جينات الأم والأب... كيف يغيِّر مصدرها مسار صحتك للأفضل أو للأسوأ؟

قد تحميك من مرض خطير وقد تزيد خطره... حسب مجيئها من الوالد أو من الوالدة

جينات الأم والأب... كيف يغيِّر مصدرها مسار صحتك للأفضل أو للأسوأ؟
TT

جينات الأم والأب... كيف يغيِّر مصدرها مسار صحتك للأفضل أو للأسوأ؟

جينات الأم والأب... كيف يغيِّر مصدرها مسار صحتك للأفضل أو للأسوأ؟

لم تعد الوراثة كما كنا نتصورها مجرَّد حروف من الحمض النووي (دي إن إيه) DNA تنتقل عشوائياً من جيل إلى آخر؛ بل اتضح أن جهة المصدر -أي هل الجين من الأم أم من الأب- قد تقلب المعادلة رأساً على عقب.

اكتشاف علمي حديث

في أحدث اكتشاف علمي، كشف باحثون أن بعض الجينات قد تحميك من مرض خطير إذا ورثتها من أحد والديك؛ لكنها قد تزيد الخطر نفسه إذا جاءت من الآخر، في ظاهرة قد تعيد رسم مستقبل الطب الشخصي.

واستخدم الفريق نموذجاً إحصائياً مبتكراً أتاح له تحديد ما لا يقل عن 30 تأثيراً مرتبطاً بمصدر الجين في 14 جيناً وذلك دون الحاجة إلى جمع عينات من الحمض النووي للأبوين. واللافت أن 19 من هذه التأثيرات كانت «ثنائية القطب»؛ أي أن الجين نفسه قد يسبب نتائج صحية مختلفة، أو حتى معاكسة؛ حسب مصدره.

وعلى سبيل المثال، وجد الباحثون أن أحد المتغيرات الجينية يزيد خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني بنسبة 14 في المائة إذا جاء من الأب؛ لكنه يقلل الخطر بنسبة 9 في المائة إذا جاء من الأم.

الوراثة ليست مجرد نسخ متطابقة

عادة ما يفترض العلماء أن تأثير أي جين يعتمد على عدد نسخه لدى الشخص، بغض النظر عن مصدره. ولكن الحقيقة أكثر تعقيداً؛ إذ إن بعض الجينات تتصرف بشكل مختلف إذا جاءت من الأم أو من الأب. وهذه الظاهرة تُعرف علمياً باسم تأثيرات أصل الوالد Parent-of-Origin Effects (POEs).

وفي بعض الحالات يرجع ذلك لما تُسمى «الطباعة الجينية» (Genomic Imprinting)، وهي عملية يتم فيها إيقاف عمل نسخة الجين القادمة من أحد الوالدين، بينما تبقى النسخة الأخرى فعَّالة. ويُعتقد أن هذه الظاهرة قد تكون جزءاً من «صراع تطوري» بين الجينات الأمومية والأبوية، حول كمية الموارد التي يحصل عليها الجنين، ما ينعكس لاحقاً على صحته ونموه.

تجاوز عقبة نقص بيانات الأبوين

إحدى أكبر العقبات أمام دراسة هذه الظاهرة كانت غياب بيانات الحمض النووي من الأبوين في معظم قواعد البيانات الجينية، ما جعل البحث على نطاق واسع أمراً صعباً.

لكن الفريق البحثي بقيادة روبن هوفمايستر من جامعة لوزان في سويسرا، بالتعاون مع باحثين آخرين، ابتكر طريقة ذكية لتجاوز هذه العقبة في الدراسة التي نُشرت في مجلة «Nature» في 6 أغسطس (آب) 2025، باستخدام بيانات «البنك الحيوي البريطاني» الذي يضم سجلات وراثية وصحية لمئات الآلاف من الأشخاص، تمكنوا من تحديد مصدر الجين (أم أو أب) بدقة تصل إلى 98 في المائة، عبر تحليل أنماط الوراثة بين الإخوة، وفحص الحمض النووي الميتوكوندري (الموروث من الأم فقط) ومعلومات الكروموسوم إكس (X).

