لماذا ترعب الأصولية الظلامية الفيلسوف الفرنسي سبونفيل؟

يقول بالتقارب مع المسلم المستنير أكثر من التقارب مع الفرنسي العنصري

أندريه سبونفيل
أندريه سبونفيل
TT
20

لماذا ترعب الأصولية الظلامية الفيلسوف الفرنسي سبونفيل؟

أندريه سبونفيل
أندريه سبونفيل

يُعتبر الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل أحد فلاسفة فرنسا الكبار حالياً. وقد كان أستاذاً في السوربون ومحاضراً لامعاً في أهم الجامعات الأوروبية والعالمية. وبعض كتبه حظيت بنجاح شعبي كبير في المكتبات الفرنسية. وهذا شيء مدهش لأن كتب الفلسفة عويصة عادة ولا تباع إلا للنخبة. وهو يرى أن الحضارات والثقافات لا تتساوى فيما بينها، وأن حضارة ما قد تكون متفوقة في فترة ما ثم تصبح مسبوقة ومتأخرة في فترة لاحقة أو العكس. الحضارات دوارة لا تدوم لأحد. من سره زمن ساءته أزمان... وأكبر دليل على ذلك الحضارة العربية الإسلامية. فقد كانت متفوقة على جميع الحضارات البشرية بين القرنين الثامن والثاني عشر للميلاد. كان ذلك إبان العصر الذهبي المجيد. كانت بغداد آنذاك العاصمة الثقافية للعالم. كانت تشع بأنوارها على الكرة الأرضية بأسرها. وكانت غرناطة وقرطبة عاصمتي الأنوار والتسامح والإبداع وسط أوروبا الظلامية المتعصبة. كان ذلك أيام الخليفة الأموي الكبير عبد الرحمن الثالث وابنه الحكم الثاني. كانت مكتبة قرطبة آنذاك تضم ما لا يقل عن أربعمائة ألف كتاب. هكذا كانت قرطبة الحضارية الأنوارية. أين منها باريس أو لندن أو أكسفورد الغارقات في ظلام عميق؟

عندما يقول أندريه كونت سبونفيل هذا الكلام هل يعني ذلك أنه يكره المسيحية دين آبائه وأجداده؟ هل يريد أن يبخسها حقها أو يزدريها؟ أبداً لا. فهي أحد الأديان الكبرى للبشرية بالإضافة إلى الإسلام. إنه فقط يعترف بالحقيقة التاريخية، الحقيقة الموضوعية. العالم الإسلامي آنذاك كان متفوقاً على العالم المسيحي. ولكن الآن دارت الدوائر علينا نحن العرب والمسلمين وما عدنا مركز الحضارة العالمية. هيهات! لقد حلت محلنا تلميذتنا السابقة: أوروبا. لقد أصبحت مركز الفلسفة والعلم والإشعاع الحضاري منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم. وهكذا أصبح المتخلف متقدماً والمتقدم متخلفاً. ثم يضيف الفيلسوف الفرنسي قائلاً:

«الآن أصبح العالم العربي والإسلامي كله مرتعاً لحركات التطرف والظلام والتعصب الديني الأعمى. لقد ابتلي بها ابتلاءً شديداً مثلما ابتلينا بها نحن سابقاً أيام محاكم التفتيش وفتاوى التكفير اللاهوتية الكهنوتية التي تذبح الناس بالملايين. كما وابتلينا بالحروب المذهبية الكاثوليكية - البروتستانتية المدمرة. أما هم فيكتوون بحر نارها حالياً في عز القرن الحادي والعشرين! وهذه هي مسافة التفاوت التاريخي بيننا وبين المسلمين: أربعة قرون فيما يخص الطائفية وحل المشكلة الدينية. ولا يتوقع أن يخرج العالم العربي من هذا المغطس الرهيب في المدى المنظور. هذه مشكلة خطيرة، مشكلة عويصة، مشكلة أجيال». ثم يتساءل الفيلسوف الفرنسي قائلاً: هل إسلام العصر الذهبي البغدادي - الأندلسي هو ذاته إسلام بن لادن والملا عمر والزرقاوي والخليفة المشؤوم الخنفشاري البغدادي و(داعش) و(القاعدة) و(جبهة النصرة) و(الطالبان) وعشرات التنظيمات الأخرى التي فرختها عصور الظلام؟ والجواب: أبداً لا. ولا ننسى أحفادهم الحاليين الذين يبثون أشرطة نارية مصورة يهددون فيها حكوماتهم وشعوبهم العربية ويريدون إعادتها قروناً إلى الوراء باسم ثورات رجعية، قروسطية، متخلفة. ولذا نقول ما يلي: ينبغي الاعتراف بأن العصور الوسطى لا تزال متغلبة على العصور الحديثة عندنا على عكس أوروبا التي خرجت كلياً من العصور الوسطى. ولكن شعوبنا الطيبة الفقيرة الجائعة لا تزال غارقة فيها. أنا شخصياً نتاج العصور الوسطى. والدي كان شيخاً ظلامياً مكفهراً يرعب العالم كله (بين قوسين: ما عدا امرأته التي كانت ترعبه!).

