«أغالب مجرى النهر» تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر

رواية جديدة لسعيد خطيبي تصدر قريباً عن «نوفل»

«أغالب مجرى النهر» تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر
TT
20

«أغالب مجرى النهر» تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر

«أغالب مجرى النهر» تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر

تصدر قريباً عن «دار نوفل - هاشيت أنطوان» رواية «أغالب مجرى النهر» للكاتب الجزائري سعيد خطيبي. وفيها يصوّر الكاتب أناساً انتهتْ بهم الحياة أسرى أقدارهم.

في «أغالب مجرى النهر» التي تقع في 288 صفحة، مشرحة، وعيادة، وغرفة تحقيق تُستجوَب فيها امرأةٌ متّهمةٌ بمقتل زوجها. وفي الطرف الآخر من المدينة، مناضلون قدامى يرجون رفع تهمة العمالة التي لُفّقَت لهم.

حدثان مختلفان تتكشّف العلاقة بينهما مع تقدّم الرواية التي تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر؛ من الحرب العالميّة الثانية حتّى مطلع التسعينات، مروراً بحرب التحرير وما تلاها.

أما صاحب الرواية الجزائري سعيد خطيبي، فهو من مواليد عام 1984، صدرتْ له خمس روايات، آخرها «نهاية الصحراء» (نوفل، 2022) التي حازت «جائزة الشيخ زايد للكتاب» (دورة 2023).

وتنشر «الشرق الأوسط» هنا مقتطفاً من «أغالب مجرى النهر» قبل أيام من صدورها:

نويتُ قطع أنفاسِه، لكنْ لم أتخيّل نفسي محتجَزةً في هذا المكان، الذي لا تتعدّى مِساحته خمس خطواتٍ طولاً ومثلها عرضاً، وأنا أقاوم خفَقات قلبي بمناجاة ربّي، راجيةً ألّا يخيِّبني. أشعر بانقباضٍ في معِدتي، وأمتنع عن مدّ يدي إلى صحنٍ معدِنيٍّ، قدّمه إليّ شرطي من كوّة الباب، يمتلئ نِصفه أرزّاً وتمرح فيهِ نملتان. أضغط على أسناني كي لا أبكي، مع أنّ لساني يرغب في الصراخ. لكن لن يبالي أحد بحالي، مثلما لم يبالِ أحد بصُراخات امرأةٍ تقبع في المَحبس المجاور، قضتْ ليلَها تطلب رؤية شخصٍ يُدعى هلالي، وهي تطرق بابَها وتستغيث بأن يُفرجوا عنها، فسددتُ أذنيَّ بكفَّيَّ إلى أن خمد صوتها. ظنّي أنّه قد أُغمي عليها. فآثرتُ الصبرَ مع أنّ أعصابي لا تحتمل طولَ انتظار.

أمسكتُ شعري بيديَّ، أرغب في نتفه. ورغبتُ في التمدّدِ، لكنّني لم أُطق صلابة الأسمنت، في هذا المَحبس الواقع في مخفرٍ، لا وسادة فيه ولا فراش.

لطمتُ خدَّيّ، اللذَيْن رشَحا بدمعٍ ممزوجٍ بعرقٍ، من شدّةِ الحرِّ: يا ربّي، فرّج عنّي!

أُحدّق في الحيطان التي تطوّقني، ولا تفارق مِنخريّ رائحة زنخة فاحت مِنْ مغسلةٍ، مصنوعةٍ من خزفٍ، تشقّق حوضها، وقد نضب الماء من صنبورِها. مثلما نضب من بيوت الناس، فصاروا يشربون ماء الوادي، بعد تصفيته من دود العَلَق.