وبهذه الطريقة، حدد العلماء أصل الوالدين للبيانات الجينية لما يقرب من 287 ألف شخص، وركزوا دراستهم المتعمقة على أكثر من 109 آلاف مشارك بريطاني من أصول أوروبية.

نتائج مثيرة وغير متوقعة

عند فحص 59 سمة صحية معقدة، مثل مستويات الكوليسترول والطول وخطر الإصابة بالسكري، إضافة إلى أكثر من 14 ألف بروتين في الدم، اكتشف الباحثون 34 تأثيراً واضحاً لأصل الوالدين.

وكان هناك 19 تأثيراً ثنائي القطب من بين هذه التأثيرات؛ حيث يختلف تأثير المتغير الجيني نفسه بشكل معاكس تبعاً لمصدره.

وعلى سبيل المثال، وُجد أن متغيراً معيناً بالقرب من الجينين KLF14 وMEST يخفض مستويات الدهون الثلاثية إذا جاء من الأم؛ لكنه يرفعها إذا جاء من الأب.

وفي مثال آخر متغير في جين TERC الذي يساعد في الحفاظ على أطراف الكروموسومات (التيلوميرات) يؤدي إلى تقصير التيلوميرات أكثر إذا جاء من الأب مقارنة بالأم. وتقصر التيلوميرات عادة مع التقدم في العمر، وقد يرتبط ذلك بأمراض مزمنة وأمراض الشيخوخة.

كما وجد الباحثون متغيرات مرتبطة بزيادة أو تقليل خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني، مثل منطقة الجين H19/IGF2؛ حيث يزيد المتغير الموروث من الأب خطر الإصابة بنسبة 25 في المائة، بينما يُظهر المتغير نفسه من الأم تأثيراً وقائياً.

من الطفولة إلى البلوغ

المثير أن بعض هذه التأثيرات تبدأ منذ مرحلة الطفولة وتستمر حتى البلوغ. فمثلاً هناك متغيرات تؤثر على طول الشخص منذ سنوات النمو الأولى، وأخرى تؤثر على مؤشر كتلة الجسم بشكل متعاكس؛ إذ يزداد المؤشر في الطفولة إذا جاء المتغير من الأم؛ لكنه ينخفض في البلوغ.

كما رُصدت تأثيرات على بروتينات في الدم، بعضها كان معروفاً من قبل، مثل: DLK1 وCPA4، وبعضها الآخر يُكتشف لأول مرة مثل: PER3 وADAM23، وهو ما قد يكشف آليات بيولوجية جديدة لم تكن معروفة.

تأكيد النتائج خارج بريطانيا

لتأكيد دقة النتائج، طبَّق الباحثون الأسلوب نفسه على بيانات «البنك الحيوي الإستوني» الذي يضم أكثر من 85 ألف شخص، ونجحوا في تكرار 87 في المائة من النتائج، ما يثبت أن الظاهرة لا ترتبط بمجتمع معين؛ بل هي جزء من علم الوراثة البشري عموماً.

أهمية هذا الاكتشاف

تُعد هذه الدراسة -حتى الآن- أكبر خريطة علمية لتأثيرات الجينات الأمومية والأبوية على صحتنا، وتؤكد أن هذه الظواهر ليست نادرة؛ بل شائعة.

والأمر لا يقتصر على المعرفة الأكاديمية؛ بل قد يكون له أثر مباشر في تطوير الطب الشخصي (Personalized Medicine)؛ حيث يمكن أن يساعد معرفة مصدر الجين في تحسين التنبؤ بالمخاطر الصحية ووضع استراتيجيات علاجية أدق.

ورغم أن هذه الطريقة لا تستطيع دائماً التمييز بين تأثير الطباعة الجينية والعوامل البيئية المرتبطة بالوالد، فإن دقتها العالية تفتح الباب أمام بحوث أوسع عالمياً.

