حُلي نسائية جنائزية من جبل البُحَيْص

عثر عليها في «مدينة الموتى» وتتبع أساليب العصرين البرونزي والحديدي

حلل أنثوية مصدرها قبرين من مدفن جبل البُحَيْص في إمارة الشارقة
حلل أنثوية مصدرها قبرين من مدفن جبل البُحَيْص في إمارة الشارقة
TT

حُلي نسائية جنائزية من جبل البُحَيْص

حلل أنثوية مصدرها قبرين من مدفن جبل البُحَيْص في إمارة الشارقة
حلل أنثوية مصدرها قبرين من مدفن جبل البُحَيْص في إمارة الشارقة

كشفت أعمال التنقيب المتواصلة في دولة الإمارات المتّحدة خلال العقود الأخيرة عن سلسلة من المدافن الأثرية، من أقدمها مدفن تعود أسسه إلى الألف الخامس قبل الميلاد، يقع في نتوء صخري واسع يُعرف باسم جبل البُحَيْص، يرتفع في المنطقة الوسطى من إمارة الشارقة، بين الخليج العربي وخليج عمان، ويمتد من مدينة المدام إلى مدينة مليحة التي تضم موقعاً أثرياً يعود إلى الفترة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد.

وُصف جبل البُحَيْص بـ«مدينة الموتى»، وتشير هذه التسمية إلى مقبرة تضم رفات ما يقارب ألفاً من الهياكل العظمية البشرية، دُفن بعضها في قبور مشيدة تحت الأرض، ودُفن البعض الآخر في قبور فوقها.

ظهرت أول معالم هذه المدينة في مطلع سبعينات القرن الماضي، حيث كشفت بعثة عراقية عن بقايا بناء حجري في منحدر يقع في شمال شرق منحدر الجبل الصخري. بعدها، شرعت بعثة فرنسية في إجراء مسح شامل للموقع في عام 1990، وحدّدت هذه الأعمال معالم هذه المستوطنة ومراحل تطوّرها. بعد سنوات، بدأت أعمال التنقيب في هذه المستوطنة تحت إشراف بعثة مشتركة من إدارة الآثار في دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة ومعهد الدراسات الأثرية لما قبل التاريخ والعصور التاريخية والوسطى في جامعة تيوبنغن الألمانية. شرعت هذه البعثة في العمل ابتداءً من عام 1994، واستمرّت في التنقيب إلى عام 2005.

كشفت هذه الحملات التي تواصلت على مدى اثني عشر عاماً عن مدفن واسع يحوي سلسلة من 91 قبراً جرى تصنيفها بشكل علمي متأنّ. من هذه القبور التي تعود إلى حقب تمتدّ من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي، خرجت مجموعات متنوعة من اللقى تتبع الأساليب والنسق التي راجت خلال تلك الحقب، منها مجموعة من الأواني الفخارية تقابلها مجموعة من الأواني الحجرية ومجموعة من الأواني المعدنية، ومجموعة من الخناجر المعدنية متعددة الأحجام، ومجموعة صغيرة من الأختام، إضافة إلى مجموعة غنيّة من الحلي التزيينية تحوي عدداً كبيراً من القلائد والأساور والخلاخيل المصنوعة بمواد متعددة.

تشهد هذه الحلي النسائية لأسلوب جامع ساد في نواحٍ عدّة من الخليج العربي، ويتمثّل هذا الأسلوب في استخدام المواد الأوّلية، كما في طرق تصنيعها وصياغتها. صُنعت القلائد من الخرز والأصداف المحلية، إضافة إلى أحجار أخرى توافرت من الخارج عن طريق الاتصال التجاري والتواصل الحضاري، منها القطع المصنوعة من حجر السبج المعروف بـ«الأوبسيدين»، ومصدره جنوب الجزيرة العربية، والقطع المصنوعة من الزجاج البركاني، ومصدرها جنوب بلاد الرافدين. خرجت من قبور جبل البُحَيْص مجموعة من القلائد المشغولة بالخرز، صُنعت لتزين الرقبة والخصر والمعصم والكاحل، وبرز في هذا الميدان استخدام الخرز المصنوع من الحجر الأبيض والعقيق الأحمر.

نماذج هذه القلائد متعدّدة، منها على سبيل المثل تلك التي خرجت من قبر حمل رقم 39 في أعمال التوثيق الخاصة بهذا الموقع، وتلك التي خرجت من قبر حمل رقم 78.

من القبر 66، خرجت مجموعة مميزة من هذه الحلى، منها قطع تحوي خرزاً من حجر العقيق الأحمر، وقطع تحوي خرزاً مذهّباً، إضافة إلى سوارين من الذهب، وقطعة دائرية من الصدف تبدو أشبه بما يُعرف بـ«البروش»، أو دبوس زينة. وفقاً للتقليد الغالب، صيغ السواران بأسلوب مجرّد، وغابت عنهما أي نقوش تزيينية. في المقابل، زُيّنت القطعة الصدفية بسلسلة من سبعة نقوش دائرية، رُصّع كلّ منها بخرزة من حجر العقيق الأحمر. في هذا القبر كذلك، مجموعة من الحلى المعدنية، منها أساور وخواتم ودبابيس من الطراز الشائع الذي تتكاثر نماذجه في مقابر الإقليم العُماني.

من القبر 83، خرج عقد بديع من العقيق الأبيض تميّز برهافة صناعته، وسوار من البرونز اتّخذ طابعاً تصويرياً. صُنع هذا العقد من 26 قطعة مثلثة ومسطّحة، تفصل بينها قطع دائرية منمنمة، وزُيّن كلّ من طرفيه بثلاث قطع أسطوانية من اللون الأحمر. حافظت هذه القطعة على مكوّناتها بشكل كامل، واحتلّت منزلة الصدارة في مجموعة القلائد التي خرجت من جبل البُحَيْص. في المقابل، صيغ طرفا السوار البرونزي على شكل رأسين مجسّمين متواجهَين، وظهرت ملامح هذين الرأسين المجسّمين بشكل واضح وجلي، وهي كما يبدو لفهد، أو لحيوان من فصيلة السنوريات.

يبرز هذا السوار قطعةً فريدةً من نوعها في ميراث هذه المقبرة، كما في ميراث محيطها الجغرافي في ساحل الخليج، حيث نقع على مجموعة كبيرة من الأسوار البرونزية، وكلّها مجرّدة، وتخلو من أي زينة تصويرية. خارج هذا المحيط، يشابه سوار القبر 83 في تكوينه سواراً مزدوجاً شهيراً يعود إلى مجموعة من القطع الذهبية تُعرف بـ«ذهب نمرود»، مصدرها قصر الملك آشور ناصربال الثاني الذي حكم من عام 883 إلى عام 859 قبل الميلاد.

يبدو سوار جبل البُحَيْص البرونزي نسخة متقشّفة عن السوار الآشوري الذهبي، ويوحي هذا التشابه بأنه من القطع التي وصلت من بلاد الرافدين إلى هذه الناحية من جزيرة العرب.


مقالات ذات صلة

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

ثقافة وفنون هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية.

ندى حطيط
ثقافة وفنون إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

يواصل الكاتب المسرحي والروائي ماجد الخطيب، في الجزء الثاني من «ملصقات بيروت»، سرد سيرته الشخصية في بيروت، المبتلية بالحرب،

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة

هاشم صالح

«جائزة بيت الغشّام دار عرب الدولية للترجمة» تعلن عن قوائمها القصيرة

شعار الجائزة
شعار الجائزة
TT

«جائزة بيت الغشّام دار عرب الدولية للترجمة» تعلن عن قوائمها القصيرة

شعار الجائزة
شعار الجائزة

أعلنت «جائزة بيت الغشّام دار عرب الدولية للترجمة»، عن القوائم القصيرة لدورتها لعام 2026، وذلك في فروع الجائزة الثلاثة: فرع المترجمين، وفرع المؤلفين، وفرع الإصدارات العُمانية، بعد استكمال أعمال التحكيم والمراجعة النهائية للترشيحات المستوفية لشروط الجائزة ومعاييرها المهنية والأخلاقية، كما جاء بيان لجنة الجائزة. وضمّت القائمة القصيرة - فرع المترجمين (مرتبة أبجدياً حسب العنوان الإنجليزي): «ملائكة الجنوب» رواية نجم والي، ترجمة Angels of the South، ترجمة: بيتر ثيرو، و«ماكيت القاهرة» رواية طارق إمام، Cairo Marquette، ترجمة كاثرين فان دي فات، و«البشر والسحالي»، مجموعة قصصية، حسن عبد الموجود، People and Lizards، ترجمة أسامة حماد وماريان دينين، و«الأشياء ليست في أماكنها» رواية هدى حمد، Things Are Not in Their Place، ترجمة ضياء أحمد، قرية المائة، رواية رحاب لؤي، ترجمة Village of the Hundred، ترجمة إيناس التركي.

وضمّت القائمة القصيرة - فرع المؤلفين (مرتبة أبجدياً حسب العنوان العربي): أبعاد غير مرئية، مجموعة قصصية، مصطفى ملاح، والماتادور، رواية مجدي دعيبس، وجبال الجدري، رواية عبد الهادي شعّلان، وجرس جرش، رواية وائل رداد، وكائن غير سوي، رواية طاهر النور. وجاءت القائمة القصيرة - فرع الإصدارات العُمانية، كما يلي: تحت ظل الظلال، رواية محمد قرط الجزمي، عروس الغرقة، رواية أمل عبد الله، وقوانين الفقد، مجموعة قصصية، مازن حبيب.

وجرى اختيار القوائم القصيرة من قبل لجان تحكيم مستقلة، بإشراف مجلس أمناء الجائزة، الذي ضم كلاً من مارلين بوث (رئيسة)، ومحمد اليحيائي، وسواد حسين. وتكوّنت لجنة تحكيم - فرع المترجمين، من سماهر الضامن، ومارشيا لينكس كوالي، ولوك ليفجرن، فيما ضمّت لجنة تحكيم - فرعا المؤلفين والإصدارات العُمانية، كلاً من أمير تاج السر، وبشرى خلفان، وياس السعيدي.

وشهدت هذه الدورة 346 مشاركة في فرع المؤلفين، و34 مشاركة في فرع المترجمين، و10 مشاركات في فرع الإصدارات العُمانية.

وكانت هذه الجائزة قد انطلقت قبل 3 أعوام، بشراكة بين مؤسسة بيت الغشّام للصحافة والنشر والإعلان ودار عرب للنشر والترجمة، حيث تتولى دار عرب إدارة الجائزة، فيما تتولى مؤسسة بيت الغشّام تمويلها، في إطار تعاون يهدف إلى دعم الأدب العربي وتعزيز حضوره عالمياً عبر الترجمة والنشر الدولي.

وتبلغ القيمة الإجمالية لصندوق الجائزة نحو 70,000 جنيه إسترليني، تُخصَّص جزئياً كمكافآت مالية للفائزين، وجزئياً لتغطية تكاليف الترجمة الاحترافية، والتحرير، والنشر والترويج الدولي للأعمال الفائزة.


هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.