لأجيال، أبلغ البحّارة حول العالم عن ظاهرة غامضة. مساحات شاسعة من المحيط تتوهّج باستمرار ليلاً، أحياناً لأشهر متواصلة. الضوء ساطع بما يكفي للقراءة من خلاله، خليط من الأضواء الخضراء والبيضاء يمتد على مساحة بالمحيط، تصل إلى 100 ألف كيلومتر مربع، ويمكن رؤيته أحياناً من الفضاء.
أطلق البحارة على هذا العرض النادر اسم «البحار اللبنية (milky seas)». ورغم ملاحظته منذ قرون، لا يعرف العلماء سوى القليل عن أسبابه.
وللتنبؤ بشكل أفضل بموعد حدوث ظاهرة «البحار اللبنية»، جمع باحثون في جامعة ولاية كولورادو الأميركية، قاعدة بيانات للمشاهدات على مدى الأعوام الـ400 الماضية. كما تضمَّن الأرشيف، الذي نُشر الأربعاء في دورية «علوم الأرض والفضاء»، تقارير شهود عيان من البحّارة، وروايات فردية قُدّمت إلى مجلة «مارين أوبزرفر» على مدى 80 عاماً، وبيانات مُعاصرة من الأقمار الاصطناعية.
وتُظهر النتائج أنّ المشاهدات تحدُث عادةً حول بحر العرب، وهو جزء من المحيط الهندي يقع بين سواحل شبه الجزيرة العربية وشبه القارة الهندية، وأيضاً في مياه جنوب شرقي آسيا، وترتبط إحصائياً بظاهرة «ثنائي القطب» في المحيط الهندي، المعروفة أيضاً باسم «النينيو الهندي» وظاهرة «النينيو الجنوبية».
ومن المعروف أنّ هاتين الظاهرتين المناخيتين تؤثّران في أنماط الطقس العالمية، ما يدفع الباحثين إلى التساؤل عن كيفية ارتباط هذه الظاهرة النادرة بهذه التغيّرات المناخية.
في هذا السياق، قال طالب الدكتوراه والمؤلّف الأول للورقة البحثية، جاستن هدسون، إنّ قاعدة البيانات ستُساعد الباحثين على التنبؤ بشكل أفضل بموعد حدوث ظاهرة «البحر اللبني» ومكانه.
وأوضح في بيان، الأربعاء، أنّ الهدف هو إرسال سفينة بحثية إلى الموقع في الوقت المناسب لجمع معلومات حول التركيب البيولوجي والكيميائي للبحر اللبني. يمكن أن تُساعد المعلومات المتعلّقة بهذه المتغيرات في ربط الحدث بنشاط أنظمة الأرض الأوسع.
وأضاف هدسون أنّ المناطق التي تحدُث فيها البحار اللبنية تتميّز بتنوّع بيولوجي كبير، وهي مهمّة اقتصادياً لعمليات الصيد. وتابع: «لا يزال ثمة كثير لنتعلّمه حول كيفية حدوث ذلك وسببه، وما آثاره في المناطق التي تشهده».
وتحدُث ظاهرة التلألؤ الحيوي بأشكال متعدّدة في الطبيعة. أما بالنسبة للبحار اللبنية فلا يزال الباحثون يحاولون فهم ما يحدث فعلياً على سطح البحر. ولعلّ واحدة من تلك الحوادث ما صادفته سفينة بحثية عام 1985؛ حيث جمعت عيّنة من الماء. ووجد الباحثون أنّ سلالة معيّنة من البكتيريا المضيئة كانت تعيش على سطح الطحالب في منطقة ازدهار، ما قد يُسبّب توهّجاً في جميع الاتجاهات.
ولسدّ هذه الفجوة في الفَهْم، حاول الباحثون الاستفادة من المعلومات التي جُمعت من صور الأقمار الاصطناعية المتفرقة.
وعلَّق هدسون: «من المرجح أن الضوء ناتج عن عملية بيولوجية مرتبطة بالبكتيريا». وأضاف: «المناطق التي يحدُث فيها هذا بشكل أكبر تقع حول شمال غربي المحيط الهندي بالقرب من الصومال وسقطرى باليمن، إذ يحدُث نحو 60 في المائة من جميع الأحداث المعروفة هناك».
وأوضح: «في الوقت عينه، نعلم أنّ مراحل الرياح الموسمية الهندية تُحرّك النشاط البيولوجي في المنطقة، من خلال التغيرات في أنماط الرياح والتيارات».
أما البروفيسور ستيفن ميلر، وهو المؤلّف الآخر في الورقة البحثية، ويُجري بحوثاً حول البحار اللبنية لسنوات في جامعة ولاية كولورادو، فقد قاد جهوداً لتصوير هذه الظاهرة من الأقمار الاصطناعية، وقال إنّ قاعدة البيانات ستُتيح فرصة جديدة للحصول على معرفة مباشرة.
وأَضاف: «البحار اللبنية تعبيرات رائعة عن محيطنا الحيوي، والتي لم نحدّد أهميتها في الطبيعة بشكل كامل بعد، ويُشير وجودها في ذاته إلى روابط غير مستكشفة بين السطح والسماء، وبين الأدوار المجهرية والعالمية للبكتيريا في نظام الأرض. بمساعدة قاعدة البيانات الجديدة هذه، المُشكَّلة من سفن القرن الـ17، وصولاً إلى سفن الفضاء في العصر الحديث، نبدأ بناء جسر يربط بين التراث الشعبي والفهم العلمي».