يقول لنا الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل في آخر مقابلة له مع مجلة «الإكسبريس» الباريسية ما فحواه:

«أعترف بأني خائف من الأصولية الإسلامية حالياً. خائف من رعبها وتكفيراتها وتفجيراتها. هذا لا يعني نسيان المتطرفين الإنجيليين في أميركا أو المتطرفين الهندوسيين في الهند. أنا ضد كل الأصوليات والأصوليين دفعة واحدة. ولكن ينبغي الاعتراف بأن الأصوليين الإسلاميين هم الأكثر عنفاً وترويعاً في هذه اللحظة بالذات. وهم الذين يفجرون العالم منذ 11 سبتمبر بل وحتى قبلها. من المعلوم أن فولتير حارب بكل قوة محاكم التفتيش الكاثوليكية التي كانت سائدة في عصره على الرغم من أنه كان كاثوليكياً أباً عن جد. وهذا من أعجب العجب. فلم يكن يعاني شخصياً من أي تمييز طائفي لأنه ينتمي إلى مذهب الأغلبية الراسخة. ومع ذلك فقد تحداها ووقف في وجه هيمنتها الساحقة وتكفيرها للآخرين وقمعهم واضطهادهم. لنتفق على الأمور هنا: من السهل جداً أن تهاجم طوائف الآخرين، وبخاصة إذا كانوا أقليات ولكن من أصعب الصعب أن تدخل في صدام مباشر مع طائفتك الخاصة بالذات، بخاصة إذا كانت هي طائفة الأكثرية المهيمنة تاريخياً والواثقة من شرعيتها أو مشروعيتها. هنا تكمن عظمة فولتير».

ثم يردف أندريه كونت سبونفيل قائلاً:

«أنا مع الأنوار، مع التقدم، مع المفهوم العقلاني الحديث للدين والتدين. وهو مفهوم يؤمن لك الحرية الدينية بشكل كامل: أي أن تتدين أو لا تتدين على الإطلاق، ومع ذلك تبقى مواطناً لك كافة الحقوق وعليك كافة الواجبات. أنا لا أراقب جاري فيما إذا كان يذهب إلى الكنيسة يوم الأحد أم لا ولا أحاسبه على ذلك. هذا ليس شأني. ولكني أحاسبه إذا ما غش أو سرق أو اعتدى على حقوق الناس. أحاسبه إذا ما أخل بعمله كطبيب أو كمعلم أو كمهندس أو حتى كرئيس جمهورية!». ثم يضيف: «أنا ضد الطائفية وضد العنصرية وضد التعصب الديني الأعمى الذي يجتاح بعض مناطق العالم الإسلامي حالياً. وبالتالي فلا أستطيع أن أقول بأن كل الحضارات تتساوى. الحضارة التي تضمن احترام حقوق الإنسان وكرامته وعدم التمييز بين المواطنين على أساس طائفي أو عنصري هي الحضارة الحقيقية ذات النزعة الإنسانية. وهي الآن الحضارة الأوروبية أو الغربية بشكل عام. والحضارة التي لا تؤمنها ليست حضارة. لماذا نقول ذلك؟ لأننا في أوروبا انتقلنا من عصر الظلامية الدينية إلى عصر الأنوار الدينية والعلمية والفلسفية. ما عدنا نفهم الدين بطريقة تكفيرية طائفية كما كان يفعل أجدادنا في العصور الوسطى. في الماضي كنا نذبح بعضنا بعضاً على الهوية: هذا كاثوليكي وهذا بروتستانتي لا يطيقان بعضهما بعضاً. بل ولا يستطيعان أن يعيشا في ذات الحي أو حتى في ذات الشارع. كانت أحياء الكاثوليكيين منفصلة كلياً عن أحياء البروتستانتيين. والآن انحسر كل هذا التعصب الأعمى ولم يعد له أي وجود في فرنسا أو إنجلترا أو ألمانيا أو هولندا أو بقية أوروبا المتحضرة التي تعامل كل مواطنيها على قدم المساواة أياً تكن أديانهم ومذاهبهم. الدين لله والوطن للجميع. لهذا السبب تفوقت أوروبا على العالم العربي الإسلامي الذي لا يزال يتخبط في صراعاته الطائفية والمذهبية والذي لا يزال يشتمل على شرائح واسعة من المتعصبين الدمويين».

