الخلافات بين التيارين الرئيسين في النظام السياسي الإيراني ليست جديدة، لكن الحرب التي استمرت 12 يوماً مع إسرائيل، والتوترات المتفاقمة مع الغرب، أعادت إشعالها بشكل ملحوظ، وأفرزت ديناميكيات جديدة عززت هذا التباين. هذا ما برز بوضوح خلال تطورات الأسبوعين الماضيين، رغم الخطاب الرسمي الذي يحرص على التأكيد بأن إيران باتت أكثر وحدة وتلاحماً مما كانت عليه قبل الحرب. ولقد أثارت دعوات «جبهة الإصلاحات» لإحداث تغييرات جذرية في نهج المؤسسة الحاكمة، بما في ذلك التخلي عن برنامج تخصيب اليورانيوم وخفض التوتر مع العالم الخارجي، غضباً واسعاً في الأوساط المحافظة، التي اتهمت الموقّعين على البيان بـ«الخيانة».

تزداد في إيران وتيرة الضغوط على «الإصلاحيين» بالتوازي مع تحذير مكتب المرشد الإيراني علي خامنئي لمَن «يكرّرون خطاب الأعداء»؛ الأمر الذي طرح تساؤلات وشكوكاً بشأن صحة ما ردده المسؤولون عن التآزر والوحدة والمصالحة الداخلية.
الرئيس مسعود بزشكيان كان الأكثر إصراراً على تأكيد الوحدة الداخلية؛ تماشياً مع شعاره لتحقيق المصالحة الوطنية. إلا أنه أيضاً كان أول من أفصح عن التباينات في أعلى هرم السلطة بعدما شهدت البلاد تغييرات في أعلى هيئة أمنية تخضع لصلاحيات المرشد علي خامنئي، رغم الدور الرمزي للرئيس الإيراني. فبعد أيام من تعيين علي لاريجاني أميناً لمجلس الأمن القومي، قال بزشكيان لمجموعة من ممثلي وسائل الإعلام: «لا تريدون إجراء مباحثات؟ إذن، ما البديل؟ هل تريدون العودة إلى الحرب؟ لقد جاءوا وضربوا المنشآت النووية، وإذا أصلحناها سيعودون لضربها مجدداً».
أيضاً، حذّر بزشكيان من مواصلة تحدّي القوى الغربية، خصوصاً واشنطن، بقوله: «لا أتصور أننا بالخصومة يمكن أن نصل إلى أي نتيجة... إذا لم تتحاور معهم، فما الذي ستفعله؟ هل تريد أن نحارب؟... لم يقل أحد إنه عندما أتحدث سأذهب لأستسلم». وتعهّد بأنه لن يقوم بأي خطوة دون موافقة وتنسيق مع علي خامنئي، حتى وإن كانت مخالفة لرأيه الشخصي. وأردف: «باعتماد التنسيق لا ينبغي للآخرين الاعتراض، وما يصبّ في مصلحة البلد والشعب يجب تنفيذه».
مقترحات بيان الإصلاحيين أثارت غضب الأوساط المحافظة ضد التيار الإصلاحي وضد روحاني وظريف

عاصفة من الانتقادات
أشعلت تصريحات بزشكيان هذه عاصفة من الانتقادات وصلت إلى حد تكرار التهديد الكلاسيكي لنواب البرلمان بطرح الثقة بالرئيس لعدم الأهلية السياسية. هذا وصفه أنصار بزشكيان بـ«سيناريو» الرئيس الإيراني الأول بعد ثورة 1979 أبو الحسن بني صدر، الذي عزله البرلمان من منصبه بعد خلافات مع المرشد الأول الخميني بشأن الحرب الإيرانية - العراقية في الثمانينات. وهو التهديد الذي واجه رؤساء سابقين في إيران، كان آخرهم حسن روحاني أثناء المفاوضات التي انتهت بالاتفاق النووي لعام 2015.
لم تقتصر الردود على نواب البرلمان ووسائل الإعلام المحافظة كصحيفة «كيهان»، بل جاء الرد سريعاً من المكتب السياسي في «الحرس الثوري» على لسان نائب مسؤول الشؤون السياسية، الجنرال عزيز غضنفري الذي قال «أخطاء الرئيس اللفظية تزداد في الأوقات الحرجة... ومجال السياسة الخارجية ليس مكاناً لقول كل الحقائق». وأضاف في مقال نشرته مواقع «الحرس الثوري» أن مجال السياسة الخارجية ليس مكاناً لذكر كل الحقائق... والعبارات غير الدقيقة من المسؤولين رفيعي المستوى تؤثر سلباً في عمل الحكومة وتزيد من صعوبة المهام في المجالين الخارجي والداخلي». وفي تحذير واضح، تابع: «التصريحات غير المدروسة تعود بالضرر الأكبر على الحكومة نفسها، وتجعل عملها في الساحة السياسية المعقدة، أكثر صعوبة».
