الجمهوريون والرقص السياسي على قضايا الإرهاب

هجمات باريس وكاليفورنيا الإرهابيتين دفعتا الناخبين بالحزب إلى اختبار مدى جدية المرشحين في محاربة التطرف

الجمهوريون والرقص السياسي على قضايا الإرهاب
TT

الجمهوريون والرقص السياسي على قضايا الإرهاب

الجمهوريون والرقص السياسي على قضايا الإرهاب

تدخل معركة ترشيحات الحزبين الجمهوري والديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية المقررة في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 بداية الاختبارات الجماهيرية على مستوى الولايات، اعتبارًا من شهر فبراير (شباط) المقبل في ولاية آيوا، وهي ولاية زراعية متوسطة الحجم تقع في المنطقة المعروفة تاريخيا بالغرب الأوسط إلى الغرب من ولاية إيلينوي (حيث تقع مدينة شيكاغو). وحاليًا، بينما تبدو وزيرة الخارجية و«السيدة الأولى» السابقة هيلاري كلينتون المرشحة الأوفر حظًا بوضوح في سباق المرشحين عن الحزب الديمقراطي، تزدحم ساحة الجمهوريين بالمرشحين الذين يشكك كثرة من المراقبين في أن يحافظ كل منهم على مواقعه خلال الأسابيع والأشهر الأولى من الحملة. والملاحظ خلال الفترة الماضية بروز مرشحَين من خارج الطبقة السياسية التقليدية نجحا عبر خطبهما المتطرفة والمثيرة للجدل في لفت الأنظار إليهما، وإكسابهما نسبة لا بأس من التأييد على حساب الساسة الجمهوريين التقليديين، ولا سيما من وجوه مجلسي الكونغرس وحكّام الولايات.

