لا يمكن فعلاً توقع مستقبل الحرب، فهي كالحرباء، تتبدّل بتبدّل الواقع الميداني، كما قال كلوزفيتز. هي ثقب أسود، يبتلع كل شيء، هي بمنزلة لقاء بين إرادتين متنازعتين، لكنه لقاء دمويّ يسعى إلى الإلغاء. تتأقلم طبيعة الحرب مع محيطها وظروفها، فهي قاتلة بالسهم، في قديم الحروب، وقاتلة بالبندقيّة والمدفعية، وأيضاً بالسلاح النووي، في الحروب الحديثة، وهي حتماً ستكون قاتلة مع دخول الذكاء الاصطناعي ساحات المعارك.
ولكن ما ثوابت الحرب؟
إذا كانت الحرب من صنع الإنسان، فهي تتضمّن حتماً كثيراً من خصائص الطبيعة البشريّة. لكن ما يُقلق المفكرين والمخططين العسكريين لا يرتبط بفشل الفكر العسكريّ أو الفشل في الفكر الاستراتيجيّ. فالاستراتيجيّة ستبقى تُعرّف، رغم التحولات الكبرى، بأنها «تلك الأفعال، أو السلوكيات، في أرض المعركة، التي تسعى إلى ربط الأهداف بالوسائل المتوافرة»، وذلك بهدف تحقيق الأهداف السياسيّة. ما يُقلق المفكرين والمخططين العسكريين في الواقع يرتبط بما أنتجته الثورة التكنولوجيّة من وسائل جديدة دخلت مسرح الحرب لتخلط الحابل بالنابل، وتشكّل التحدي الأكبر للقادة العسكريين في القدرة على التأقلم مع الواقع الجديد، خصوصاً أن هذه الوسائل الجديدة دخلت الحرب دون التحضير المُسبق لها من الجيوش.
مفاهيم مُستدامة - وسائل جديدة
يبقى التجسس على العدو أمراً ثابتاً، لكنه يحصل بطرق ووسائل جديدة. ففي الحرب الباردة، شكّل الاستعلام البشري (HUMINT) المصدر الأهم لمعرفة نيّات الآخر. ومع الثورة التكنولوجية، تعدّدت وسائل التجسس وجمع المعلومات عن العدو، سواء من خلال المصادر العامة والمفتوحة (OSINT) أم عبر الخرق السيبراني.
يُعد القيصر بطرس الأكبر أوّل من أسَّس مدرسة للمدفعيّة في روسيا. أسهم هذا السلاح في انتصار بلاده في كثير من المعارك والحروب، خصوصاً ضد نابليون في معركة بورودينو عام 1812. يصف الزعيم السوفياتي الراحل جوزيف ستالين المدفعيّة بأنها «آلهة المعركة». لكن المدفعيّة ترجَّلت مؤقتاً عن عرشها في الحرب الأوكرانيّة بسبب المُسيّرات التي طوّرتها أوكرانيا وبسبب الصواريخ المتطورة التي أمدها بها الغرب. وإذا كانت المدفعية الروسية تعتمد قبل الحرب الأوكرانيّة، وفي بداياتها، على مبدأ الحشد المدفعي (MASS) وكثافة النيران، فإن المسيّرات ضربت مبدأ الحشد، الأمر الذي ألزم روسيا بتغيير التكتيك المدفعي، والعمل على مقارعة أوكرانيا في مجال المسيّرات. فعلى سبيل المثال، كانت المدفعية خلال الحربين العالميتين السبب الأساسي في مقتل أكبر عدد من الجنود.

في الحرب الأوكرانية، استعمل الجيش الأوكراني المسيّرات بديلاً للمدفعية، بحيث كانت هذه المسيّرات السبب الأساسي لمقتل الجنود الروس (70 - 80 في المائة). في مكان آخر، وفي مسرح الحرب الأوكرانيّة نفسه الذي تحوّل إلى مسرح اختبار للأسلحة، وأيضاً إلى مسرح للابتكارات التكتيكيّة، تسببت المسيّرات الأوكرانيّة في تدمير نحو 12000 آلية روسية، بين دبابة وعربة مُدرّعة. فهل يعني هذا نهاية عصر الدبابة والمدفع؟ بالطبع لا. لكن المطلوب هو تعديل طريقة القتال المشترك (Combined) بين مختلف الأسلحة، وكذلك التكتيكات، بالإضافة إلى تعديل التصميم لهذه الأسلحة، كي تتلاءم مع المخاطر الجديدة.
في الختام، تُنظّر المؤرّخة الأميركيّة سارة باين (Sarah Paine) بأن الولايات المتحدة الأميركيّة تمارس حالياً دور الدولة المارقة، وعلى مسارين يتأرجحان بين «الكونيّة» و«الانعزالية»، وهي تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة، حتى على حساب الحلفاء. ما يُعزّز هذه المقاربة هو توافر وسائل القوة لدى الولايات المتحدة، والقدرة على الضرب من بُعد، وانطلاقاً من الأراضي الأميركيّة، كما حصل خلال الضربة الأخيرة ضد المنشآت النووية الإيرانيّة.
تُضيف المؤرّخة الأميركيّة قائلةً إن الولايات المتحدة تحوّلت من حماية الحلفاء إلى معاقبة الأعداء. فهل ستُؤثّر هذه المقاربة على مستقبل الحرب؟ بالطبع نعم، ولكن كيف؟ سيظهر ذلك بالتأكيد في مقبل الأيام.