«الإصلاحيون» يضغطون...
وحتى قبل أن تهدأ عاصفة تصريحات بزشكيان، وجّه الزعيم الإصلاحي مهدي كروبي صدمة أخرى للساحة السياسية، وانتقد في بيان صريح، البرنامج النووي، ورد على التصريحات الأخيرة للمرشد الإيراني علي خامنئي الذي قال أخيراً إن على الشعب أن يقترب من القمة، وعليه الصبر حتى حدوث ذلك. أما كروبي، فقال مخالفاً إن «النظام كان يريد أن يصل بالشعب إلى القمة عبر الطاقة النووية، بينما أوصل الأمة إلى قاع الهاوية... على المسؤولين العودة إلى الشعب وتوفير أرضية للإصلاحات الهيكلية القائمة على إرادة الأمة كي تبقى إيران، قبل فوات الأوان». وأبدى أسفه لما وصفه بـ«ابتعاد الناس عن الثورة والنظام بسبب سوء أداء المسؤولين».
وبموازاة كروبي، وجَّه الرئيس الأسبق حسن روحاني رسالة مطولة عبر فيديو نشره على موقعه الرسمي، تناول فيها مختلف جوانب الأوضاع الحالية. وتضمن الفيديو رسائل حساسة عدة مرَّرها بأسلوبه المعتاد، وعلى رأسها دعوته لخفض التوتر مع واشنطن، معتبراً ذلك «واجباً لا خياراً».
وشدَّد روحاني على ضرورة «صياغة استراتيجية وطنية محدثة تعكس إرادة الشعب، تقوم على تنمية البلاد وتعزيز الوحدة الوطنية»، محذراً: «من الاكتفاء بالشعارات من دون إصلاحات عملية لمعالجة الثغرات التي كشفتها الأحداث الأخيرة». وأضاف أن على القوات المسلحة والأجهزة الاستخباراتية التركيز على مهامها الأساسية، بعيداً عن الاقتصاد والدعاية والسياسة.
بدوره، وجَّه محمد جواد ظريف، وزير خارجية حكومة روحاني، وأحد مصمّمي الاتفاق النووي لعام 2015، رسائل مماثلة عبْر مجلة «فورين بوليسي» الأميركية - المؤثرة إيرانياً - دعا فيها لـ«تغيير المنظور والانتقال من نموذج التهديد إلى «نموذج الفرصة». وشدَّد على ضرورة عودة إيران والغرب إلى طاولة المفاوضات.
مع تنوعها، عكست هذه المواقف قلقاً داخلياً من التهديدات بشن حرب جديدة واحتمال تفاقم الأزمة مع الولايات المتحدة والتلويح الإسرائيلي باستهداف المرشد الإيراني ودعوات رئيس الوزراء الإسرائيلي للإيرانيين بالنزول إلى الشارع وتغيير نظام الحكم.
بيان «جبهة الإصلاحات»
من جهة ثانية، جاء بيان بعنوان «المصالحة الوطنية: فرصة ذهبية للتغيير والعودة إلى الشعب»، ليؤكد هذه المخاوف.
البيان تضمن «خريطة طريق» من 11 بنداً، لإحداث تغييرات أساسية في السياسة الخارجية، ومنها التوقف الطوعي عن تخصيب اليورانيوم، وقبول رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والدخول في مفاوضات شاملة مع واشنطن، وخفض التوتر مع الدول الغربية والتعاون مع دول المنطقة، خصوصاً المملكة العربية السعودية.
لكن المقترحات التي جاءت بعد شهرين من حرب مدمرة مع إسرائيل وضربات أميركية استهدفت المنشآت النووية الإيرانية، أثارت غضب الأوساط المحافظة ضد التيار الإصلاحي وضد روحاني وظريف. وبلغت الانتقادات ذروتها مع دخول مكتب المرشد الإيراني على الخط، عبر صحيفة «صوت إيران»، التي حذّرت التيار الإصلاحي من «ملء مخزن ذخيرة أعداء البلاد».
وأضافت الصحيفة في مقال افتتاحي، الثلاثاء، أن «ترديد مزاعم باطلة حول قضايا حساسة، كالنشاط النووي والتخصيب، عبر إعادة إنتاج القائمة التي أملاها الأميركيون، وفي ظل ظروف وقف إطلاق النار، لا يخدم إلا العدو ويبعث فيه الأمل بتحقيق مآربه».