تتزايد سخونة الجدل السياسي في سباق معركة الرئاسة الأميركية مع وجود مرشح جمهوري يميني متطرف على غرار الملياردير دونالد ترامب، قادر على إثارة الجدل واختلاق المعارك، وتصدر عناوين الصحف وعناوين الأخبار بتصريحاته الاستفزازية التي تأتي أحيانا غبية تنم عن جهل وسطحية، وأحيانا غائبة عن الواقع، ناهيك بأنها في معظم الأحيان مسيئة وتتسم بالعنصرية الفظّة.
ولقد أطلق ترامب جولة جديدة من التصريحات المثيرة للجدل، مساء الاثنين خلال ملتقى انتخابي بولاية ساوث كارولينا، داعيًا إلى منع المسلمين كافة من دخول أراضي الولايات المتحدة. إذ قال ترامب الذي يتبوأ راهنًا مرتبة متقدمة في استطلاعات الرأي العام بين الجمهوريين: «أقول لكم إن دونالد ترامب يدعو لمنع تام وكامل للمسلمين من دخول الولايات المتحدة حتى يتسنى للمشرعين معرفة ما الذي يجري»، وذلك في إشارة إلى المنفذين المسلمين لجريمة سان برناردينو (بولاية كاليفورنيا) الذين يشتبه في تعاطفهم مع تنظيم داعش. وأضاف المرشح اليميني المثير للجدل: «لا يمكن لبلادنا أن تظل ضحية لهجمات بشعة يشنها أشخاص لا يؤمنون إلا بـ(الجهاد)، وليس لديهم أي احترام للحياة البشرية»، على حد زعمه.
ومن جهة ثانية، قال كوري ليفاندوفسكي، مدير حملة ترامب الانتخابية، إن «حظر دخول المسلمين (الذي ينادي به ترامب) للولايات المتحدة لا ينطبق فقط على الأجانب الذين يتطلعون للهجرة إلى الولايات المتحدة فحسب، بل ينطبق أيضًا على المسلمين القادمين كسياح». وادعى ليفاندوفسكي أن استطلاع رأي – أجراه مركز غير معروف – يشير إلى أن «ربع المسلمين الذين يعيشون في الولايات المتحدة يعتقدون أن العنف ضد الأميركيين هو جزء من (الجهاد) الإسلامي وله ما يبرّره!».
وحقًا، أعرب كثيرون من أنصار ترامب عن موافقتهم على اقتراحه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، معبّرين عن المخاوف المتزايدة التي تنامت خلال الأسابيع الماضية من تهديدات «داعش» ضد الولايات المتحدة، وكذلك في أعقاب هجمات العاصمة الفرنسية باريس الدامية في الثالث عشر من نوفمبر الماضي، وفي أعقاب جريمة سان برناردينو الجماعية التي أسفرت عن مقتل 14 شخصًا.
غير أن هذه التصريحات ما كانت الأولى من نوعها على لسان ترامب، بل سبق لرجل الأعمال الملياردير أن دعا من قبل إلى «فرض رقابة» على المساجد، كما حث السلطات على إعداد قواعد بيانات بجميع المسلمين الذين يعيشون في الولايات المتحدة. مع هذا، ناقض ترامب نفسه وتراجع عن بعض تصريحاته خلال لقاء مع شبكة «سي إن إن» التلفزيونية عندما سئل عما إذا كان المسلمون يشكلون خطرًا على الولايات المتحدة، فأجاب أنه يعتقد أن المسلمين «شعب عظيم». وأردف: «أنا أحب المسلمين... أعتقد أنهم شعب عظيم». وكان قبل ذلك قد تراجع أيضًا عن تصريحات صدرت عنه حول إعداد قواعد البيانات بجميع المسلمين الذين يعيشون في الولايات المتحدة، مُصرًا على أنها «كانت فكرة لأحد الصحافيين»، وهو بالتالي غير ملتزم بهذه الفكرة.
* آراء إزاء «التطرّف الإسلامي»
ومع العد العكسي لموعد المناظرة التلفزيونية المنتظرة بين مرشحي الحزب الجمهوري منتصف ديسمبر (كانون الأول) الحالي في مدينة لاس فيغاس لولاية نيفادا، أشارت التوقعات إلى جدل ساخن يحتدم بين المرشحين حول أي منهم يقدم «أفضل السياسات لمكافحة (التطرف الإسلامي)» و«أنجع الحلول لمكافحة (داعش) في إطار السياسة الخارجية»، وأفعل السبل لمنع تحول المسلمين داخل أميركا إلى متطرفين يقتلون الأبرياء» في إطار حماية الأمن القومي الأميركي.
والواضح أن المرشحين الجمهوريين المتنافسين يتأهبون للمزايدة ونيل بعضهم من بعض خلال المناظرة المرتقبة، بل ويعدون العدة للانقضاض على ترامب والتشهير بتصريحاته المسيئة للمسلمين في محاولة لكسب أصوات الجالية المسلمة من ناحية، وإظهار ترامب بمظهر الرجل المتعصّب غير المسؤول ما قد يؤدي إلى خفض شعبيته المتصاعدة بين الناخبين.
وبالفعل، هاجم عدد من المرشحين الجمهوريين تصريحات ترامب ورموه بتهمة «الافتقار إلى الخبرة». وقال كريس كريستي، حاكم ولاية نيوجيرسي: «هذا هو الشيء الذي يقوله شخص ليس لديه أي خبرة ولا يعرف عما يتحدث. نحن لسنا بحاجة إلى اللجوء إلى مثل هذا الأمر، بل ما يتعين علينا فعله هو زيادة أنشطة الاستخبارات، كما أننا أيضًا بحاجة إلى التعاون مع الأميركيين المسلمين المسالمين الذين يريدون إعطاءنا المعلومات الاستخباراتية عن أولئك المتطرفين». أيضًا انتقد جون كاسيك، حاكم ولاية أوهايو تصريحات ترامب معتبرًا أنها «تزيد من الانقسامات، وهي سبب كافٍ للقول إن ترامب لا يصلح لقيادة الولايات المتحدة».
وخارج مجموعة الساسة التقليديين، أكد المرشح بن كارسون، وهو طبيب الأعصاب المتقاعد الذي سبق له أن أصدر تصريحات سابقة ترفض وصول مسلم إلى منصب الرئاسة الأميركية، تمسكه بتسجيل ورصد تحركات كل زائر للولايات المتحدة بغض النظر عن ديانته، رافضًا الدعوة الانتقائية لدين واحد.
أما سيدة الأعمال كارلي فيورينا فرأت في تصريحات ترامب «رد فعل مبالغًا فيه، في مقابل رد الفعل البطيء للرئيس باراك أوباما». وأشارت إلى أن «ترامب يلعب على وتر المخاوف لدى الأميركيين».
وفي مطلق الأحوال، يشير المحللون إلى أن هذه النوعية من التصريحات غير المسؤولة من المرجح أن تعكّر صفو السباق الجمهوري للرئاسة وتضع الحزب الجمهوري أمام تحديات كبيرة، وتدفع خصوم ترامب من المرشحين الجمهوريين الآخرين إلى الانخراط في نقاشات حول إجراء اختبار إلى الخلفية الدينية لكل شخص راغب في الدخول إلى الولايات المتحدة.
* حسابات السباق
جدير بالذكر أنه في ظل ميل الجمهوريين الجلي إلى اليمين، يرى كل مرشح جمهوري طامح إلى تسليط الأضواء عليه كمرشح جدي أن يظهر بمظهر المرشح الأقوى في مسألة حماية الأمن القومي الأميركي والسياسة الخارجية. وعلى الرغم من تجربة كريس كريستي، حاكم نيوجيرسي، ولا سيما توليه منصب المدعي العام الاتحادي في قضايا الإرهاب بالولاية في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وكذلك على الرغم من خبرة السيناتور ماركو روبيو (من ولاية فلوريدا) في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، فإن المخطط الاستراتيجي ستيف شميت يعتقد أن كل مؤهلات وخبرة المرشحين الجمهوريين الآخرين ما زالت لا تتفوق على ترامب في أذهان كثرة من الناخبين الجمهوريين.
وينبع نجاح ترامب حتى الآن، وفقًا للاستراتيجيين الجمهوريين، من التباين بين أسلوبه القوي مقابل أسلوب أوباما السلبي والهادئ في وجه الهجمات الإرهابية. كذلك يعكس ترامب الغضب والقلق الذي يشعر به كثيرون من الناخبين. ووفق شميت، «دائمًا يكون الرئيس الجديد رد فعل للرئيس الحالي، وبالتالي فعندما ينظر الناخبون إلى أوباما ويرون ضعفه وعجزه وتردده فإنهم يتطلعون إلى أمثال ترامب لرغبتهم في زعيم قوي لأن شخصية ترامب هي النقيض الحقيقي لشخصية أوباما».
أيضًا، على الرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهت إلى ترامب بسبب تصريحاته المثيرة للجدل، يستبعد بعض المحللين والخبراء أن تسفر عن انخفاض في تراجع شعبيته في استطلاعات الرأي، وبالأخص في صفوف الناخبين الجمهوريين الذين تثبت النتائج خلال السنوات الأخيرة ميلهم أكثر فأكثر إلى اليمين وتبنيهم مواقف محافظة متشددة كالمواقف التي تعبر عنها جماعة «حفلة الشاي». ولعل هذا الواقع ما يذهب بعيدًا في تفسير ظاهرة احتفاظ رجل الأعمال الملياردير اليميني بالمرتبة الأولى في استطلاعات الرأي بين الجمهوريين لعدة أشهر، على الرغم من تصريحاته المتطرفة والعنصرية أحيانا.
* معركة آيوا
على صعيد آخر، يقول محللون آخرون إن تصريحات ترامب الخاصة بمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة «سلاح جديد فعال» يستخدمه ترامب الآن ليستعيد موقعه في صدارة الاستطلاعات بين المتنافسين الجمهوريين في آيوا، بعدما أظهرت استطلاعات للرأي تراجعًا نسبيًا في نسبة التأييد الذي كان يتمتع به في هذه الولاية بالذات. إذ تشير بعض التقارير إلى تراجع ترامب في آيوا إلى المرتبة الثانية التي يتقاسمها مع السيناتور ماركو روبيو (من ولاية فلوريدا)، وتقدم السيناتور تيد كروز (من ولاية تكساس) إلى المرتبة الأولى. وحسب المراقبين والمحللين حقق السيناتور كروز تقدمه في آيوا بنتيجة كسبه تأييد ستيف كينغ، عضو مجلس النواب الأميركي عن الولاية، وهو يتمتع بنفوذ قوي مع تيار المحافظين في أوساط الحزبيين الجمهوريين بالولاية.
حتى اللحظة سجلت شعبية كروز في آيوا نسبة 24 في المائة من أصوات ناخبي الحزب الجمهوري في الانتخابات الحزبية، بينما يحظى ترامب بنحو 19 في المائة، يليه بفارق بسيط السيناتور روبيو بتأييد يبلغ 17 في المائة، ويأتي بعد هؤلاء بن كارسون بـ13 في المائة، في حين يحصل حاكم ولاية فلوريدا السابق جيب بوش (نجل الرئيس الأسبق جورج بوش الأب وشقيق الرئيس السابق جورج بوش الابن) على 6 في المائة، والسيناتور راند بول (ولاية كنتاكي) على 4 في المائة. ويتذيل القائمة كل من كارلي فيورينا وجون كاسيك بأقل من 3 في المائة لكل منهما.
آيمي ديفيدسون، المحللة السياسية، قالت أخيرًا معلقة إن ترامب دأب خلال الأشهر الستة الماضية على «إشاعة روح التعصّب على المسرح الرئيسي للسياسية الأميركية. ودعوته إلى الحظر الديني للراغبين في دخول الولايات المتحدة فكرة غير مسبوقة في التاريخ الأميركي وتتعارض مع القيم الأميركية والدستور الأميركي». وأشارت إلى أنه سبق لترامب إطلاق تصريحات مسيئة والتهجم على المكسيكيين في مستهل حملته الانتخابية، داعيًا إلى ترحيلهم من الولايات المتحدة وتشييد جدار فاصل بين الولايات المتحدة والمكسيك. كذلك شن هجومًا ضد النساء وأدلى بتصريحات كانت مسيئة للمرأة، والآن انتقلت بوصلة تصريحاته إلى المسلمين.
* قضايا تشغل الناس
إلا أن بعض المحللين يعتقدون أن دونالد ترامب شخصية انتهازية أكثر منها شخصية متعصبة. ويذهب هؤلاء إلى حد القول إنه مستعد لقول أي شيء وفعل أي شيء لتحسين فرصه في استطلاعات الرأي قبل الأسابيع الأخيرة من التجمّعات الانتخابية للجمهوريين في آيوا خلال فبراير المقبل. وهو يعتقد أن تحقيق نتيجة طيبة في آيوا يؤمن لحملته قوة دفع مهمة، ويفرضه مرشحًا جديًا في حلبة الجمهوريين الذين تبين استطلاعات أجريت أخيرًا أن أحدًا منهم لن يتمكن – وفق الظروف والمعطيات الحالية طبعًا – من التغلب على هيلاري كلينتون إذا ما رشحها الحزب الديمقراطي رسميًا.
ويقول المحلل الاستراتيجي تيري كيسي إن من الواضح أن تصريحات ترامب تخلق كثيرا من الاهتمام لدى الناخبين، والملاحظ أنه تعمد في البداية تبني قضايا مثل الهجرة غير القانونية، ومن ثم انتقل بعدها إلى قضيا أخرى تشغل الناس مثل الأمن والسلامة ومكافحة التطرف.
أما صحيفة «بوليتيكو» فتقول إن الهجمات الإرهابية التي هزت باريس، وبعدها الحادث الإرهابي في سان برناردينو بكاليفورنيا، دفعت الناخبين الجمهوريين – الذين هم أساسًا من المحافظين – أكثر فأكثر إلى الرغبة في اختبار مدى صلابة المرشحين وجدية مواقفهم في مواجهة خطري «التطرف الإسلامي» و«الإرهاب».
وبناء عليه، يدرك ترامب وأمثاله من الطارئين على الساحة السياسية التقليدية، في قرارة نفوسهم، أنهم يفتقرون إلى الخبرة في ميدان السياسة الخارجية، كما أنهم لا يستطيعون كسب دعم قيادات مجربة ومحنكة تتمتع بالخبرة والفهم في المجالين الدولي والأمني. لا خيار أمامهم إلا الاستفادة من إطلاق مواقف صارمة وحازمة في مواجهة التطرف والإرهاب. وفعلاً، أشار استطلاع لشبكة «سي إن إن» خلال الأسبوع الماضي إلى أنه ينظر إلى ترامب على أنه أفضل المرشحين الجمهوريين أهلية للتعامل مع تنظيم داعش المتطرف، وكذلك مع ملف السياسة الخارجية!
على أي حال، يشتد الجدل منذ الآن حول مَن سيفوز بترشيح الحزب الجمهوري في معركة آيوا الحزبية خلال فبراير القادم، ومن سيتمكن ستشكل محطة هذه الولاية نقطة انطلاق مفيدة في المواجهات التمهيدية في الولايات الأخرى على امتداد البلاد وصولاً إلى المؤتمر الحزبي الكبير الحاسم. والسؤال الذي يفرض نفسه بلا شك هو: كيف ستكون معايير المنافسة؟ هل بإطلاق مزيد من التصريحات المستفزة وبث المخاوف ومشاعر الكراهية والعنصرية وأجواء الاستقطاب؟... واستطرادًا: هل يمكن أن يكون دونالد ترامب مرشح الحزب الجمهوري لخوض سباق الرئاسة لعام 2016؟



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.