أحسستُ بصعوبةٍ في التنفس، وخشيتُ أن يطول مكوثي في هذا المكان، فلا أرى أبي مرةً أخرى. أمّا أمّي، فرجّحتُ ألّا يهمّها أمري. قد يحوّلونني إلى سجنٍ بعيدٍ، فلا يتاح لأحدٍ من أهلي زيارتي. وأقبح ما جال في خاطري أن أفقد ابنتي. سوف يسخر منها الأطفال: «أمّكِ في الحبسِ»، وتلوذ بالبكاء كعادتها كلّما سمعتْ ما لا يسرّها. وعندما يُفرج عنّي، بعد أن تتساقط أسناني ويبيضّ شعري، لن تتعرّف إليّ. لن أرافقها إلى المدرسة عندما تكبر، ولن أحضر عرسها. لقد أنجبتُها كي أخسرها.

تلاطمتْ تلك الأفكار في بالي، ورغبتُ في التخلّص من خوفي مثلما رغبتُ في العودة إلى عملي. حياتي بين بيتٍ وعيادةٍ لا في محبس. علّمَني الطبّ كبت قلقي وتحمّل المشقّات. لكنّني نسيتُ كلَّ ما تعلّمتُه، مُصرّةً على أنّ خطأً قد وقع، فأنا لم أفعل شيئاً يستحقّ سَجني. لكن مَن يصدّق كلامي!

شعرتُ كأنّني جروٌ يحاصره أطفال بالركل، وأنا أجول ببصري بحثاً عن حبلٍ أُعلّق عليه رقَبتي، أو آلةٍ حادّةٍ أفتح بها شراييني، فلم أعثر على مُرادي. غطّتْ عينَيّ غِشاوة من كثرة الدمع، وقمتُ زامّةً شفتيَّ كي تكفّا عن ارتجاجهما. تكوي يديَّ حرارةٌ. أرغب في التعاركِ مع أحدهم، أن أهشّم رأس تلك الشرطيّة، التي تفوقني وزناً وتقلّ عنّي طولاً، والتي أودعتني، في اليوم السابق، هذا المكان.

«اقلعي حوايجك!». حال وصولي أمرتْني بعينَيْنِ صارمتَيْنِ أن أتجرّد من ثيابي، فلسعتْ وجنتَيَّ حرارةٌ من شدّة الخجل، وأنا التي لا أتعرّى أمام أقرب الناس إليّ. لكنّني امتثلتُ، وساورني شعور بأنّني أتعرّى من روحي لا ثيابي. أغمضتُ عينَيّ، وهي تجسّ بدني بيدَيها الخشنتَيْن.

«افتحي فمكِ». تفقّدتْ أسناني، ثمّ أمرتني أن أُخرج لساني ففعلتُ. قولي: «عاآآآ». كأنّني شاة يتفحّصها زَبون، عاريةً رحتُ أتساءل في نفسي: علامَ توقّعَتْ أن تعثر؟ مخدّرات أم سلاح؟

أمسكتُ لساني عن نعتها ﺑ«خامجة»، فالغضب حجّة الضعفاء، كما سمعتُ من أبي. لم تعثر على شيءٍ، فأمرتني بنظرةٍ هازئةٍ أن أُعيد ارتداء ملابسي، بعدما حجزتْ خاتَمي وساعة معصمي، ثمّ أغلقتِ الباب بعارضةٍ حديديّةٍ وانصرفتْ. ليتها تعود فأطرق جبهتها الناتئة، لكنّني طرقتُ الباب براحة يدي، مرّة، مرّتَيْن، وثلاثاً: «افتحوا... افتحوا!».

لم أسمع سوى صدى طَرْقي، ثمّ دهمني ارتخاء في يدي وبلعْتُ ريقي. أعدتُ صُراخي وتخيّلتُ ابنتي تدسّ رأسَها في حجري. أظنّني سمعتُ همسَها في أذنيَّ: «ما تخافيش ماما». بل أنا خائفة وأخمّن ما تفعله في غيابي. هل تشتاق إليّ؟ طفَتْ في ذهني صورتها وهي تضحك عندما أشتري لها لعبةً، ثمّ تحدّق إليّ شاكرةً بعينَيْها السوداوَيْن، أو ابتهاجها وهي تلبس ثوباً جديداً. هل بكت في غيابي؟ هل نامت بينما أنا مسجونة؟ خالجني شعور بأنّني أخطأتُ في إنجابها وأذنبتُ في حقّها.

