خيري دومة: من العبث التفكير في نظرية نقدية عربية

فاز بجائزة الدولة التقديرية في مصر لعام 2025

خيري دومة
خيري دومة
TT

خيري دومة: من العبث التفكير في نظرية نقدية عربية

خيري دومة
خيري دومة

للناقد والمترجم دكتور خيري دومة حضور ملحوظ في المشهد الثقافي المصري، من خلال مؤلفاته النقدية وترجماته. حصل هذا العام (2025) على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، ومن أحدث مؤلفاته كتاب «سعد مكاوي كاتباً للقصة القصيرة»، الذي يعيد فيه الاعتبار لأحد رموز فن القصة الذين طالهم التهميش والنسيان. هنا حوار معه، عن كتابه الجديد ومؤلفاته النقدية الأخرى:

> كتابك الأحدث «سعد مكاوي كاتباً للقصة القصيرة»، يستعيد نموذج مكاوي في زمن البيست سيلر، وكذا يستعيد القصة القصيرة في زمن الرواية... فهل هو مقاومة للمشهد الإبداعي الراهن؟

- هو أحدث كتبي، وصدر في بداية هذا العام 2025 عن دار المعارف بالقاهرة، لكنه أقدم تجاربي البحثية، لأنه كان في الأصل رسالتي للماجستير، التي قدمتها إلى جامعة القاهرة عام 1989 بإشراف أستاذيّ الراحلين عبد المحسن طه بدر وسيد البحراوي، وناقشها معهما أستاذان كبيران آخران، هما سهير القلماوي وسيد حامد النساج.

ولم أجد في نفسي الجرأة على نشر هذا البحث إلا مؤخراً، وبتشجيع من أصدقائي الذين وجدوا أن قيمته لا تزال حاضرة. لقد تعرض سعد مكاوي لظلم كبير؛ فقد لعب أدواراً مهمة في تطور فن القصة القصيرة العربية، بخاصة في مرحلتها الواقعية ويعد واحداً من أهم الكتاب الذين استوعبوا عالم القرية المصرية وقدموه في إبداعهم. ومجموعته «الماء العكر» واحدة من أهم المجموعات القصصية، سواء في عالمها الذي ينهض على مهمشي القرى الذين لا يملكون أرضاً، الحداد والصياد وصانع البرادع وأبناء الليل... إلخ، أو في بنية هذه المجموعة القائمة على حلقات وصور متصلة منفصلة، وتيمات ومفردات يتردد صداها وتتكرر من قصة لأخرى. كما أن تكوين سعد مكاوي ينطوي على هذا المزيج الخاص بين عناصر من التراث العربي جاءته من والده مدرس اللغة العربية، وعناصر من الثقافة الغربية جاءته من رحلته الدراسية إلى فرنسا قبل الحرب العالمية الثانية.

> هل هذا الكتاب محاولة لإنصاف سعد مكاوي الذي لم يأخذ حقه من الشهرة مقارنة بعدد من المجايلين له أو اللاحقين عليه؟

- ركز كثيرون من نقاد سعد مكاوي على روايته الفريدة «السائرون نياماً»، وهي تستحق ذلك بالطبع، لكن هذه الرواية الكبيرة لم تكن إلا بلورة لإمكانات كاتب كبير، بناها وطورها بالعمل على فن القصة القصيرة لعقود سبقت صدورها. ولعل من يقرأ قصصاً مثل «الزمن الوغد» و«في خير وسلام» يمكن أن يرى لمحات من فن سعد مكاوي في كتابة القصة القصيرة التي تجاوزت الواقعية في وقت مبكر.

الجوانب التاريخية والتوثيقية في هذا البحث ربما تفوق الجوانب النقدية في أهميتها؛ فرغم تقليدية المدخل الذي اتخذته دراستي إلى عالم سعد مكاوي وبنية قصصه، فإن تسجيل رحلة الرجل وقصصه ومقالاته وجمعها من الدوريات ووضعها في ببليوغرافيا موسعة، ربما ظل الجانب الأهم في هذه الدراسة. أعتقد أنه لا يزال لهذا البحث عن سعد مكاوي وقصته القصيرة قيمته في زمن الرواية. نعم كما لا تزال لعمليات التحقيق والفحص والدرس التفصيلي للنصوص قيمتها أيضاً.

> بوصفك ناقداً ومترجماً لكتاب مهم عن الأنواع الأدبية... كيف ترى حراك الأنواع الأدبية الحالي وسطوة الرواية في مقابل ما يشاع عن تراجع القصة والشعر؟

- عملت لسنوات طويلة على أنواع الأدب، وكان من حصاد هذه السنوات كتابان، أحدهما مؤلّف، وهو «تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1998، والآخر مترجم، وهو مجموعة دراسات جمعتها وأصدرتها في العام نفسه تحت عنوان «القصة، الرواية، المؤلف: دراسات في الأنواع الأدبية المعاصرة». ورغم أنني لم أتبن تماماً منظور توجهات ما بعد الحداثة، التي هاجمت فكرة النوع من أساسها، ولم تر لها قيمة كبيرة في دراسة الأدب وتقييمه، رغم هذا فإن الخلاصة التي انتهيت إليها من قراءة نصوص من أنواع الأدب المختلفة، ومن دراسة العلاقات المركبة أو التداخلات بينها، هي أنك لا تستطيع أن تفاضل بين نوع وآخر، لا تستطيع أن تقول مثلاً إن الرواية أفضل من الشعر، أو مناسبة أكثر لزمننا، لا تستطيع أن تستبعد الشعر أو الدراما أو القصة القصيرة أو غيرها لصالح الرواية.

> لكن هناك من يرى أن الرواية تسيدت المشهد الأدبي كمّاً وكيفاً؟

- لا أحد ينكر بطبيعة الحال المساحة التي احتلتها الرواية في الأدب العربي والعالمي، ولا عمليات التجريب التي لا تتوقف، ولا اكتشاف أرض وتجارب جديدة استطاعت الرواية أن تصل إليها. لكن لا أحد ينكر أيضاً أن مساحة كبيرة من هذه التجارب والاكتشافات الروائية، جاءت من أرض الشعر، والقصة القصيرة، والدراما، والسينما، والآداب الشعبية، والموسيقى والفنون التشكيلية، والرقمية. هي باختصار نتاج واضح لهذا التداخل بين أنواع الأدب والفن المختلفة. أو هي في أحسن تقدير نتاج لمقدرة الفن الروائي غير المحدودة على الاستيعاب.

لكن أنواع الأدب الأخرى لم تتوقف أيضاً عن اكتشاف أراض وتجارب جديدة، ففنون الشعر والقصة والدراما استوعبت تماماً روح السرد السارية في اللغة الإنسانية، وكثير من مجموعات القصص والقصائد لم تخف سعيها الخاص إلى استيعاب عالمنا الغامض المركب، مع الإبقاء على أجزائه منفصلة وروحه منعزلة.

> كيف ترى حركة الترجمة في العصر الحديث بعد عقود من بدء التواصل مع الآخر؟

- عاشت الترجمة إلى العربية مراحل وموجات صعود وهبوط مختلفة في عالمنا العربي الحديث، واقترنت موجات الصعود كثيراً بأسماء أعلام وجدوا في الترجمة قاطرة تقود عالمنا العربي إلى النهضة. بدأت هذه الموجات بما سعى إليه محمد علي وأسرته من نهضة مقيدة بمعرفة ما توصل إليه الغرب، فكانت البعثات ومدارس الترجمة والألسن وما إلى ذلك من مشاريع نعرفها جميعاً، وقد اقترنت الترجمة في هذه الموجة باسم رفاعة الطهطاوي ومدرسة الألسن، وتركت أثرها الواضح على مصر والعالم العربي في القرن التاسع عشر، ويمكنك أن تفكر في أعلام آخرين كثيرين اقترن اسمهم بموجات الصعود هذه، من أمثال طه حسين وجابر عصفور وغيرهما.

> ما الذي يعوق حراك الترجمة في الوطن العربي سواء إلى العربية أو عنها رغم كثرة المؤسسات المهتمة بها مؤخراً؟

- الترجمة ضرورة لكي تكون جزءاً من هذا العالم الذي لا يكف عن التحول، ليس لأننا متخلفون والعالم أكثر تقدماً منا، وإنما هي ضرورة لمزيد من الفهم وتوسيع الأفق ومعرفة موضع أقدامنا في هذا العالم المضطرب، هي ضرورة لأننا نعيش في عالم واحد حقّاً. حركة الترجمة مقترنة حتماً بمكانك بين الأمم، لا لأنك تتعلم عبر الترجمة فحسب، بل لأنك تمارس حضورك وقدرتك على الفهم، والدليل أن الأمم المتقدمة تترجم أضعاف ما تترجمه الأمم الأقل تقدماً. الترجمة مرتبطة حتماً بالصراع المحتدم في عالمنا. الترجمة ضرورة للبقاء. الترجمة إلى العربية تنهض على التعاون أكثر من التنافس بين مؤسسات مختلفة نشأت هنا وهناك خلال السنوات الأخيرة، وكان يجب أن تجعل المشهد الترجمي العربي أكثر تنوعاً، وأن تجعلنا أكثر فهماً للعالم، وأكثر قدرة على التنبؤ بما نحن سائرون إليه. لو كانت هذه المؤسسات تتعاون حقّاً لكنا الآن أكثر قدرة على استيعاب ما يجري في السياسات والحروب والنزاعات المحيطة، التي تخترق يوماً بعد يوم عالمنا العربي الممزق.أما الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى، فتواجه صعوبات مختلفة، يرتبط معظمها بأننا لا نجد، وأحياناً لا نعرف، ما نقدمه للعالم من معرفة.

> لك اهتمامات بنظرية ما بعد الاستعمار، كيف ترى تفاعل الآخر الغربي مع أدبنا العربي، وهل ما زال ينتقي الأعمال التي تؤكد له منظوره الاستشراقي القديم عن العرب؟

- نظرية ما بعد الاستعمار، والآداب التي تسلط الضوء عليها، شغلتني لفترة طويلة ولم تزل إلى الآن تحتل مساحة من اهتمامي. وقد تبلور هذا الانشغال في كتابي «عدوى الرحيل» وأيضاً في الكتاب الأساسي الذي ترجمته تحت عنوان «الإمبراطورية ترد بالكتابة» ومقالات أخرى كثيرة عن رواية روبنسون كروزو، وعن صورة العربي في الرواية الغربية، وعن صورة البربري في الكتابات الأوروبية بصفتها تمهيداً آيديولوجياً لحركة الاستعمار. انخرطت في هذا الاهتمام حين كنت في اليابان من 2000 إلى 2004، الفترة التي شهدت الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى) وبعدها غزو أميركا لأفغانستان والعراق، وما دخلت فيه منطقتنا من اضطراب مهول، ناتج عن الأيدي التي سعت إلى ما سمته الفوضى الخلاقة. في تلك الأيام - وما أشبه الليلة بالبارحة - وجدتني من جديد أمام مشهد الاستعمار القديم نفسه، بكل وجوهه العنصرية القبيحة، التي لم يسع المستعمرون الجدد إلى إخفائها. ووجدتني أقرأ من جديد رائعة الطيب صالح من منظور أنها كانت استكشافاً مبكراً لتمزقات المثقفين المستعمَرين التي لم تغادرهم واحتلت أذهانهم وقلوبهم طوال العصر الحديث، ولم يجدوا سبيلاً للفكاك منها فاضطروا للتكيف معها، والبحث عن طريق توفيقي هجين يسمح لهم بالحياة.

حللت الرواية من هذا المنظور، واستكشفت التشابه المرعب بين مصطفى سعيد والراوي والطيب صالح نفسه، ورغم ما يبدو بينهم من اختلاف ظاهري، فإن ثلاثتهم بدوا لي تنويعات على اللحن الممزق نفسه. وفي هذه الأثناء أيضاً تعرفت على كتاب «الإمبراطورية ترد بالكتابة» وترجمته مع مقدمة طويلة، ونشرته في دار أزمنة بالأردن عام 2005.

الترجمة ضرورة لكي تكون جزءاً من هذا العالم الذي لا يكف عن التحول

> بعيداً عن نماذج مثل إدوارد سعيد وإيهاب حسن، لماذا لا يساهم النقاد العرب الذين يعيشون في بلدانهم الأصلية في المشهد النقدي العالمي؟

- في العقود الأخيرة، مع اقترابنا أكثر من التفكير النقدي في العالم، وبتأثير وسائل التواصل وإتاحة الكتب والنظريات بلغات مختلفة على شبكة الإنترنت، صار التفكير النقدي والقضايا المطروحة متقاربة، إن لم تكن متطابقة بين مناطق مختلفة من العالم. وربما صار من العبث أن نفكر في نظرية نقدية عربية، فالنظرية هي النظرية، والأدب هو الأدب في كل مكان من العالم. الاختلاف مرجعه إلى اختلاف الثقافات والموروثات وطبائع اللغات المختلفة، وهذه أشياء يمكن أن تساعد في استكشاف جوانب خاصة من النظريات المطروحة. فما بعد الاستعمار بالنسبة لأدبنا العربي مختلف نسبيّاً عنه في ثقافات أفريقيا ومنطقة الكاريبي والهند وغيرها من مناطق المستعمرات القديمة.

> ما الملامح الأخرى التي يمكن أن يختص بها الأدب العربي وتمنحه خصوصية في الممارسة النقدية؟

- الأمر نفسه يمكن أن نراه في تحققات السرد بضمير المخاطب مثلاً الذي انشغلت به في الأدب العربي عبر كل مراحله وعصوره، وكانت تحققاته في أدبنا مختلفة نسبيّاً عنها في الآداب الأخرى، وحاولت بلورة ذلك في فصول كتابي «أنت»، خصوصاً بالوقوف عند كتاب متفرد لأبي حيان التوحيدي يسيطر عليه خطاب الأنت، وهو كتاب «الإشارات الإلهية»، أو في دراسة مصطلح «الحديث» الذي يسري تأثيره في أنواع مختلفة من الأدب العربي عبر عصوره المختلفة، ويربط بين الأدب العربي القديم والأدب العربي الحديث، وبين الأدب الفردي والرسمي، والأدب الشعبي الجمعي. وربما كانت هذه المادة الأدبية التي اختصت بها اللغة العربية عبر تاريخها هي ما يعطي للنقاد العرب الفرصة أن يقدموا فهمهم الخاص وإسهامهم المتميز في النقد والنظرية العالمية.


مقالات ذات صلة

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

ثقافة وفنون هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية.

ندى حطيط
ثقافة وفنون إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

يواصل الكاتب المسرحي والروائي ماجد الخطيب، في الجزء الثاني من «ملصقات بيروت»، سرد سيرته الشخصية في بيروت، المبتلية بالحرب،

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة

هاشم صالح

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».