ثم يضيف أندريه كونت سبونفيل قائلاً:

«لقد انتقلنا في أوروبا من عصر محاكم التفتيش والحروب الصليبية والمجازر الطائفية إلى عصر حقوق الإنسان والمواطن ودحر الطائفية التي كانت تمزقنا... لقد انتقلنا من مجازر سانت بارتيلمي ضد الأقلية البروتستانتية التي كان قادة الأصولية الكاثولكية يكفرونها ويزندقونها ويبيحون دمها إلى عصر الأنوار والتسامح والمواطنة الحقة التي تشمل الجميع على قدم المساواة ودون أي تمييز على أساس طائفي أو مذهبي. هل هذا قليل؟»، ونحن نجيبه: هذا كثير بل وأكثر من كثير. هنيئاً لكم. نحن نحسدكم على كل هذا التقدم والتطور والاستنارة. ولكن هنا نحب أن نطرح على الفيلسوف الفرنسي هذا السؤال:

هل استطعتم تحقيق ذلك بسهولة ويسر يا ترى؟ هل استطعتم القضاء على الطائفية والمذهبية بين عشية وضحاها؟ هل استطعتم تحقيق الوحدة الوطنية برمشة عين؟ أم أن ذلك استغرق منكم ثلاثة قرون أو حتى أربعة: منذ القرن السادس عشر وحتى العشرين؟ فلماذا تطالبون العالم العربي أو الإسلامي كله بأن يحقق ذلك في ظرف سنوات معدودات؟ مستحيل. إنه لا يستطيع يا سيدي. إنه لا يستطيع. هذا فوق طاقته وإمكاناته في الوقت الحاضر. بالطبع لن ننتظر ثلاثة أو أربعة قرون لكي نحل المشكلة الطائفية والمذهبية ونحقق الوحدة الوطنية الحقيقية التي تشمل جميع المكونات على قدم المساواة. ولكننا لن نستطيع تحقيق هذا الهدف الغالي المنشود بالسرعة المرجوة. أعطيكم موعداً بعد عشرين أو ثلاثين سنة قادمة!

ثم يقول لنا أندريه كونت سبونفيل هذه الفكرة الجوهرية التي فاجأتنا وأسعدتنا:

«أشعر بالتقارب مع المسلم الحداثي المستنير أكثر من التقارب مع الفرنسي العنصري المنتمي إلى تيار اليمين المتطرف على الرغم من أني فرنسي مثله. ولكن لا أطيق آيديولوجيا التمييز العنصري التي يعتنقها. وهناك مثقفون عرب كثيرون من أمثالي لا يطيقون الآيديولوجيا الأصولية الدموية لأتباع الدواعش والقواعد».

ثم يختتم أخيراً بهذه الفكرة:

كما أن فولتير هزم الأصولية المسيحية في نسختها الكاثوليكية التي كانت ترعب عصره، فإننا سوف نهزم الأصولية الداعشية التي ترعب عصرنا. هذه حقيقة مؤكدة. ولكن متى سيحصل ذلك؟ الله أعلم. سوف يستغرق بعض الوقت. في النهاية لا يصح إلا الصحيح. وبالتالي فمعركة الأنوار التي دشنها فولتير في القرن الثامن عشر لا تزال مستمرة حتى الآن. ولهذا السبب هرع الناس إلى المكتبات لشراء مؤلفاته بعد أن ضرب «داعش» في قلب باريس!