عدتُ إلى الأدعية وتكرار قِصار السور، ثمّ سمعتُ أذانَ الظهر، ما يعني أنّني قضيتُ يوماً كاملاً في هذا المكان. واصلتُ قرع الباب، متجاهلةً الارتخاء الذي اكتسح يدي، عندما أطلّ عليّ شرطيّ من الكوّة، بحاجبَيْن كثيفَيْنِ:

– اصبري... حتى يوصل لَمْعلّمْ.

سألتُ من يكون هذا «لَمْعلّمْ»، من غير أن أُبلَّغ إجابة:

– متى يصل؟

– الله أعلم.

ردّ عليّ ذو الحاجبَيْن الكثيفَيْن، كاشفاً عن أسنانه العلويّة المعوجّة. ثمّ انصرف كمَنْ أسعده ما حلّ بي، غيرَ راغبٍ في سماع أسئلةٍ أخرى، فشتمتُ والديه في سرّي. إنّه من نوع الرجال الذين نستثقل روحهم، دائماً ما أفرض على أمثاله تسعيرة أعلى من غيرهم حين يأتون إلى عيادتي. وقد حفِظتُ ملامحَه، فإن أُفرج عنّي وجاء يشتكي ضرراً في عينَيْه، فسأمتنع عن مداواته.

حضنتُ ساقيّ بين ذراعيّ، كي أُخمد رغبتي في ركل الحائط. قبل أن أسمع وقع خطواتٍ، فاستقمتُ وعدّلتُ تنّورتي. عادتِ المرأة التي تقبع في المحبس المجاور إلى صراخها، وعاد ذو الحاجبَيْنِ الكثيفَيْنِ وفتح بابي: «اتبعيني عند لمْعلّمْ».

عرَفتُ أنّ تلك الكلمة يقصدون بها المحقّقَ، الذي أمرني بالجلوس قُبالته، على كرسيٍّ خشبيٍّ برِجْلٍ أقصر من نظيراتها، في غرفةٍ تتوسّطها طاولة يعلوها هاتف، آلة كاتبة، رزمة أوراقٍ، وكوب قهوةٍ فارغ، يستعمله كمنفضة سجائر، فيما السّاعة المثبّتة على الحائط تجاور عقاربها الواحدة زوالاً.

ظلّ بدني يترنّح وأنا أردّ على أسئلته، التي جعلتْني أندم على ما عشتُه.


مقالات ذات صلة

«الرياض» ضيف شرف في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025 بالأرجنتين

كتب «الرياض» ضيف شرف في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025 بالأرجنتين

«الرياض» ضيف شرف في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025 بالأرجنتين

تقود هيئة الأدب والنشر والترجمة مشاركة الرياض الاستثنائية بصفتها «ضيف الشرف» في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025، ضمن دورته التاسعة والأربعين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب ماريو فارغاس يوسا

يوسا في بغداد: «هذا ليس حسناً يا سيدي!»

استمع يوسا على هامش جولاته عبر العراق لأشخاص ممن سُجنوا أو تعرضوا للتعذيب فترة الحكم البعثي وزار سجن «أبو غريب».

ندى حطيط (لندن)
كتب ديفيد دويتش

المسكونون بشغف الأسئلة

كتبتُ غير مرّة أنّني أعشق كتب السيرة الذاتية التي يكتبها شخوصٌ نعرف حجم تأثيرهم في العالم. السببُ واضحٌ وليس في إعادته ضيرٌ: السيرة الذاتية

لطفية الدليمي
كتب هانز كونغ

هانز كونغ والحوار مع الإسلام

كان العالم اللاهوتي الكاثوليكي السويسري هانز كونغ (1928-2021) متحمساً جداً للحوار مع الإسلام. والكثيرون يعدونه أكبر عالم دين مسيحي في القرن العشرين

هاشم صالح
ثقافة وفنون هاروكي موراكامي

هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية في «جائزة الشيخ زايد للكتاب»

أعلنت جائزة الشيخ زايد للكتاب في مركز أبوظبي للغة العربية، عن اختيار الكاتب الياباني العالمي هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية.

