دلايات ودبابيس جنائزية من الإمارات

صيغت على شكل مجسَّمات حيوانية

قطعتان من رأس الخيمة تقابلهما قطعة من أبوظبي وأخرى من الشارقة
قطعتان من رأس الخيمة تقابلهما قطعة من أبوظبي وأخرى من الشارقة
TT
20

دلايات ودبابيس جنائزية من الإمارات

قطعتان من رأس الخيمة تقابلهما قطعة من أبوظبي وأخرى من الشارقة
قطعتان من رأس الخيمة تقابلهما قطعة من أبوظبي وأخرى من الشارقة

كشفت أعمال التنقيب في الإمارات العربية المتحدة عن سلسلة كبيرة من المدافن الأثرية حوت كثيراً من الحلي والمجوهرات المصوغة من الذهب والفضة والنحاس والبرونز والرصاص. تبرز في هذا الحقل مجموعة ذات أشكال حيوانية، صُنعت من سبيكة الإلكتروم المكونة من الذهب والفضة، على شكل دلايات أو دبابيس من نوع «البروش»، رافقت أصحابها الراقدين في مثواهم الأخير.

تعود هذه الحلي إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، وتشهد لتقليد فنّي محلّي خاص، يتجلّى في تكوين أشكالها المجسّمة كما في صياغتها المتقنة.

أشهرها قطعة من محفوظات متحف رأس الخيمة الوطني، مصدرها مقبرة تقع في منطقة ضاية، شمال مدينة الرمس التي تشكل في زمننا المفتاح الشمالي لإمارة رأس الخيمة. كشفت عن هذه المقبرة بعثة ألمانية خلال السنوات الأخيرة من ثمانينات الماضي، وتبيّن أنها مقبرة يبلغ طولها 9 أمتار، وعرضها 4.4 أمتار، وقيل يومها إنها أكبر المقابر التي تمّ الكشف عنها في رأس الخيمة، وتعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وقد فقدت كثيراً من مكونات أثاثها بسبب تعرّضها لأعمال السرقة والنهب، واستخدام جزء كبير من مساحتها كمأوى للأغنام. حوى هذا المدفن مجموعة من القطع الفخارية والأواني الناعمة، إلى جانب مجموعة من الأدوات المعدنية، ومجموعة من الحلي المتعدّدة الأنواع. وضمّت هذه المجموعة من الحلي قطعاً بدا أنها دلايات تجمع بين الذهب والفضة والكهرمان، صيغت على شكل مجسّمات حيوانية تبعاً لنسق واحد وجامع.

أجمل هذه الدلايات وأكملها، دلاية هي كذلك أشهرها، وقد احتلّت صورتها غلاف كتاب خاص بآثار دولة الإمارات العربية، نشره المؤرخ محمد عبد النعيم في عام 1999 ضمن سلسة «آثار ما قبل التاريخ وفجره في شبه الجزيرة العربية». يبلغ طول هذه القطعة 5 سنتيمترات، وعرضها 11 سنتيمتراً، وتمثّل حيوانين من فصيلة الكلبيّات، يصعب تحديد جنسهما بدقة. صيغ هذان الحيوانان في قالب تحويري زخرفي صرف؛ حيث ظهرا متواجهين وملتصقين بشكل معاكس، أي الظهر مقابل الظهر، مع 6 قوائم منتصبة، مرصوفة عمودياً بشكل تعادلي متجانس. يشكّل جسدا هذين الحيوانين مساحة أفقية واحدة تزينها 4 كتل بيضاوية ناتئة. تعلو هذه المساحة الأفقية شبكة من الأسنان المرصوفة كأسنان المشط، ويتوسط هذه الشبكة ذيلا الحيوانين الملتفّين على شكل دائرتين لولبيتين مرتفعتين نحو الأعلى.

يتكرّر هذا الشكل في قطعة أخرى من مقبرة ضاية وصلت بشكل مجتزأ للأسف. يحضر الحيوانان في تكوين مماثل، غير أن بدنيهما يبدوان هنا منفصلين بشكل جلي، وتأخذ شبكة الأسنان المرصوفة تشكيلاً مغايراً، مع بروز الدائرتين اللولبيتين المتقابلتين في وسطها. حافظ أحد الحيوانين على رأسه وطرف قائمتين من قوائمه، وفقد الآخر الجزء الأكبر من بدنه. ويبدو هذا الرأس أشبه برأس ذئب يفتح شدقي فمه، كاشفاً عن نابين من أنيابه. تُمثّل هذه القطعة شكلاً من أشكال متنوعة تظهر في كل حلية من هذه الحلي التي تتبع نسقاً جامعاً. خرجت بعضها من مقابر تقع ضمن أراضي تتبع اليوم إمارة رأس الخيمة، وخرج البعض الآخر من مقابر تقع خارج هذه الإمارة، ومنها مقبرة على الحدود الشرقية لواحة القَطَارَة، في مدينة العين التابعة لإمارة أبوظبي.

كشفت أعمال التنقيب في هذه المقبرة عن مجموعة كبيرة من الأسلحة، ومجموعات من الأواني الحجرية والفخارية، دخل القسم الأكبر منها متحف العين. إلى جانب هذه القطع المتنوعة، تحضر مجموعة من الحلي والمجوهرات، منها بضع دلايات تشهد لشيوع هذا الطراز المحلي في هذه الناحية من الجزيرة العربية.

حافظت إحدى دلايات واحة القَطَارَة على تكوينها بشكل شبه كامل، واللافت أن هذا التكوين يماثل بشكل كبير تكوين دلاية ضاية الذائعة الصيت. يلتصق الحيوانان، وتبدو مساحة بدنيهما المتشابكين واحدة. في المقابل، تبدو ملامح رأسيهما أكثر وضوحاً، وتوحي بأنها تجمع بين الذئب والنسر، مما يعطي هذا الحيوان طابعاً خرافياً. يظهر هذا الرأس كذلك في قطعة معروضة في مركز مليحة للآثار، مصدرها مقبرة تقع في جبل البُحَيْص المجاور لبلدة المدام في المنطقة الوسطى من إمارة الشارقة. وفقاً للتقليد السائد، تمثل هذه الدلاية حيوانين مقرنين، يقفان في اتجاه معاكس، ظهراً إلى ظهر، مع ذنَبين ملتفين إلى الأعلى في الوسط. ضاع أحد هذين الحيوانين المقرنين بشكل كامل، وبقي الآخر، وتكشف صياغته عن دقة كبيرة في تجسيم مفاصل البدن وفقاً لبناء تشريحي متماسك.

يصعب تحديد وظيفة هذه الحلي بدقة، والأكيد أنها جنائزية، كما يشير حضورها في المقابر بشكل دائم. تعود هذه المقابر إلى عصر أطلق عليه البحاثة اسم عصر وادي سوق، نسبة إلى موقع أثري كُشف عنه بين مدينة العين وخليج عُمان. أظهرت دراسة هذا الموقع تحوّلاً كبيراً في طرق الاستيطان المتبعة في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، خلال الفترة الممتدة من 2000 إلى 1600 قبل الميلاد، كما أظهرت تحوّلاً في النسق والطرز الفنية. وظهرت ملامح هذه التحولات في مواقع أخرى متعدّدة من الإمارات.

تشكل الحلي ذات الرؤوس الحيوانية علامة من علامات هذا التحوّل الفني الذي تعددت صوره وأشكاله في ذلك العصر. تحمل هذه الحلي كما يبدو أثر وادي السند، غير أنها تتميز بطابع محلي خاص، ويتجلَّى هذا الطابع الخاص في تجسيمها المتقن، كما في صياغتها المرهفة.


مقالات ذات صلة

أي تأثير للحب العذري في شعر «التروبادور»؟

ثقافة وفنون أي تأثير للحب العذري في شعر «التروبادور»؟

أي تأثير للحب العذري في شعر «التروبادور»؟

يتفق معظم الباحثين الغربيين والعرب على تأثر شعراء التروبادور في العصور الأوروبية الوسيطة بشعر الحب العربي

شوقي بزيع
ثقافة وفنون «مهمّةُ المترجم»... ترجمة عربية جديدة لنص فالتير بنيامين

«مهمّةُ المترجم»... ترجمة عربية جديدة لنص فالتير بنيامين

تضطلعُ مقالةُ «مهمّةُ المترجم»، التي كتبها الفيلسوف والناقد والمترجم الألماني فالتير بنيامين (1892 - 1940)، سنة 1921، بمكانة متميزة في الثقافة العالمية الحديثة

«الشرق الأوسط» (عمَّان)
ثقافة وفنون سفنكس من موقع سلوت يقابله سفنكس من موقع الدُّور وآخر من موقع الفويدة

«سفنكس» عُمان

خرجت من موقع حصن سلوت الأثري في سلطنة عُمان مجموعةٌ من القطع البرونزية المنحوتة، تتميز بطابعها التصويري

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون سلطان العويس

بين ديناميت نوبل ولآلئ العويس

حينما يرد اسم أيّ جائزة تكريمية في العلوم والآداب والفنون والاجتماع، دائماً ما يحضر اسم السويدي ألفريد نوبل وجائزته العالمية لـ«السلام»!

