، أو أن يُضعف ثقته بالعلاج، أو أن يحوّل العيادة إلى قاعة شرح خوارزميات. هنا يظهر التحدي الحقيقي: كيف نُفصح دون أن نُرهق؟ وكيف نُصارح دون أن نُقلق؟

الطريق الأخلاقي ليس في الصمت، ولا في الإغراق بالمصطلحات، بل في الإفصاح الذكي: أن يُقال للمريض، بلغة إنسانية بسيطة، إن النظام ساعد الطبيب في التحليل، لكن القرار النهائي بقي بيد الإنسان، وتحت مسؤوليته.

الطبيب بين الثقة والكسل المعرفي

مع ازدياد دقة الأنظمة الذكية، يواجه الأطباء خطراً صامتاً لا يُناقَش كثيراً: الكسل المعرفي. إذ حين يعتاد الطبيب على أن «الخوارزمية لا تخطئ»، قد يتراجع دوره من ناقد علمي إلى مُصدِّق تقني. وهنا لا يصبح الذكاء الاصطناعي مساعداً، بل سلطة خفية.

الطب، في جوهره، ليس قراءة أرقام فقط، بل فهم سياق: مريض قلق، تاريخ اجتماعي، عوامل نفسية، تفاصيل لا تظهر في البيانات. والخطر الحقيقي ليس أن تُخطئ الخوارزمية، بل أن يتوقف الطبيب عن مساءلتها.

أخلاقيات الذكاء الاصطناعي لا تُطالب الأطباء برفض التقنية، بل تطالبهم بشيء أبسط وأعمق: أن يبقى الضمير يقظاً، والعقل ناقداً، وألا يُسلِّم القرار الطبي النهائي إلا بعد فهمه، لا بعد نسخه.

حين يتقدّم القرار الآلي... مَن يقود الضمير؟

الشفافية... حين لا نفهم كيف وصل القرار

واحدة من أعقد المعضلات الأخلاقية اليوم هي ما يُعرف بـ«الصندوق الأسود»، فكثير من أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تصل إلى قرارات دقيقة إحصائياً، لكنها تعجز عن شرح كيف ولماذا وصلت إلى هذه النتيجة.

فكيف يُحاسَب قرار لا يمكن تفسيره؟ وكيف يُناقَش تشخيص لا نعرف مساره المنطقي؟ وهل يجوز أخلاقياً أن نُخضع مريضاً لعلاج، لأن «الخوارزمية قالت ذلك»، دون تفسير قابل للفهم البشري؟

الطب لا يعيش على الدقة وحدها، بل على الشرح والثقة. والمريض لا يطلب دائماً نسبة مئوية، بل يريد أن يفهم. ولهذا، فإن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الطب تدفع اليوم بقوة نحو ما يُسمّى «الذكاء القابل للتفسير»، لا لأنه أجمل علمياً، بل لأنه أكثر إنسانية.

المساءلة القانونية... فراغ يتّسع

إذا حدث الخطأ، يبدأ السؤال الأصعب: مَن يُحاسَب؟ القوانين الصحية في معظم دول العالم لم تُصمَّم لعصر تشارُك القرار بين الإنسان والآلة. فلا هي تُدين الخوارزمية، ولا تُعفي الطبيب، ولا تُحدِّد بوضوح مسؤولية الشركات المطوِّرة.

هذا الفراغ القانوني ليس تفصيلاً إدارياً، بل خطر أخلاقي حقيقي.

فمن دون مساءلة واضحة، قد يُغري الذكاء الاصطناعي بعض الأنظمة الصحية بتوسيع استخدامه بلا ضوابط، أو تحميل الطبيب وحده مسؤولية قرار لم يصنعه منفرداً، ولهذا، فإن النقاش الأخلاقي اليوم لم يعد ترفاً أكاديمياً، بل ضرورة تشريعية: قوانين تُحدِّد المسؤولية، وتحمي المريض، وتُعيد رسم حدود الثقة بين الإنسان والتقنية.

الخلاصة: حين تسبق الخوارزمية... يجب أن يتقدّم الضمير

الذكاء الاصطناعي في الطب ليس شراً ولا خلاصاً. إنه مرآة لما نضعه فيه: بياناتنا، وقيمنا، وانحيازاتنا.

فإن قُدِّم بلا أخلاق، تحوّل إلى أداة باردة، وإن وُضع في يد طبيب بلا مساءلة، أصبح سلطة صامتة. وإن أُدير بحكمة، أعاد للطب جوهره الأصيل: أن يُنقذ الإنسان دون أن يُلغيه.

وكما قال ابن سينا قبل ألف عام: «العلم بلا ضمير خطر على النفس». وفي عصر الخوارزميات، لعل أخطر ما نخسره ليس الخطأ التقني... بل أن ننسى أن الطب، في النهاية، فعل رحمة قبل أن يكون قراراً ذكياً.


دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
TT

دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة

لطالما كان توقيت وصول الإنسان الحديث إلى أستراليا وكيفية حدوث ذلك واحداً من الأسئلة المثيرة في تاريخ البشرية. وتشير دراسة جينية جديدة إلى أن البشر وصلوا إلى القارة القديمة المعروفة باسم «ساهول» قبل نحو 60 ألف عام، وقد سلكوا في ذلك مسارَيْن مختلفَيْن عبر البحر، في واحدة من أقدم الأدلة المعروفة على الملاحة البحرية المتعمدة.