الصحيفة اتهمت مراكز أبحاث أميركية بإطلاق حملة تأثير متعددة الوسائط داخل إيران في أعقاب الحرب التي استمرت 12 يوماً مع إسرائيل. وعدَّت أن هدف الحملة «إثارة نقاش داخلي ضد البرنامج النووي الإيراني وترسيخ فكرة أن الطموحات النووية هي مصدر انعدام الأمن لا مصدر الأمن». ورأت أن «عوامل متعددة أسهمت في إفشال المخططات الأميركية الأخيرة، لكن العامل الأهم والأبرز كان وحدة الشعب وتماسكه، وهي النقطة التي يسعى العدو لاستهدافها قبل أي شيء آخر».
وعكس المقال «غضب» أعلى المستويات في إيران في البيان الذي صدر الأحد الماضي، من «جبهة الإصلاحات» التي تشكل خيمة لأكثر من 30 حزباً في التحالف الإصلاحي الداعم للحكومة الحالية. وتعدّ مقرّبة من الرئيس الإصلاحي الأسبق محمد خاتمي.

...وهجوم المحافظين
من جهتها، تساءلت صحيفة «كيهان» التابعة لمكتب المرشد الإيراني، ما إذا كان «بيان جبهة الإصلاحات أو الترجمة الفارسية لخطاب نتنياهو». ووصف حسين شريعتمداري، رئيس تحرير الصحيفة وممثل المرشد الإيراني، الموقّعين على بيان «الجبهة» بـ«الطابور الخامس للعدو». وأنه «بعد هزيمة إسرائيل وأميركا، في الحرب التي استمرت 12 يوماً، تبدّد حلمهم المعلن رسمياً بتغيير النظام».
وأدلت بدلوها وكالة «فارس»، أبرز وسائل الإعلام التي يديرها «الحرس الثوري» وتلعب دورها أساسياً في الساحة الإعلامية، فاعتبرت أن كثيرين «يرون أن بيان جبهة الإصلاحات تتماشى مع أهداف الولايات المتحدة وإسرائيل في الحرب الأخيرة». وأضافت: «البيان لم يتمكن أبداً من جذب انتباه الناس... الرصد الميداني وبيانات شبكة الإنترنت تظهر أنه قد نوقش فقط في الأوساط السياسية... لكن أهمية هذا الموضوع تكمن في أن مواقف هذا التيار غدت واضحة لكثيرين، خاصة في الظروف الأخيرة».
وألقت الوكالة باللوم على مقربين من الرئيس الأسبق محمد خاتمي، على رأسهم الناشط إبراهيم أصغر زاده، الذي يترأس اللجنة السياسية في «جبهة الإصلاحات»، والناطق باسم «الجبهة» الناشط الإصلاحي جواد أمام.
من جهتها، ذكرت صحيفة «وطن امروز» المحافظة أن البيان يشجّع الولايات المتحدة وإسرائيل على شن هجوم عسكري جديد ضد إيران. وأردفت: «في الواقع، قدّمت جبهة الإصلاح من خلال هذا البيان تنظيراً للتراجع والاستسلام، واعتبرت - عن طريق الخطأ - أن التراجع هو الحل للخروج من الوضع الراهن، بل وذهبت إلى حد اتهام النظام بأنّه في حال اندلاع حرب جديدة، فإن مسؤوليتها ستقع على عاتق الجمهورية الإسلامية».
وأدان حزب «مؤتلفة الإسلامية»، أبرز الأحزاب المحافظة وهو التكتل السياسي التقليدي لتجار البازار، بيان «جبهة الإصلاحات». واتهم التيار الإصلاحي بـ«إضعاف الروح المعنوية الوطنية... والاستقطاب الحزبي وخلق انقسام داخلي وإيحاء الضعف واليأس والترويج لمفاوضات شاملة، وإضعاف المؤسسة العسكرية والأمنية، وإرسال رسالة ضعف إلى العدو، وإظهار النظام بمظهر المخطئ وتجاهل الحقائق الإقليمية».
وقال الحزب إن دعوة الإصلاحيين لوقف تخصيب اليورانيوم، والتعاون التام مع الوكالة الذرية والجلوس على طاولة مفاوضات شاملة مع واشنطن «تطالب عملياً بنزع السلاح الاستراتيجي لإيران. بينما أظهرت تجربة الحرب الأخيرة التي استمرت 12 يوماً أن الأعداء لا يفكرون إلا في تقسيم وتدمير استقلال البلاد».