ويختتم مؤلفو الدراسة قولهم بأن تأثيرات أصل الوالدين تمثل بُعداً مهماً لم يكن يُقدَّر حق قدره في علم الوراثة. ومع هذه التقنيات أصبح بإمكاننا أن نقترب أكثر من فهم كيف تشكِّلنا جيناتنا؛ ليس من أي والد أتت فقط؛ بل كيف تتفاعل طوال حياتنا.


مقالات ذات صلة

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

علوم خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

أهمية خلق «طب جينومي» أكثر دقة وعدالة يراعي التنوع الحقيقي للبشرية.

د. وفا جاسم الرجب (لندن)
علوم سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة

دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

دراسة شاملة تربط بين علم الآثار والوراثة والمناخ والملاحة البحرية.

د. وفا جاسم الرجب (لندن)
يوميات الشرق يظهر دب قطبي أمام محطة أبحاث مهجورة بجزيرة كولوتشين قبالة تشوكوتكا في روسيا (أ.ب)

هل تنجح الدببة القطبية في خداع الاحترار؟

دراسة تكشف تغيّرات جينية لدى دببة جنوب شرقي غرينلاند قد تساعدها على التكيّف مع الاحترار المناخي رغم تهديد فقدان الجليد ونقص الغذاء.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم العلاج الجيني: تعديل خلايا الدم البيضاء لمواجهة السرطان

علاجات خلوية معدلة جينياً... للسرطان

حين تُعيد الجينات كتابة المصير… بجراحة دقيقة داخل الشفرة الوراثية

د. عميد خالد عبد الحميد
علوم بين جينات الأجداد وكيمياء العصر: لماذا تُصاب بعض النساء بالانتباذ البطاني الرحمي؟

بين جينات الأجداد وكيمياء العصر: لماذا تُصاب بعض النساء بالانتباذ البطاني الرحمي؟

تشير دراسة علمية جديدة أجراها باحثون من جامعة بورنموث البريطانية إلى أن مزيجاً من اختلافات جينية موروثة من أسلاف البشر القدماء، ومن التعرّض لمواد كيميائية…

د. وفا جاسم الرجب (لندن)

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟
TT

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

يعتمد العلماء منذ سنوات طويلة على خرائط الجينات البشرية لفهم كيفية عمل الجسم وتفسير أسباب الأمراض، بل أيضاً لتطوير علاجات دقيقة لها.

بيانات وراثية أوروبية

لكنّ دراسة علمية حديثة كشفت أن هذه الخرائط رغم أهميتها لا تُمثل البشرية جمعاء بعدالة؛ لأنها بُنيت في الأساس على بيانات وراثية لأشخاص من أصول أوروبية، ما أدّى إلى تجاهل جزء كبير من التنوع الجيني العالمي.

وتُشير الدراسة التي نُشرت في مجلة «Nature Communications» في 3 ديسمبر (كانون الأول) 2025 إلى أن هذا الخلل العلمي ليس تفصيلاً بسيطاً، بل قد يؤثر مباشرة في فهمنا للأمراض، وكيف تختلف بين الشعوب، ولماذا تظهر بعض الحالات الصحية بشكل أكثر شيوعاً أو بشدة أكبر لدى مجموعات سكانية دون غيرها.

ما هي خرائط الجينات؟

خرائط الجينات بمثابة دليل إرشادي يوضح مواقع الجينات في الحمض النووي «دي إن إيه» (DNA)، ويشرح كيف تُستخدم هذه الجينات داخل الخلايا لإنتاج البروتينات، وهي الجزيئات المسؤولة عن معظم وظائف الجسم. لكن الجين الواحد لا يعمل دائماً بالطريقة نفسها، إذ يمكنه إنتاج أكثر من نسخة من التعليمات الجينية تُعرف بجزيئات الحمض النووي الريبي «RNA»، من خلال عملية تُسمى «التضفير» (splicing). وقد تؤدي هذه النسخ المختلفة إلى بروتينات متباينة، ومن ثم إلى اختلافات في وظائف الخلايا والاستجابة للأمراض.

ما التضفير الجيني؟

عند قراءة الخلية للتعليمات الوراثية لا تستخدم النص الخام كما هو، فبعد نسخ الجين إلى الحمض النووي الريبي «RNA» تقوم الخلية بعملية تُسمى التضفير؛ حيث تُزال الأجزاء غير الضرورية، وتُربط الأجزاء المفيدة فقط لتكوين رسالة جينية جاهزة لصنع البروتين.

الأهم من ذلك أن الخلية قد تُغيّر طريقة الربط أحياناً في عملية تُعرف بـالتضفير البديل، ما يسمح للجين الواحد بإنتاج عدة بروتينات مختلفة، وهذه الآلية تفسر التنوع الكبير في وظائف الخلايا، كما تُساعد العلماء على فهم سبب اختلاف الأمراض واستجابتها للعلاج بين الأفراد والشعوب.

أين تكمن المشكلة؟

المشكلة الأساسية، حسب الدراسة، أن معظم خرائط الجينات الحالية اعتمدت على عينات وراثية من أشخاص ذوي أصول أوروبية. ورغم أن البشر يتشابهون جينياً بنسبة تقارب 99.9 في المائة فإن النسبة المتبقية تعكس تاريخاً طويلاً من التطور والاختلافات التي نشأت بسبب العزلة الجغرافية والبيئية.

ويضيف المؤلف المشارك الرئيسي الدكتور روديريك غويغو من مركز «تنظيم الجينوم» بمعهد «برشلونة للعلوم والتكنولوجيا» بإسبانيا، أنه وبسبب هذا التركيز الأوروبي لم تُسجَّل الكثير من النسخ الجينية الموجودة لدى سكان أفريقيا وآسيا والأميركتين، ونتيجة ذلك ظلّت أجزاء مهمة من النشاط الجيني البشري غير مرئية للعلماء.

ماذا اكتشف الباحثون؟

واستخدم فريق البحث تقنية متطورة تُعرف باسم «تسلسل الحمض النووي الريبي طويل القراءة»، وهي تقنية تسمح بقراءة جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» كاملة، وليس على شكل أجزاء صغيرة كما في الطرق الأقدم.

وقام الباحثون بتحليل خلايا دم من 43 شخصاً ينتمون إلى مجموعات سكانية متنوعة حول العالم. وكانت النتيجة مفاجئة؛ حيث جرى اكتشاف نحو 41 ألف نسخة من جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» لم تكن مدرجة في خرائط الجينات الرسمية. والأهم من ذلك أن نسبة كبيرة من هذه النسخ يمكن أن تنتج أشكالاً جديدة أو مختلفة من البروتينات لم يكن العلماء على علم بوجودها من قبل.

وتبيّن أن هذه النسخ الجديدة تظهر بشكل أكبر لدى الأشخاص من أصول غير أوروبية، في حين كانت معظم النسخ لدى الأوروبيين معروفة مسبقاً، ما يؤكد وجود تحيّز علمي غير مقصود في قواعد البيانات الجينية.

لماذا يهمنا هذا الاكتشاف؟

وتكمن أهمية هذه النتائج في ارتباط بعض النسخ الجينية المكتشفة حديثاً بجينات معروفة لها علاقة بأمراض مثل الربو والذئبة الحمراء والتهاب المفاصل الروماتويدي واضطرابات الكولسترول. وهذا لا يعني بالضرورة أن هذه النسخ تسبب الأمراض، لكنه يعني أن العلماء قد يكونون قد أغفلوا إشارات جينية مهمة تُساعد على فهم اختلاف المرض بين الشعوب.

فإذا كانت الخرائط الجينية لا تتضمن كل النسخ الموجودة فعلياً فإن الأبحاث الطبية التي تعتمد عليها قد تكون ناقصة، وقد لا تُفسر بدقة لماذا يستجيب بعض المرضى للعلاج في حين لا يستجيب آخرون.

