عندما استقبل الرئيس الأميركي دونالد ترمب المستشار الألماني فريدريك ميرتس في البيت الأبيض، الشهر الماضي، بدا راضياً عن خطط ألمانيا بزيادة إنفاقها الدفاعي، وهو قرار مثير للجدل اتخذته برلين بعد الحرب في أوكرانيا، مهّد لبداية مسيرة «إعادة عسكرة» متزايدة في البلاد للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من الجدل المرافق لهذا القرار داخل ألمانيا بسبب الأصداء التاريخية، فإن حكومة المستشار ميرتس تبدو عازمة على إكمال ما بدأه، ولو متلكأً، المستشار السابق أولاف شولتس بالإعلان عن تخصيص صندوق بقيمة 100 مليار يورو لزيادة الإنفاق العسكري في خطاب تاريخي داخل البرلمان الألماني. آنذاك، في فبراير (شباط) 2022، ألقى شولتس خطابه الشهير تحت عنوان «نقطة تحوّل» عن زيادة الإنفاق العسكري لمواجهة الخطر المتزايد من روسيا. وقال إن أموال الصندوق ستخصّص لإعادة تسليح الجيش الألماني الهرم وتجهيزه ليغدو في مستوى قتالي قادر على الدفاع عن البلاد. ومع أن حكومة شولتس انهارت بعد ثلاث سنوات من ذلك الخطاب، فإن «نقطة التحوّل» مستمرة وعلى نطاق أوسع ونمط أسرع، في ظل الحكومة الجديدة التي تسلمها حزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» الذي كان في المعارضة في عهد شولتس. فهل تعود ألمانيا بجيشها القوي قريباً؟ وماذا يعني ذلك للعالم ولأوروبا؟
قد يكون الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بين المزاح والجد، قد عبّر عما يدور في خلد كثيرين عندما قال بينما المستشار فريدريش ميرتس يجلس بجانبه في البيت الأبيض: «أنتم تنفقون المزيد على الدفاع الآن وهذا أمر إيجابي». وتابع ضاحكاً: «لا أعرف إذا كان الجنرال ماك آرثر سيقول الشيء نفسه. فهو ما كان ليحب ذلك لكنني أنا أعتقد أن الأمر جيد». ترمب هنا كان يشير إلى الجنرال دوغلاس ماك آرثر، القائد الأعلى لقوات «الحلفاء» إبان الحرب العالمية الثانية.
ثم أضاف: «لقد قال: أبداً لا تَدَعو ألمانيا تتسلح من جديد، وأنا دائماً أفكر بذلك عندما يقولون نحن ننفق المزيد على إعادة التسليح وأنا أتساءل: هل هذا جيد أم سيئ؟... باعتقادي إنه أمر جيّد، على الأقل حتى نقطة معينة!». وتابع ضاحكاً، بينما ميرتس يصغي مبتسماً: «سنصل إلى مكان أقول فيه: رجاءً أوقفوا التسلح ما لم يكن لديكم مانع».
شبح دائم
هذه المخاوف من إعادة تسليح ألمانيا كانت شبحاً دائماً يخيّم على قرارات الحكومات المتعاقبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في ألمانيا. ومنذ ذلك الحين، حدّت مجموعة من الأسباب القانونية والنفسية قوة الجيش الألماني.
من الناحية القانونية، يمنع القانون الأساسي الألماني، أي الدستور الذي أُقرّ عام 1949 من العودة إلى «الحرب أو العدوان»، ويحدد دور الجيش بأنه «دفاعي» حصراً. ويفوّض البرلمان الفيدرالي - أي «البوندستاغ» - مهمة الموافقة على أي مهام خارجية للجيش الألماني، وهو ما يحصل اليوم في كل مهام ألمانيا، التي تشارك بشكل أساسي في قوات حفظ سلام دولية تحت رعاية الأمم المتحدة.
وأبعد من القوانين الألمانية الداخلية، فكّكت قوات «الحلفاء» بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية الجيش الألماني ومنعته من إعادة البناء. وعندما أعيد تشكيله عام 1955 جاء ذلك حصراً ضمن تكامل مع قوات حلف شمالي الأطلسي (ناتو). وهذا ما دفع الولايات المتحدة لأن تصبح الضامن الأمني لألمانيا إبان «الحرب الباردة»، واستمر هذا الوضع من خلال وجود قواعد عسكرية أميركية داخل ألمانيا، ونشرها صواريخ نووية سرية على أراضيها تشكل ردعاً لروسيا.
وبعد الوحدة الألمانية مطلع التسعينات، اتخذت الحكومات المتعاقبة قرارات بخفض الإنفاق الدفاعي أكثر، بعد باعتبار أن «خطر الحروب» تقلص، وصوغ برلين علاقات أكثر تقارباً مع روسيا، خاصة من الناحية الاقتصادية، وهذه العلاقات تعززت في عهد المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي كانت تؤمن بأن «التجارة مفتاح السلام» مع موسكو.
الردع الأخلاقي
إلى جانب هذه الروادع القانونية، فإن الرادع الأخلاقي ظل يحكم الألمان لعقود منذ نهاية الحرب، وتحوّلت «عقدة الذنب» التي يحملها الأبناء عن خطايا أهاليهم، إلى سند لبناء سياسات «سلمية». وحتى اليوم ما زال الانتماء إلى الجيش الألماني يحمل شيئاً من العار، ولا يعدّ مصدر فخر كما هو الحال في معظم الدول الأخرى. وما زال كثيرون من العسكريين يعربون عن «قلة الارتياح» من الظهور بلباسهم العسكري في أماكن عامة.
وعلى الرغم من المخاوف المتزايدة لدى الألمان من إمكانية تمدّد الصراع بين روسيا وأوكرانيا إلى دول «ناتو»، فما زالت غالبية الألمان مترددة في دعم تورط عسكري مباشر لألمانيا حتى ضمن قوات «ناتو»؛ إذ أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد «كوربر» في مارس (آذار) 2022، بعد أيام من بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أن 80 في المائة من المستطلعين يخشون تمدّد الصراع، ومع ذلك عبر 14 في المائة فقط عن تأييدهم لتورط عسكري مباشر لألمانيا، بينما اعتبر 65 في المائة منهم أن التعامل الدبلوماسي هو السبيل الأفضل.
اليوم ربما الحال بدأ يتغير. فقد أظهرت استطلاعات للرأي أجريت مطلع العام بأن الغالبية تؤيد زيادة الإنفاق العسكري لتقوية الجيش الألماني، وتدعم إنفاق 5 في المائة من الناتج الإجمال العام على الدفاع، وهي النسبة الجديدة التي اعتمدها «ناتو» في اجتماعه الأخير، الشهر الماضي، ليوصي بها دول الحلف بدءاً من عام 2035، وأعلنت حكومة ميرتس استعدادها للالتزام بها.
وبالفعل بدأت حكومة ميرتس اتخاذ قرارات لتسريع تقوية الجيش الذي بات أضعف حتى في السنوات الأخيرة؛ بسبب تخليه عن الكثير من أسلحته التي سبق تقديمها لأوكرانيا لتتمكن من الصمود أمام روسيا. وفي تقرير لإيفا هوغل، مفوضة الدفاع في «البوندستاغ»، خلال مارس الماضي، حذّرت هوغل من أن ما لدى الجيش الألماني «القليل من كل شيء»، رغم زيادة الإنفاق عام 2022، ومن أن الكثير من الوحدات «تفتقر للجهوزية القتالية»، وأن أعداد العسكريين يتناقص بسبب انسحاب واحد من كل أربعة منتمين جُدد في الأشهر الستة الأولى بعد انضمامهم.
أيضاً تناولت هوغل أيضاً فقدان البنى التحتية الرئيسة، إلى جانب المعدات والعناصر. وباختصار، رسمت هوغل صورة قاتمة لمستوى جهوزية الجيش الألماني الذي لن يكون قادراً على الصمود أمام أي اعتداء قد تتعرض له ألمانيا في السنوات المقبلة ما لم تتحرك الحكومة بسرعة لتغيير المسار.

التعديل الدستوري
ميرتس يعي هذه التحديات بشكل واضح، وهو ما جعله يسارع إلى طرح وتمرير تعديل دستوري في البرلمان القديم يخوّل حكومته الاستدانة من دون حدود لتمويل الدفاع ومشاريع بنى تحتية. والواقع، لم ينتظر ميرتس بدء مهام البرلمان الجديد، الذي ما كان سيمرّر القوانين بسبب تشكيلته الجديدة، وقدرة المعارضة على وقف التعديلات التي كانت بحاجة إلى ثلثي أصوات البرلمان، وهو ما لا تملكه الحكومة الحالية في البرلمان الجديد.
وبجانب زيادة الإنفاق على الدفاع والبنى التحتية، تبحث حكومة ميرتس اليوم إعادة طرح التجنيد الإجباري في البلاد، رغم الجدل الكبير حول ذلك. وراهناً يبلغ عدد الجيش الألماني 180 ألف عنصر، فيما تسعى الحكومة لزيادته إلى 250 ألف تقريباً. وبناء عليه، يعتبر كثيرون أن جعل التجنيد إجبارياً مجدّداً قد يكون ضرورياً لتحقيق ذلك، في ظل استمرار تلكؤ الشباب بالانضمام إلى الجيش. وبالفعل أظهر تقرير مفوضة الدفاع هوغل أن الجيش بات «هرماً»، وثمة صعوبة في جذب الشبان للانضمام. وفيما يخصه، قدم وزير الدفاع بوريس بيستوريوس عدة اقتراحات لتبني إعادة التجنيد، تبدأ بإرسال استبيانات إجبارية للشبان البالغة أعمارهم 18 سنة، وغير إجبارية للفتيات في العمر نفسه، من أجل تقييم مستوى لياقتهم البدنية ومهاراتهم ودفعهم.
بحسب تقديرات وزارة الدفاع، فإن قرابة 400 ألف سيتلقون هذه الاستبيانات سنوياً، وأن 25 في المائة منهم قد يظهرون اهتماماً بالانتماء للجيش، وبعدها يصار إلى استدعاء قرابة 50 ألف للخضوع للفحوص الطبية وعملية الاختيار. وفي نطاق الخطة، سيخضع المختارون إلى فترة تدريب أساسية إجبارية لـ6 أشهر يمكن تمديدها إلى سنتين ثم نقلهم ليصبحوا ضمن «قوات الاحتياط». وإذا لم تنجح خطط الضم الاختيارية، يقترح بيستوريوس اعتماد الخدمة الإجبارية.
أظهرت استطلاعات للرأي أن الغالبية
تؤيد زيادة الإنفاق العسكري لتقوية الجيش الألماني
وتدعم إنفاق 5 % من الناتج الإجمالي العام على الدفاع
استطلاع «يوغوف»
من ناحية أخرى، ومع أن خطط وزير الدفاع تحظى بتأييد نسبي سياسي وشعبي، فإن تأييد الشباب، أي الفئة الأهم التي يستهدفها التجنيد، ما زال ناقصاً. وقد أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد «يوغوف» في يونيو (حزيران) الماضي، أن 54 في المائة يؤيدون إعادة العمل بالخدمة الإجبارية، 66 في المائة من بين هؤلاء هم في سن الـ70 وما فوق، بينما الفئة المستهدفة - أي من هم في سن الـ18 سنة - فلا يؤيد المشروع منها سوى نسبة 35 في المائة فقط.
ويعكس هذا الاستطلاع التحديات التي ستواجهها ألمانيا في زيادة عدد قواتها وتجنيد عناصر إضافية. ورغم وجود القرار السياسي والموارد المادية لتحويل الجيش الألماني من وضعه الهرِم حالياً إلى جيش قوي، فقد تصطدم الحكومة بعوائق تؤخر تحقيق ذلك، على رأسها البيروقراطية والقدرة الصناعية لإنتاج أسلحة وعتاد بالسرعة المطلوبة. ذلك أن نظام المشتريات في ألمانيا نظام معقد، ويستغرق وقتاً طويلاً، ما يطيل فترة توقيع عقود شراء أسلحة وعتاد.
ثم إن شركات الأسلحة الألمانية لا تستطيع الإنتاج بالسرعة المطلوبة؛ بسبب نقص العمالة الماهرة وسلسلة التوريد وطلبات سابقة وضعت لإنتاج وتسليم أسلحة لأوكرانيا. ويضاف إلى كل هذا تحدي تجنيد عناصر إضافية، وتحديث البنية التحتية التي ستكون بحاجة إلى استثمارات بعشرات المليارات وسرعة في التحديث. بل، والأهم، أن الجيش الألماني سيبقى مقيّداً بتعقيدات قانونية، وقد يواجه تحديات قانونية في المحاكم الدستورية أو اعتراضات برلمانية تعرقل أو تبطئ مسيرته نحو التحول إلى جيش قوي قادر على الدفاع عن البلاد والانتشار في دول «ناتو» عند الحاجة.
يضاف إلى ما سبق، أنه إن كانت الأحزاب الرئيسة تؤيد تطوير الجيش، فإن الحزبين المتطرفين على اليمين واليسار، «البديل من أجل ألمانيا» و«دي لينكا»، يعارضان ذلك، وهما يتمتعان حالياً بكتلة قادرة على عرقلة قرارات بحاجة إلى ثلثي الأصوات في البرلمان.
ترحيب من الحلفاء
في أي حال، ورغم التشكك الداخلي، فإن حلفاء ألمانيا الأوروبيين يرحبون اليوم بمساعي برلين لتطوير جيشها. وكان الترحيب الذي لقيته القوات المقاتلة الألمانية وهي تنتشر في ليتوانيا ضمن قوات «ناتو»، دليلاً على ذلك. وفي مايو (أيار) الماضي، وصلت وحدة ألمانية مقاتلة قوامها 4800 جندي إلى ليتوانيا ضمن مساعي الحلف لتعزيز دفاعاته في دول البلطيق، وحضر حفل إطلاق المهمة رسمياً المستشار ميرتس ووزير دفاعه. وكانت الحشود التي تجمّعت حاملة الأعلام الألمانية والليتوانية صورةً مناقضة تماماً لصور الماضي حين دخلت القوات النازية محتلة عندما كانت ليتوانيا جزءاً من الاتحاد السوفياتي، ودليلاً على أن النظرة الأوروبية للجيش الألماني لم تعد نفسها.وللعلم، تؤيد كل من فرنسا وبريطانيا مساعي الحكومة الألمانية لزيادة الإنفاق الدفاعي، خاصة وسط مخاوف من انسحاب أميركي من حماية أوروبا. ومع أن واشنطن لم تعلن بعد عن خطوات عملية لتحقيق هذا الانسحاب، فقد بات واضحاً أن «البنتاغون» يُعد لسحب جزء من عسكرييه البالغ عددهم 35 ألفاً حالياً ينتشرون في عدة قواعد أميركية عسكرية في ألمانيا، إضافة إلى قرابة 20 ألف موظف مدني. ووسط هذه المخاوف من الانسحاب الأميركي، تدفع فرنسا حليفتها ألمانيا نحو المشاركة في بناء جيش أوروبي موحّد. ومع أن برلين متشككة من هذه الخطط، فإنها توصلت إلى قناعة بضرورة زيادة إنفاقها الدفاعي لسد أي فراغ قد يخلفه الانسحاب الأميركي.