«الشرق الأوسط» (الدمام)

جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي
TT
20

جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي

لم يأتِ رحيل المبدع العراقي جمعة اللامي في السابع عشر من هذا الشهر مفاجئاً لمعارفه ومحبيه. إذ لم تحمل السنوات الأخيرة الراحة له: فقد سكنه المرض، وتلبدت الذاكرة بضغوطه، فضاع كثير من الوهج الذي تميزت به كتاباته. وتجربة جمعة اللامي فريدة؛ لأنه لم يكن يألف الكتابة قبل أن يقضي سنواتٍ عدة سجيناً في عصور مضت. لكنه خرج من هذه أديباً، وصحافياً متميزاً.

ربما لا يعرف القراء أنه شغل مدير تحرير لصحف ومجلات، وكان حريصاً على أن يحرر الصحافة من «تقريرية» الكتابة التي يراها تأملاً بديعاً في التواصل بين الذهن واللغة. خرج من تلك السنوات وهو يكتب الرواية والقصة. وكانت روايته «من قتل حكمت الشامي» فناً في الرواية التي يتآلف فيها المؤلف مع القتيل والقاتل. ومثل هذه المغامرة الروائية المبكرة قادت إلى التندر. فكان الناقد الراحل الدكتور علي عباس علوان يجيب عن تساؤل عنوان الرواية: من قتل حكمت الشامي؟ جمعة اللامي. لكن الرواية كانت خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ماورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية). وسكنته روح المغامرة مبكراً. وكان أن كتب مسرحية بعنوان «انهض أيها القرمطي: فهذا يومك»، التي قادته أيضاً إلى محنة أخرى، لولا تدخل بعض معارفه من الأدباء والمفكرين. وجاء إلى القصة القصيرة بطاقة مختلفة جزئياً عن جيله. إذ كان جيل ما بعد الستينات مبتكراً مجدداً باستمرار. وكان أن ظهرت أسماء أدبية أصبحت معروفة بعد حين وهي تبني على ما قدمه جيلان من الكتاب: جيل ذو النون أيوب، وما اختطه من واقعية مبكرة انتعشت كثيراً بكتابات غائب طعمة فرمان، وعيسى مهدي الصقر وشاكر خصباك، وجيل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي، والذين بنوا عليه وافترقوا عنه كمحمد خضير، وموسى كريدي، وأحمد خلف، وعبد الستار ناصر، وعدد آخر. وكان جمعة اللامي ينتمي إلى هذا الجيل، لكنه استعان بهندسة القصة لتكون بنية أولاً تتلمس فيها الكلمات مساحات ضيقة تنوء تحت وقع أي ثقل لغوي. ولهذا جاءت قصصه القصيرة بمزاوجة غريبة ما بين الألفة والتوحش، يتصادم فيها الاثنان، ويلتقيان في الأثر العام الذي هو مآل القص.

وعندما قرر اللامي التغرب وسكن المنفى، كان يدرك أنه لن يجد راحة البال والجسد. لكنه وجد في الإمارات ورعاية الشيخ زايد حاكم الدولة، وبعده عناية الشيخ الدكتور سلطان القاسمي ما يتيح له أن يستأنف الكتابة في الإبداع الأدبي وكذلك في العمود الصحافي. ولمرحلة ليست قصيرة كان «عموده» الصحافي مثيراً لأنه خروج على المألوف، ومزاوجة ما بين العام والشخصي، اليقظة والحلم، المادية والروحانية. وعندما ينظر المرء إلى مسيرة طويلة من الكد الذهني والجسدي فيها الدراية والعطاء، يقول إن الراحل حقق ذكراً لا تقل عنه شدة انتمائه لمجايليه وأساتذته وصحبه الذين لم يغيبوا لحظة عن خاطره وذهنه، كما لم يغب بلده الذي قيَّده بحب عميق يدركه من ألِفَ المنافي وسكن الغربة.

سيبقى ذكر جمعة اللامي علامة بارزة في أرشيف الذاكرة العراقية والعربية الحيّة.

 كانت روايته «مَن قتل حكمة الشامي؟» خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ما ورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية)