كان الشاب اللبناني إيلي باسيل في كندا حين دوَّى انفجار بيروت في الرابع من أغسطس (آب) 2020. بعيداً عن الأرض التي نزفت، تلقَّى الصدمة مثل مَن ضُرِب في عمق قلبه، وشعر بعجز ينهش روحه وذنب يُثقِل غربته. فالأمان الذي احتضنه هناك، تحوَّل إلى عبء حين علم أنّ أحبَّته هنا يتخبَّطون في احتمالات الفقدان والرعب. وما إنْ سمع بأنَّ ابنة شقيقته، ذات الأعوام الخمسة، اختبأت تحت الطاولة تحتمي من صوت الانفجار ووحشيته، حتى اشتعلت فيه رغبة حارقة لفعل شيء. أيّ شيء.

من هذا الألم البعيد، وُلد مشروع قرَّب المسافة بين المنفى والمأساة، وبين الطفولة والشفاء. قرَّر إيلي باسيل أن يُنصت للوجع بالحكاية التي تقهر الصمت. ومع نادي «روتاراكت بيروت» الشبابي، أطلق مشروعه الأول في العلاج بالسرد، عبر كتاب بعنوان «بكرا أحلى»، في محاولة رقيقة لمداواة الطفولة المعذَّبة من أثر الصدمة.
بمشاركة الطبيب جورج برنس المُقيم في أستراليا، والذي كرَّس بحوثه لفَهْم آثار الصدمات وسُبل التفاعل معها، يُخاطب إيلي باسيل الأطفال قائلاً لهم: «البوحُ شفاء، والقصة وطنٌ آمِن لمَن يفقد المعنى. يُساعدهم على فهم أنّ الجروح تلتئم حين يجدون مَن يُصغي ويتفهَّم».
الفنان اللبناني نجيب كسرواني تولّى الرسم، فحمل الحكاية من الكلمة إلى الصورة، ومن النصّ إلى اللون. كتابٌ للأطفال، نعم، لكنه أيضاً مرآة لوجع جماعي، كأنَّ السرد فيه محاولة لشفاء ما تعذَّر على الواقع مداواته. لم يكتفِ إيلي باسيل بإصدار العمل، وإنما نسَّق مع «روتاراكت بيروت» لحملات تبرّع مكثَّفة بهدف إعادة طباعته وتوزيعه على أوسع نطاق.
في داخله حسٌّ فنّي وشغف بالفضول، وفي خلفيّته خبرة بالطبّ الصيني والعلاج الطبيعي، مما يجعله يرى الجسد مرآة للمشاعر المحبوسة. يقول: «لستُ كاتباً، لكنني أدركُ أنّ فينا جميعاً شيئاً يستحقّ أن يُقال. الصدمة لا تزول من تلقائها، والبوح السردي طريقٌ للخلاص».

يؤمن بأنّ الحكاية تفعل ما لا تفعله اللغة المنطوقة أحياناً، خصوصاً حين يتعلَّق الأمر بالأطفال: «هم لا يدركون دائماً كيف يُعبِّرون عن أنفسهم، خصوصاً بعد الصدمة. لكن حين يقرأون قصة تُشبههم، أو يتعلّقون بشخصية في كتاب، يشعرون أنهم ليسوا وحدهم. هذه العلاقة الخيالية تمنحهم القوة».
إلى جانبه، الطبيبة النفسية والمُعالِجة بالفنون فانيسا حنّا، تستعيد ما يُشبه التاريخ السرّي لهذا الشكل العلاجي. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «على مرّ العصور، عبَّر الناس عن الألم من دون أن يُسمّوه. فريدا كاهلو، فان غوخ... جميعهم مارسوا العلاج بالفنّ قبل أن يدركوا ماهيته. الرسم يُحرّر اللاوعي ويمنح الأطفال مساحة آمنة لتجسيد ما يُخيفهم وتحويله إلى ما يُفهَم ليُشفى».
في جلساتها مع الصغار، تبدأ من قصص الحرب أو الرعب، وتترك للّعب والفنّ مَهمّة ترميم الحطام النفسي. تقول: «حين يُجسَّد الألم أمام أعينهم، يتحوّل من شعور غامض إلى مادّة ملموسة، وهنا يتدخّل الفنّ ويبدأ الإصلاح». تنفتح الجراح على إيقاع البوح، فتخرُج الصدمة من عمق الخفاء إلى الرؤية، كأنها تكتسب شكلاً وملمساً. حينها يتقدَّم العلاج بالفنون ليُكمل فعل الترميم والشفاء.

من بين الحضور أيضاً، المدير التنفيذي لجمعية «إدراك»، الدكتور جورج كرم. يوضح أنَّ الأطفال لا يتلقَّون الصدمة فحسب، وإنما يتشرَّبون أيضاً ردّة فعل عائلتهم تجاهها: «إذا لم يفهم الطفل ما الذي يحدُث؛ يفهم فقط أنَّ أباه خائف وأمّه مرتبكة. عندها يخاف هو أيضاً من دون أن يُدرك السبب، مما يُضاعف أثر الصدمة».
يُحذّر من أنَّ الدماغ الطفولي لا ينسى بسهولة، وإنْ لم يُعالَج، فقد تُطارد الصدمة الطفل طوال عمره: «الدراسات تؤكد أنَّ مَن تعرّضوا لصدمات في الطفولة أكثر عرضة بـ5 مرات للإصابة بأمراض نفسية في مراحل لاحقة من الحياة»، يقول مَن يرى في الفنّ وسيلة إنقاذ ضرورية: «الموسيقى، الرسم، الرقص... أدوات تعبير قد تُنقذ مجتمعاً من القسوة».

وتروي مديرة «دار الطفل اللبناني»، أمل فرحات، أثر الانفجار والحرب في سلوك الأطفال، وكيف بدا واضحاً في تراجع أدائهم الدراسي وعلاقاتهم: «لقد أُصيبوا بالقلق وضاع الحلم بالمستقبل. يُساعدهم هذا الكتاب على ترجمة ما يمرّون به، وعلى التعبير بلغتهم الخاصة».
من خبرتها في العمل بالجمعية التي تأسَّست قبل نصف قرن، تتيقَّن أنّ التعبير عن المشاعر لا يأتي سهلاً على كثير من الأطفال، فهم يتعثَّرون أمام اللغة وتُثقلهم الأحاسيس التي لا تجد منفذاً. تقول: «ما نلمسه اليوم، أكثر من أي وقت، هو أنهم لا يُظهرون التفاعل الحقيقي والعميق إلا حين يخوضون تجربة العلاج بالفنون والأنشطة الترفيهية. هناك، في تلك المساحات الحرّة، يستعيدون الحلم بمستقبل أفضل، وتتكشَّف لنا مواهب دفينة لم تكن لتُرى لولا هذا الضوء».

ويرى رئيس نادي «روتاراكت بيروت»، جورج الشامي، في المشروع بُعداً أعمق من كتاب للأطفال، لاندراجه ضمن رؤية تربوية ثقافية لإحداث تغيير مجتمعي: «نؤمن بأنّ لكلّ طفل الحق في التعبير. الفنّ والقراءة أدوات شفاء حقيقية، خصوصاً لمَن مرّوا بتجارب قاسية».
وُزِّعت أكثر من 250 نسخة من الكتاب في مركز «دار الطفل اللبناني»، ويجري العمل حالياً على طباعته بلغة «برايل» لتصل رسالة الأمل إلى الأطفال المكفوفين أيضاً.