نحو طب أكثر عدالة

تُشير الدراسة إلى أن الاعتماد على «جينوم مرجعي واحد» لجميع البشر لم يعد كافياً، فعندما استخدم الباحثون خرائط جينية شخصية لكل فرد ظهرت نسخ إضافية لم تكن مرئية من قبل، خصوصاً لدى ذوي الأصول الأفريقية.

ولهذا يدعو العلماء إلى العمل على إنشاء ما يُعرف بـ«البانترانسكريبتوم البشري» (pantranscriptome) وهو مشروع طموح يهدف إلى جمع كل نسخ الحمض النووي الريبي «RNA» المستخدمة في مختلف أنسجة الجسم وعبر مراحل العمر ولدى جميع الشعوب.

الخطوة التالية

ويعترف الباحثون بأن دراستهم ما زالت محدودة، إذ شملت نوعاً واحداً من الخلايا وعدداً صغيراً نسبياً من الأشخاص. ومع ذلك فإن حجم الاكتشافات يُشير إلى أن ما نعرفه اليوم قد لا يكون سوى «قمة جبل الجليد».

ويؤكد العلماء أن بناء خرائط جينية أكثر شمولاً لن يكون مجرد إنجاز علمي بل خطوة أساسية نحو طب جينومي أكثر دقة وعدالة يراعي التنوع الحقيقي للبشرية، ويضمن أن يستفيد الجميع من التقدم العلمي، لا فئة واحدة فقط.


بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
TT

بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض

لم يعد الذكاء الاصطناعي في الطب ضيفاً تجريبياً، ولا فكرةً مستقبلية تُناقَش في مؤتمرات النخبة. لقد دخل العيادة بهدوء، وجلس إلى جوار الطبيب دون معطف أبيض، وبدأ يشارك في قراءة الأشعة، واقتراح خطط العلاج، وكتابة ملاحظات السجل الطبي، وأحياناً في ترتيب أولويات المرضى أنفسهم.

تساؤلات أخلاقية

ومع هذا الدخول الصامت، وُلد سؤال أكبر من التقنية ذاتها: ما الذي يجب أن يعرفه المريض؟ ومَن يضمن عدالة القرار؟ ومَن يتحمّل الخطأ إن وقع؟

هذه ليست أسئلة فلسفية مجردة، بل أسئلة أخلاقية يومية، يواجهها الطب الحديث في عام 2025، في غرف الطوارئ، وعيادات الأورام، ومراكز الأشعة، وحتى في التطبيقات الصحية التي يحملها المرضى في جيوبهم.

حين يُصبح القرار مشتركاً... مَن المسؤول؟

في الطب التقليدي، كانت المسؤولية واضحة نسبياً: الطبيب يشخّص، ويقرّر، ويتحمّل تبعات قراره. أما في الطب المدعوم بالذكاء الاصطناعي، فقد أصبح القرار مشتركاً، ولكنه غير متكافئ:

- خوارزمية تقترح.

- طبيب يراجع أو يثق.

- مريض لا يرى إلا النتيجة.

فإذا أخطأت الخوارزمية في قراءة صورة، أو بالغت في تقدير خطر، أو تجاهلت متغيراً نادراً... من يُسأل؟ هل هو الطبيب الذي اعتمد عليها؟ أم المستشفى الذي اشترى النظام؟ أم الشركة التي درّبت الخوارزمية على بيانات غير مكتملة؟

هنا، لا يكفي أن نقول إن الذكاء الاصطناعي «أداة مساعدة»، فالأداة التي تُغيّر مسار قرار علاجي قد تُغيّر مصير إنسان.

قرار واحد... ووجوه مختلفة: سؤال العدالة الخوارزمية

عدالة الخوارزمية... هل هي محايدة حقّاً؟

يُروَّج للذكاء الاصطناعي بوصفه أكثر عدالة من البشر، لأنه لا يتعب ولا يتحيّز عاطفياً، لكن الحقيقة العلمية تقول شيئاً أكثر تعقيداً: الخوارزمية ترث تحيّزات البيانات التي دُرِّبت عليها. فإذا كانت البيانات تمثّل فئات عمرية أو عرقية أو جغرافية دون غيرها، فإن القرار الناتج قد يكون دقيقاً لفئة... وخاطئاً لأخرى.

وإذا كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تُدرَّب في بيئات صحية غربية متقدمة، فهل تكون قراراتها عادلة حين تُستخدم في سياقات صحية مختلفة في العالم العربي أو الدول النامية؟

العدالة هنا ليست شعاراً أخلاقياً، بل شرط علمي وسريري. خوارزمية غير عادلة قد تكون أخطر من طبيب متعب.

حق المريض في المعرفة... إلى أي حدّ؟

أحد أكثر الأسئلة حساسية اليوم هو: هل يحق للمريض أن يعرف أن قرار علاجه أسهم فيه ذكاء اصطناعي؟ أخلاقياً، يميل الجواب إلى «نعم»، فالمريض ليس مجرد متلقٍّ للعلاج، بل شريك في القرار، ومن حقه أن يعرف كيف صُنِع هذا القرار، وبأي أدوات، وعلى أي افتراضات.

لكن الواقع السريري أكثر تعقيداً. لا أحد يريد أن يُربك المريض بتفاصيل تقنية لا يفهمها، أو أن يُضعف ثقته بالعلاج، أو أن يحوّل العيادة إلى قاعة شرح خوارزميات. هنا يظهر التحدي الحقيقي: كيف نُفصح دون أن نُرهق؟ وكيف نُصارح دون أن نُقلق؟

الطريق الأخلاقي ليس في الصمت، ولا في الإغراق بالمصطلحات، بل في الإفصاح الذكي: أن يُقال للمريض، بلغة إنسانية بسيطة، إن النظام ساعد الطبيب في التحليل، لكن القرار النهائي بقي بيد الإنسان، وتحت مسؤوليته.

الطبيب بين الثقة والكسل المعرفي

مع ازدياد دقة الأنظمة الذكية، يواجه الأطباء خطراً صامتاً لا يُناقَش كثيراً: الكسل المعرفي. إذ حين يعتاد الطبيب على أن «الخوارزمية لا تخطئ»، قد يتراجع دوره من ناقد علمي إلى مُصدِّق تقني. وهنا لا يصبح الذكاء الاصطناعي مساعداً، بل سلطة خفية.

الطب، في جوهره، ليس قراءة أرقام فقط، بل فهم سياق: مريض قلق، تاريخ اجتماعي، عوامل نفسية، تفاصيل لا تظهر في البيانات. والخطر الحقيقي ليس أن تُخطئ الخوارزمية، بل أن يتوقف الطبيب عن مساءلتها.

أخلاقيات الذكاء الاصطناعي لا تُطالب الأطباء برفض التقنية، بل تطالبهم بشيء أبسط وأعمق: أن يبقى الضمير يقظاً، والعقل ناقداً، وألا يُسلِّم القرار الطبي النهائي إلا بعد فهمه، لا بعد نسخه.

حين يتقدّم القرار الآلي... مَن يقود الضمير؟

الشفافية... حين لا نفهم كيف وصل القرار

واحدة من أعقد المعضلات الأخلاقية اليوم هي ما يُعرف بـ«الصندوق الأسود»، فكثير من أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تصل إلى قرارات دقيقة إحصائياً، لكنها تعجز عن شرح كيف ولماذا وصلت إلى هذه النتيجة.

فكيف يُحاسَب قرار لا يمكن تفسيره؟ وكيف يُناقَش تشخيص لا نعرف مساره المنطقي؟ وهل يجوز أخلاقياً أن نُخضع مريضاً لعلاج، لأن «الخوارزمية قالت ذلك»، دون تفسير قابل للفهم البشري؟

الطب لا يعيش على الدقة وحدها، بل على الشرح والثقة. والمريض لا يطلب دائماً نسبة مئوية، بل يريد أن يفهم. ولهذا، فإن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الطب تدفع اليوم بقوة نحو ما يُسمّى «الذكاء القابل للتفسير»، لا لأنه أجمل علمياً، بل لأنه أكثر إنسانية.