ورأى الحزب أن «تجاهل دعم محور المقاومة وحتى طرح تطبيع العلاقات مع أميركا، ابتعاد واضح عن مبادئ الثورة والمرشد، ويؤدي عملياً إلى تقوية الكيان الصهيوني... واقتراح مفاوضات مباشرة مع أميركا وتعليق التخصيب هو تكرار لسياسة (بناء الثقة من جانب واحد) الفاشلة التي ثبتت في تجربة البرنامج النووي ولم تؤد إلا إلى وعود جوفاء وزيادة الضغوط».
واتهم بيان «مؤتلفة»، التيار الإصلاحي بطرح مطالب «غير واقعية وفئوية»، مشيراً على وجه التحديد إلى طلب الإصلاحيين لإلغاء دور مجلس صيانة الدستور في الانتخابات، وحل المؤسسات الموازية وخروج القوات العسكرية من السياسة والاقتصاد». وقال إن هذه الدعوات «تتماشى مع مواقف أميركا والصهيونية، ومصممة لتمكين عودة تيار محدد إلى السلطة»، في إشارة إلى الإصلاحيين. كذلك اتهم الإصلاحيين بالانسجام مع أعداء الخارج لاستخدامهم عبارات مثل «يأس وقلق الشعب» أو «خطر الانهيار التدريجي». وقال البيان إن ذلك «يعكس مباشرة خطاب الأعداء في الظروف الحربية ويعدّ مثالاً على (الطعن من الخلف) للشعب والنظام».
ومن ثم انتقد البيان «الصورة القاتمة» التي قدمتها «جبهة الإصلاحات» من «تجاهل الإنجازات الوطنية والدور البارز للقوات المسلحة وأجهزة الاستخبارات في الحرب التي استمرت 12 يوماً».
أيضاَ انتقادات داخل «المعسكر الإصلاحي»
في المقابل، لم يعبّر سوى حزب إصلاحي واحد وبعض الناشطين الإصلاحيين عن تحفظاتهم إزاء بيان «جبهة الإصلاحات».
إذ ندد حزب «ندا» الإصلاحي المقرب من حلقة كمال خرازي، مستشار المرشد الإيراني، بالبيان. وانتقد النائب المعتدل السابق، علي مطهري حلفاءه «الإصلاحيين»، قائلاً: «حتى لو قبلنا بمراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإنهم سيطالبون بمطالب جديدة تتعلق بالصواريخ والمنطقة، ولن يتراجعوا حتى نقبل بحكم إسرائيل على المنطقة».
أيضاً احتجّ الناشط السياسي الإصلاحي محمد رضا جلايي بور على البيان، معتبراً أنه «يتناقض مع الواقع الإيراني... وهو في الحقيقة ليس أكثر من قائمة بالآمال والطموحات التي تتبناها جبهة الإصلاح، لكنه يفتقر إلى أي مسار عملي أو خطة واضحة لتحقيق أهداف واقعية».
وانتقد الصحافي الإصلاحي محمد قوجاني، رئيس تحرير صحيفة «سازندكي» الناطقة باسم تيار الرئيس الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني، البيان معتبراً أنه «يضعف حكومة بزشكيان». وحث الإصلاحيين على «التحلّي بالمسؤولية التاريخية والوقوف إلى جانب الرئيس، ودعم مؤسسات السياسة الخارجية والأمن الوطني».
وأخيراً، قال المحلل السياسي الإصلاحي أحمد زيد آبادي في مقال: «من حيث المبدأ، لست ضد مضمون بيان جبهة الإصلاحات الداعي إلى تعليق التخصيب؛ فأنا أتبنى هذا الطرح منذ أكثر من ثلاثين سنة. لكن إصدار البيان في هذا التوقيت كان خطأً؛ لأن أصحاب القرار لن يتأثروا به ما لم يقتنعوا داخلياً، بينما يوفّر البيان ذريعة مثالية للقوى المتشددة لتأليب دعايتها ضد الإصلاحيين».
مفترق طرق
هكذا، تكشف الأزمة التي فجّرها البيان الإصلاحي الأخير عن أن إيران تقف عند مفترق طرق حاسم بين مسارين متناقضين: التصعيد والمواجهة المستمرة، أو التهدئة والانفتاح.
وبينما تصر القوى المحافظة على ربط أي خطاب إصلاحي بتهديد الأمن القومي، يتمسك الإصلاحيون بالدعوة إلى إصلاحات هيكلية ومقاربات دبلوماسية لتخفيف التوترات الخارجية.
إلا أن عمق الأزمة يتجاوز الخلاف حول البرنامج النووي، ليعكس صراعاً عميقاً على هوية الدولة ومستقبلها في ظل تزايد المخاوف من أن استمرار الاستقطاب قد يفتح الباب أمام اهتزاز أركان النظام أو حتى سقوطه.