وقد نُشرت نتائج الدراسة في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 بمجلة «Science Advances»، إذ دعّمت ما يُعرف بفرضية «التسلسل الزمني الطويل» التي تفترض أن أولى موجات الاستيطان البشري في أستراليا حدثت قبل ما بين 60 و65 ألف سنة، وليس في فترة لاحقة، كما افترضت بعض النظريات السابقة.

قارة قديمة ونقاش طويل

كانت «ساهول» (Sahul) قارة واحدة تضم ما يُعرف اليوم بأستراليا وغينيا الجديدة وتسمانيا. ومع ارتفاع مستويات البحار بعد العصر الجليدي الأخير قبل نحو 9 آلاف عام انفصلت هذه اليابسة إلى القارات والجزر الحالية.

وعلى مدى عقود اختلف العلماء حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى هذه المنطقة، ففي حين افترضت بعض الدراسات وصولاً متأخراً نسبياً قبل نحو 47 إلى 51 ألف عام، قدمت الدراسة الجديدة أدلة قوية على استيطان أقدم بكثير.

ويقول عالم الآثار كريستوفر كلاركسون، من جامعة غريفيث في أستراليا الذي لم يشارك في الدراسة، إن هذه أول دراسة شاملة تربط بين علم الآثار والوراثة والمناخ والملاحة البحرية، وتقدم حجة قوية للغاية حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى أستراليا.

تتبع الأصول عبر خط الأم

وقد اعتمد الباحثون على نوع خاص من الحمض النووي (دي إن إيه) DNA يُعرف بالحمض النووي للميتوكوندريا، الذي يُورث غالباً من الأم فقط. وتُعد هذه المادة الوراثية أداة مهمة لتتبع السلالات البشرية عبر آلاف الأجيال.

وحلل الفريق الجينومات الميتوكوندرية لنحو ألف شخص معظمهم من السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة إلى جانب نحو 1500 جينوم منشور سابقاً. ومن خلال تتبع الطفرات الوراثية الصغيرة تمكّن الباحثون من إعادة بناء سلالات بشرية قديمة تعود إلى نحو 60 ألف عام.

مساران للهجرة نحو «ساهول»

ومن أبرز نتائج الدراسة أن البشر الأوائل لم يصلوا إلى «ساهول» عبر طريق واحد فقط بل عبر مسارَين مختلفين في الفترة الزمنية نفسها تقريباً.

كما يرجّح الباحثون أن إحدى المجموعتَين سلكت مساراً شمالياً عبر ما يُعرف اليوم بالفلبين وشرق إندونيسيا، في حين جاءت مجموعة أخرى عبر مسار جنوبي انطلقت فيه من جنوب شرق آسيا القارية مع عبور مساحات من البحر المفتوح.

وتشير النتائج إلى أن معظم السلالات الحية اليوم بين السكان الأصليين لأستراليا وغينيا الجديدة تعود إلى أسلاف اتبعوا المسار الشمالي.

ويقول عالم الآثار، آدم بروم، من جامعة غريفيث الأسترالية الذي لم يشارك أيضاً في الدراسة، إن هذه النتائج تقدم دعماً قوياً لفكرة أن المسار الشمالي كان المفتاح في الاستيطان الأول لأستراليا، مشيراً إلى اكتشافات حديثة لفنون كهوف قديمة جداً في إندونيسيا تدعم هذا الطرح.

أصل أفريقي واحد

وعلى الرغم من اختلاف المسارات تشير الدراسة إلى أن المجموعتَين تنحدران من سلالة بشرية واحدة خرجت من أفريقيا قبل نحو 70 إلى 80 ألف عام. ويُعتقد أن هذا الانقسام حدث في جنوب أو جنوب شرق آسيا قبل 10 إلى 20 ألف عام من الوصول إلى «ساهول».

ويؤكد الباحث المشارك في كلية العلوم التطبيقية بجامعة هدرسفيلد في المملكة المتحدة، مارتن ريتشاردز، أن السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة يمتلكون أقدم سلالة بشرية متصلة خارج أفريقيا دون انقطاع.

دليل مبكر على الملاحة البحرية

ولا تقتصر أهمية الدراسة على الجانب الجيني فحسب، بل تسلط الضوء أيضاً على القدرات التقنية للإنسان القديم، فالوصول إلى «ساهول» تطلّب عبور مسافات طويلة من البحر المفتوح حتى في فترات انخفاض مستوى سطح البحر.

وتقول الباحثة المشاركة هيلين فار، من مركز علم الآثار البحرية بقسم الآثار في جامعة ساوثهامبتون بالمملكة المتحدة، إن هذه الرحلات لم تكن نتيجة انجراف عشوائي بل دليل على استخدام القوارب والقيام برحلات بحرية محددة ومقصودة قبل نحو 60 ألف عام.

إعادة رسم تاريخ الهجرة البشرية

وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى أن الإنسان الحديث كان أكثر قدرة على التخطيط والتنقل والاستكشاف عما كان يُعتقد سابقاً، وأن استيطان أستراليا لم يكن حدثاً واحداً بسيطاً بل عملية معقدة شاركت فيها مجموعات متعددة ومسارات مختلفة.

ومع استمرار تطور تقنيات تحليل الحمض النووي واكتشاف مواقع أثرية جديدة يتوقع العلماء أن تتضح صورة أكثر دقة عن بدايات انتشار الإنسان الحديث حول العالم، لتؤكد أن أستراليا كانت من أوائل محطات هذه الرحلة البشرية الكبرى.