مقالات ذات صلة

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

كتب الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

مفاجآت عدّة وإجابات غير متوقعة، تحملها الدراسة التي أجرتها مؤسسة «فريدريش إيبرت» الألمانية على 12 ألف شاب وشابة من العالم العربي

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب «المرأة الدينية المرأة النسوية»... الخطاب المسكوت عنه

«المرأة الدينية المرأة النسوية»... الخطاب المسكوت عنه

ينطلق كتاب «المرأة الدينية المرأة النسوية... كشف مضمرات الخطاب السردي في ضوء علم اجتماع الأدب»، للناقدة العراقية د. موج يوسف

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «الرياض» ضيف شرف في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025 بالأرجنتين

«الرياض» ضيف شرف في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025 بالأرجنتين

تقود هيئة الأدب والنشر والترجمة مشاركة الرياض الاستثنائية بصفتها «ضيف الشرف» في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025، ضمن دورته التاسعة والأربعين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب ماريو فارغاس يوسا

يوسا في بغداد: «هذا ليس حسناً يا سيدي!»

استمع يوسا على هامش جولاته عبر العراق لأشخاص ممن سُجنوا أو تعرضوا للتعذيب فترة الحكم البعثي وزار سجن «أبو غريب».

ندى حطيط (لندن)
كتب ديفيد دويتش

المسكونون بشغف الأسئلة

كتبتُ غير مرّة أنّني أعشق كتب السيرة الذاتية التي يكتبها شخوصٌ نعرف حجم تأثيرهم في العالم. السببُ واضحٌ وليس في إعادته ضيرٌ: السيرة الذاتية

لطفية الدليمي

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين
TT
20

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

مفاجآت عدّة وإجابات غير متوقعة، تحملها الدراسة التي أجرتها مؤسسة «فريدريش إيبرت» الألمانية على 12 ألف شاب وشابة من العالم العربي، تتراوح أعمارهم بين 16 و30 عاماً. فهؤلاء أبدوا رغبة في أن تتحمل الدولة المزيد من المسؤوليات في رعايتهم، لكنهم في الوقت نفسه غير راغبين في الانخراط في الأحزاب السياسية. وهم ينظرون إلى السياسة على أنها رديف للفساد والانتهازية، ولا يحبّذون أن يكونوا جزءاً منها. لكن الأكثر لفتاً للانتباه، هو أن الشباب العربي لا يرى الديمقراطية عنصراً حاسماً في صلاح الحكم، بقدر ما يبحث عن القائد القوي الذي يمكن أن ينجو بالسفينة. ومما يدعو إلى الاهتمام هو اعتبار الأغلبية الساحقة من الشباب، في البلدان التي أجريت فيها الاستطلاعات، أن الدين يجب أن يلعب دوراً أكبر في تسيير الحياة. ومن المفارقات، أن الأبحاث التي ترصد الجوع وتصف جيلاً بأكمله بالحرمان، تظهر هي نفسها أن الشباب العربي مفعم بالأمل، وأنه مقبل على الحياة، رغم أنه لا يشعر بالرضا عن واقعه، وهذا أمر في غاية الأهمية.

بعد المأزق جاء الحرمان

نقاط أساسية لفهم توجهات الشباب العربي، تطلعاته، رغباته، بواطنه، وما يجول في خاطره؟ وهو ما لا نعرفه بوضوح بسبب غياب الدراسات، أو تشتتها، وربما عدم توفيرها للجمهور العريض. من هنا تأتي أهمية هذه الدراسة الاستطلاعية التي شارك فيها 11 باحثاً وباحثة من ألمانيا، وشملت 11 دولة عربية، هي: الأردن، والجزائر، ومصر، والعراق، واليمن، ولبنان، وليبيا، والمغرب، وفلسطين، والسودان وتونس، إضافة إلى اللاجئين السوريين في لبنان. تمت المقابلات مع المستطلعين، بين عامي 2021 و2022، أي بعد وباء كورونا. حرَّرها كلٌ من يورغ غرتل، ودافيد كروير وفريدريكا ستوليس. وأصدرت «دار الساقي» الدارسة في كتاب من 500 صفحة بترجمة دكتورة شيماء مرزوق، حمل عنواناً دالاً هو «الجيل المحروم». وكانت دراسة أولى قد أجرتها المؤسسة بين عامي 2016 - 2017 رصدت من خلالها توجهات الشباب بعد ثورات الربيع العربي، صدرت في كتاب بعنوان «مأزق الشباب»، بينما تأتي الدراسة الجديدة بعد خمس سنوات، لترصد التغيرات بعد الموجة الثانية للحراك الشعبي عام 2018 الذي شاهدناه في لبنان، والجزائر والسودان.