محمد رضا نصر الله
ثقافة وفنون أسئلة الثقافة في زمن التأفيف

أسئلة الثقافة في زمن التأفيف

بعض الكتب كأنها زهور، تترك رائحتها في النفس آثاراً عميقةً لا تزول، أو مثل قوس قزح في سماء بيضاء. كتاب «التثقيف زمن التأفيف»


دراسة تبحث في «الشعر العُماني في العصر البوسعيدي»

غلاف كتاب (الشعر العُماني في العصر البوسعيدي)
غلاف كتاب (الشعر العُماني في العصر البوسعيدي)
TT
20

دراسة تبحث في «الشعر العُماني في العصر البوسعيدي»

غلاف كتاب (الشعر العُماني في العصر البوسعيدي)
غلاف كتاب (الشعر العُماني في العصر البوسعيدي)

يقدّم كتاب «الشعر العُماني في العصر البوسعيدي»، الذي صدر حديثاً، ويعرض حالياً في معرض مسقط الدولي للكتاب، من تأليف الباحث العماني الدكتور محمد بن سعيد بن عامر الحجري، دراسة لمرحلة مهمة من مراحل الشعر العربي في سلطنة عمان، وهي مرحلة الدولة البوسعيدية التي بدأت في عمان فعلياً عام (1162هـ/1748م)، متوقفاً في دراسته عند منتصف القرن 13 الهجري، منتصف القرن 19 الميلادي (1266هـ/1850م).

ومع أن هذه الدراسة تركز على الشعر العماني في العصر البوسعيدي، فإن نطاقها يتسع ليشمل ضمنياً حقولاً من التاريخ العام، وتاريخ الثقافة العمانية، وتاريخ الأدب عامة وليس تاريخ الشعر فحسب، وهو أمر توجبه حقيقة اتصال الشعر بمسارات الحياة السياسية والثقافية بطبيعة الأحوال.

أصل هذه الدراسة أطروحة علمية لنيل درجة الدكتوراه في قسم اللغة العربية بكلية معارف الوحي في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا. وصدر الكتاب عن النادي الثقافي في عُمان، ويقع في 550 صفحة من الحجم المتوسط؛ وفيه يصف الحالة الشعرية العامة وعلاقتها بالحالتين السياسية والثقافية، ويرصد إنتاج الأسماء الشعرية الأكثر تأثيراً ودواوينهم ومجاميعهم الشعرية، معتنياً بدراسة الظواهر الموضوعية والفنية التي تمثل خصائص الشعر، مركزاً تحليلاته على ثلاثة شعراء هم: سالم بن محمد الدرمكي، وهلال بن سعيد بن عرابة، وحميد بن محمد بن رزيق.

وتقع الدراسة في مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، فاتجهت بعض فصولها إلى البحث النظري بينما ركز الفصلان الثالث والرابع على تحليل النماذج الشعرية، لتخلص إلى نتائجها في الخاتمة التي تضمنت خلاصات الدراسة وتوصياتها، وكشفاً عن بعض الأسماء والنصوص الشعرية الجديدة، ونبهت إلى أهمية أسماء شعرية أخرى لم تُدرس من قبل، كما أضافت عدة ملاحق لتعزيز مادة البحث وتوضيحها.

الدكتور محمد بن سعيد الحجري خلال توقيع كتابه في معرض مسقط الدولي للكتاب (النادي الثقافي العماني)
الدكتور محمد بن سعيد الحجري خلال توقيع كتابه في معرض مسقط الدولي للكتاب (النادي الثقافي العماني)

الشعر العماني في العصر النبهاني

سبق للباحث الدكتور محمد بن سعيد الحجري أن أصدر دراسة في 535 صفحة من الحجم الكبير تحمل عنوان «الشعر العماني في العصر النبهاني»، وهي دراسة تركز على الشعر العماني في العصرين النبهاني واليعربي، ويتسع نطاقها ليشمل ضمنياً حقولاً من التاريخ العام، وتاريخ الثقافة العمانية، وتاريخ الشعر والأدب.

وبرأي المؤلف، فإن الدراسة تسعى إلى رصد حالة الشعر العماني في عصرين من أهم عصوره، العصر النبهاني والعصر اليعربي، وهما العصران الموازيان في الدائرة العربية العامة للعصرين المملوكي والعثماني، معتنيةً على وجه الخصوص بالظواهر التي وسم بها شعر هذين العصرين اللذين صنفا عند كثير من الباحثين على أنهما عصرا ضعف وجمود من الناحية الأدبية، فكانت الحالة الأدبية، انعكاساً لمجمل الأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية في تلك المرحلة خصوصاً بعد سقوط بغداد عام 656هـ - 1258م.

ولم يكتفِ الباحث في هذه الدراسة برصد خاصيات كل شاعر على حدة بل عمد إلى إجراء مقارنات عدة بين النصوص ولميزاتها مركزاً على ظاهرتي الإبداع والاتباع، مما يعزز مكانة الدراسة مدونةً شعريةً للعصرين النبهاني واليعربي.