في إسرائيل، أيضاً، لا يستوعبون كيف يتصرف رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، بإصراره على استمرار الحرب في غزة والعمل الصريح لترحيل أهلها باتجاه الجنوب (سيناء المصرية)، وبذلك يستفز مصر، ويهدد السلام معها.
كما أنهم لا يفهمون الحكمة في الفكرة التي كان ينوي طرحها في جلسة حكومته لضم مناطق من الضفة الغربية إلى إسرائيل، خصوصاً غور الأردن، مستفزاً بذلك المملكة الأردنية، وأيضاً الإمارات العربية، التي كانت قد اشترطت التنازل عن هذا الضم للتوقيع على اتفاق السلام، واتفاقيات إبراهيم.
في البداية، كانوا يعتقدون أن نتنياهو يسكت على نشاط وزرائه في اليمين المتطرف، الذين سلمهم حقائب وزارية مهمة جداً (المالية، والأمن القومي، والاستيطان)؛ لأنه مجبر على ذلك لضرورات تشكيل الحكومة وصيانتها، وعندما يرى أنهم تمادوا، يستطيع لجمهم.
استفزاز زائد لمصر
هذه المرة تفوه نتنياهو بلسانه حول خطط الضم والترحيل، وتكلم مطولاً، خلال مقابلة في قناة «تلغرام» «أبو علي إكسبرس» في نهاية الأسبوع الماضي، أنه «يجب تشجيع خروج الفلسطينيين من غزة». وهاجم مصر لأنها تغلق معبر رفح «في وجه الفلسطينيين الذين يريدون ممارسة حقهم في المغادرة».
ولم يكن هذا الاستفزاز الأول لمصر، بل إنه في الأسبوع الماضي نشرت صحيفة «إسرائيل اليوم» من قبل «مصدر سياسي» بأن «رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الطاقة إيلي كوهين سيفحصان اتفاق الغاز بين شركاء حقل ليفياثان ومصر، على خلفية التقارير المزعومة بشأن أن مصر «تخرق اتفاق السلام مع إسرائيل».
بالطبع، مصر لا تخرق اتفاقية السلام، باعتراف الجيش والمخابرات وكثير من السياسيين في تل أبيب، لكن هذا الافتراء يتردد منذ بداية الحرب قبل سنتين، بغرض ممارسة الضغوط على القاهرة كي تمارس بدورها الضغوط على «حماس»؛ ولذلك، فإن التقديرات في تل أبيب أن نتنياهو سيجد طريقة يتراجع فيها عن هذه الاستفزازات.
إسرائيل ما بعد 7 أكتوبر
غير أن من يتابع «إسرائيل الجديدة» تلك التي نشأت في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، يجب ألا يستغرب شيئاً؛ فنتنياهو، أيضاً، الذي كان يتسم بالقوة والسيطرة على محيطه، بدأ ينهار أمام إصرار جهاز القضاء على الاستمرار في محاكمته بتهم الفساد، ولديه هوس بأن النيابة تعد له مطبات قضائية أخرى لتقديمه إلى مزيد من المحاكمات في قضايا فساد أخرى، بعضها قيد التحقيق في الشرطة.
يريد نتنياهو البقاء في الحكم، كمسألة حياة أو موت، بسبب هذه القضايا، وهو مقتنع بأن وجوده بوصفة رئيس حكومة يعد أهم سلاح له في مواجهة هذه القضايا.

وأكثر من يعرف هذه الحقيقة هم حلفاؤه من اليمين المتطرف، الذين يضمنون له البقاء رئيساً للحكومة، مقابل مواقفه الملائمة لمخططاتهم في تصفية القضية الفلسطينية، وأولها استمرار الحرب في غزة وترحيل أهلها، واستغلال الانشغال العالمي بهذه الكارثة للتغطية على ممارسات الحكومة لتوسيع وتثبيت الاستيطان، وضم مناطق من الضفة الغربية.
أما الاختلاف بينهم، فهو على مساحة الأراضي التي يضمونها، فوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير يريدها بنسبة 100 في المائة، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش يريدها بنسبة 82 في المائة، ونتنياهو «المعتدل» يريدها بغور الأردن فقط.
إبقاء شرارة الحرب
تدل سياسة نتنياهو، في أحسن الأحوال، أنه صار أعمى سياسياً لا يرى سوى حلفائه المستوطنين ودورهم في حماية كرسيه، لكن الاحتمال الأكبر والأسوأ، أنه يرى جيداً، ويعمل قاصداً، لكي يبقي شرارة الحرب مشتعلة، حتى لو كان ذلك على حساب اتفاقيات السلام.
يقتنع نتنياهو بأن الضربات القاصمة التي وجهها إلى «حزب الله» و«حماس» وإيران وسقوط نظام بشار في سوريا، هي «انتصارات» لإسرائيل، وله شخصياً، تغير موازين القوى، وتزيد غطرسته في المنطقة.

وقد أدى تهديد الإمارات إلى إرجاء البند الخاص بالضم عن جدول أبحاث الحكومة في جلسة الخميس الماضي، لكن مقربين منه ليسوا واثقين بعد من أنه تخلى عن الفكرة، إنما يريد أن يتدارس الأمر مع الحليف في واشنطن، فعندما يكون هناك تهديد بإلغاء اتفاقيات إبراهيم، يمكن أن يغضب الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، الذي يريد توسيع وليس تقليص هذه الاتفاقيات.
ورقة ترمب
يأمل نتنياهو أن يقنع ترمب «بممارسة الضغوط على العرب ليقبلوا نظريته في الانتصار»؛ فهو الرئيس الأميركي الأول في التاريخ الذي يتدخل عميقاً في السياسة الداخلية الإسرائيلية، ويحاول إلغاء محاكمة نتنياهو حتى يبقى رئيساً للحكومة.
كما أن نتنياهو يدرك أنه لن يبقى في منصبه من دون المتطرفين الذين يملون عليه سياستهم في الضم، ولن يبقى في المنصب من دون حروب.
والفكرة الراجحة عنده الآن أنه يقامر بكل الأوراق؛ فإذا نجح وحصل على دعم أميركي، فسيواصل سياسته التي قادت إسرائيل إلى العزلة، لا بل جعلتها منبوذة في العالم، ويعتمد على دعم الولايات المتحدة وحدها.
وإذا لم ينجح، فإنه يستطيع القول لحلفائه: «أنتم شاهدون على أنني حاولت بكل قوتي، علينا ألا نخسر ترمب، والآن، على ترمب أن يقرأ جيداً هذه الخريطة».