المساءلة القانونية... فراغ يتّسع

إذا حدث الخطأ، يبدأ السؤال الأصعب: مَن يُحاسَب؟ القوانين الصحية في معظم دول العالم لم تُصمَّم لعصر تشارُك القرار بين الإنسان والآلة. فلا هي تُدين الخوارزمية، ولا تُعفي الطبيب، ولا تُحدِّد بوضوح مسؤولية الشركات المطوِّرة.

هذا الفراغ القانوني ليس تفصيلاً إدارياً، بل خطر أخلاقي حقيقي.

فمن دون مساءلة واضحة، قد يُغري الذكاء الاصطناعي بعض الأنظمة الصحية بتوسيع استخدامه بلا ضوابط، أو تحميل الطبيب وحده مسؤولية قرار لم يصنعه منفرداً، ولهذا، فإن النقاش الأخلاقي اليوم لم يعد ترفاً أكاديمياً، بل ضرورة تشريعية: قوانين تُحدِّد المسؤولية، وتحمي المريض، وتُعيد رسم حدود الثقة بين الإنسان والتقنية.

الخلاصة: حين تسبق الخوارزمية... يجب أن يتقدّم الضمير

الذكاء الاصطناعي في الطب ليس شراً ولا خلاصاً. إنه مرآة لما نضعه فيه: بياناتنا، وقيمنا، وانحيازاتنا.

فإن قُدِّم بلا أخلاق، تحوّل إلى أداة باردة، وإن وُضع في يد طبيب بلا مساءلة، أصبح سلطة صامتة. وإن أُدير بحكمة، أعاد للطب جوهره الأصيل: أن يُنقذ الإنسان دون أن يُلغيه.

وكما قال ابن سينا قبل ألف عام: «العلم بلا ضمير خطر على النفس». وفي عصر الخوارزميات، لعل أخطر ما نخسره ليس الخطأ التقني... بل أن ننسى أن الطب، في النهاية، فعل رحمة قبل أن يكون قراراً ذكياً.


دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
TT

دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة

لطالما كان توقيت وصول الإنسان الحديث إلى أستراليا وكيفية حدوث ذلك واحداً من الأسئلة المثيرة في تاريخ البشرية. وتشير دراسة جينية جديدة إلى أن البشر وصلوا إلى القارة القديمة المعروفة باسم «ساهول» قبل نحو 60 ألف عام، وقد سلكوا في ذلك مسارَيْن مختلفَيْن عبر البحر، في واحدة من أقدم الأدلة المعروفة على الملاحة البحرية المتعمدة.

وقد نُشرت نتائج الدراسة في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 بمجلة «Science Advances»، إذ دعّمت ما يُعرف بفرضية «التسلسل الزمني الطويل» التي تفترض أن أولى موجات الاستيطان البشري في أستراليا حدثت قبل ما بين 60 و65 ألف سنة، وليس في فترة لاحقة، كما افترضت بعض النظريات السابقة.

قارة قديمة ونقاش طويل

كانت «ساهول» (Sahul) قارة واحدة تضم ما يُعرف اليوم بأستراليا وغينيا الجديدة وتسمانيا. ومع ارتفاع مستويات البحار بعد العصر الجليدي الأخير قبل نحو 9 آلاف عام انفصلت هذه اليابسة إلى القارات والجزر الحالية.

وعلى مدى عقود اختلف العلماء حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى هذه المنطقة، ففي حين افترضت بعض الدراسات وصولاً متأخراً نسبياً قبل نحو 47 إلى 51 ألف عام، قدمت الدراسة الجديدة أدلة قوية على استيطان أقدم بكثير.

ويقول عالم الآثار كريستوفر كلاركسون، من جامعة غريفيث في أستراليا الذي لم يشارك في الدراسة، إن هذه أول دراسة شاملة تربط بين علم الآثار والوراثة والمناخ والملاحة البحرية، وتقدم حجة قوية للغاية حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى أستراليا.

تتبع الأصول عبر خط الأم

وقد اعتمد الباحثون على نوع خاص من الحمض النووي (دي إن إيه) DNA يُعرف بالحمض النووي للميتوكوندريا، الذي يُورث غالباً من الأم فقط. وتُعد هذه المادة الوراثية أداة مهمة لتتبع السلالات البشرية عبر آلاف الأجيال.

وحلل الفريق الجينومات الميتوكوندرية لنحو ألف شخص معظمهم من السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة إلى جانب نحو 1500 جينوم منشور سابقاً. ومن خلال تتبع الطفرات الوراثية الصغيرة تمكّن الباحثون من إعادة بناء سلالات بشرية قديمة تعود إلى نحو 60 ألف عام.

مساران للهجرة نحو «ساهول»

ومن أبرز نتائج الدراسة أن البشر الأوائل لم يصلوا إلى «ساهول» عبر طريق واحد فقط بل عبر مسارَين مختلفين في الفترة الزمنية نفسها تقريباً.

كما يرجّح الباحثون أن إحدى المجموعتَين سلكت مساراً شمالياً عبر ما يُعرف اليوم بالفلبين وشرق إندونيسيا، في حين جاءت مجموعة أخرى عبر مسار جنوبي انطلقت فيه من جنوب شرق آسيا القارية مع عبور مساحات من البحر المفتوح.

وتشير النتائج إلى أن معظم السلالات الحية اليوم بين السكان الأصليين لأستراليا وغينيا الجديدة تعود إلى أسلاف اتبعوا المسار الشمالي.

ويقول عالم الآثار، آدم بروم، من جامعة غريفيث الأسترالية الذي لم يشارك أيضاً في الدراسة، إن هذه النتائج تقدم دعماً قوياً لفكرة أن المسار الشمالي كان المفتاح في الاستيطان الأول لأستراليا، مشيراً إلى اكتشافات حديثة لفنون كهوف قديمة جداً في إندونيسيا تدعم هذا الطرح.

أصل أفريقي واحد

وعلى الرغم من اختلاف المسارات تشير الدراسة إلى أن المجموعتَين تنحدران من سلالة بشرية واحدة خرجت من أفريقيا قبل نحو 70 إلى 80 ألف عام. ويُعتقد أن هذا الانقسام حدث في جنوب أو جنوب شرق آسيا قبل 10 إلى 20 ألف عام من الوصول إلى «ساهول».

ويؤكد الباحث المشارك في كلية العلوم التطبيقية بجامعة هدرسفيلد في المملكة المتحدة، مارتن ريتشاردز، أن السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة يمتلكون أقدم سلالة بشرية متصلة خارج أفريقيا دون انقطاع.

دليل مبكر على الملاحة البحرية

ولا تقتصر أهمية الدراسة على الجانب الجيني فحسب، بل تسلط الضوء أيضاً على القدرات التقنية للإنسان القديم، فالوصول إلى «ساهول» تطلّب عبور مسافات طويلة من البحر المفتوح حتى في فترات انخفاض مستوى سطح البحر.

وتقول الباحثة المشاركة هيلين فار، من مركز علم الآثار البحرية بقسم الآثار في جامعة ساوثهامبتون بالمملكة المتحدة، إن هذه الرحلات لم تكن نتيجة انجراف عشوائي بل دليل على استخدام القوارب والقيام برحلات بحرية محددة ومقصودة قبل نحو 60 ألف عام.

إعادة رسم تاريخ الهجرة البشرية

وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى أن الإنسان الحديث كان أكثر قدرة على التخطيط والتنقل والاستكشاف عما كان يُعتقد سابقاً، وأن استيطان أستراليا لم يكن حدثاً واحداً بسيطاً بل عملية معقدة شاركت فيها مجموعات متعددة ومسارات مختلفة.

ومع استمرار تطور تقنيات تحليل الحمض النووي واكتشاف مواقع أثرية جديدة يتوقع العلماء أن تتضح صورة أكثر دقة عن بدايات انتشار الإنسان الحديث حول العالم، لتؤكد أن أستراليا كانت من أوائل محطات هذه الرحلة البشرية الكبرى.