محاور أساسية

تنقسم الدراسة إلى أربعة محاور رئيسية، تتفرع منها عناوين عدة. المحور الأول حول «الحرمان» والفقر. أما المحور الثاني، فهو حول «الأزمات المتعددة» التي يعاني منها الشباب مثل الجوع والعنف والهجرة، والبيئة. أما المحور الثالث، فهو عن «التوجهات الشخصية» للشباب من خلال الأسرة والتعليم والقيم الفردية والجمعية والدين. في حين يكشف المحور الرابع عن طبيعة «العلاقات الاجتماعية» ومستوى الالتزام الاجتماعي للشباب ونظرتهم للمؤسسات ومدى ثقتهم بها، وصولاً إلى رصد تطلعاتهم وأحلامهم على المستويين الشخصي والجماعي من خلال الإعلام ووسائل التواصل، كذلك السياسة والمشاركة المدنية والآمال والتوقعات.

فيما يخص التدين تظهر الدراسة الميدانية أن غالبية الذين سئلوا يشعرون بأنهم أكثر تديناً اليوم عما كانوا عليه قبل خمس سنوات. وتربط الدراسة بين هذه النتائج، وازدياد الإحساس بعدم اليقين، الذي يعيشه الشباب في مجتمعات متقلبة تعاني أزمات اقتصادية وحروباً وتهديدات مباشرة للحياة. وقد قال الليبيون والمغاربة والأردنيون، إنهم الأكثر تديناً من ذي قبل بعلامة وصلت إلى 8 من 10، في حين انخفضت العلامة التي أعطاها الشباب لتدينهم في لبنان وتونس، لكنها بقيت 6 درجات من 10.

قال أكثر من ثلثي الشباب المستطلعين إنهم غير مهتمين على الإطلاق بالسياسة. وهم حين يتحدثون عن هذا الموضوع فإنما يربطونه في «المقام الأول بالسياسة الحزبية الرسمية» في بلادهم، ولا يحيلون في حديثهم إلى الانخراط في خدمة المجتمع. وهذه النظرة تنبع من الإحباط العام الذي يعانيه الشباب بعد الأزمات المتلاحقة التي عاشتها بلادهم.

الثقة بالقبيلة والجيش

يرغب أكثر من ثلثي المشاركين في أن تلعب الدولة دوراً أكبر في تسيير الحياة اليومية. والنسبة الأكبر جاءت من لبنان 88 في المائة والأدنى من الجزائر 50 في المائة؛ ما يدل على إحساس بغياب الدولة في لبنان، وتدخلها الشديد في الجزائر، بينما يرغب فقط 7 في المائة من المستطلعين، في أن تؤدي الدولة دوراً أقل. والثقة متدنية بالمؤسسات السياسية والقانونية، وانخفضت أكثر عما كانت عليه قبل خمس سنوات، بينما يحظى الجيش بالثقة الأكبر، خصوصاً في الدول ذات الانتماءات القبلية. ففي ليبيا واليمن بعد اشتعال الحروب، يقول الشباب إنهم يثقون بقبائلهم أكثر من ثقتهم بدولتهم. وحين يُسألَون عن النظام السياسي الذي يرغبون فيه، نجد أن نسبة المطالبين بنظام ديمقراطي، قد انخفضت عما كانت عليه قبل خمس سنوات، وعبرت الغالبية عن حاجتها إلى «رجل قوي يحكم البلاد».

ويرغب ثلثا الشباب المسلمين الذين شملهم الاستطلاع، في أن يؤدي الإسلام دوراً أكبر في الحياة العامة. وقد زادت النسبة عما كانت عليه قبل خمس سنوات بمقدار عشر نقاط، وهو تحول ملموس ولافت. وصلت نسبة الذين يريدون دوراً أكبر للدين في فلسطين إلى 90 في المائة، وفي الأردن إلى 84 في المائة، وتحظى - بحسب الدراسة - أفكار الجماعات الإسلامية بشعبية بين الشباب. وهذا يظهر أكثر بين الذين لم يغادروا بلادهم منه عند الذين قضوا وقتاً خارج أوطانهم. كما أنها رغبة موجودة بنسبة أكبر عند الطبقة المتوسطة، التي عبر 70 في المائة منها عن رغبتهم في رؤية الدين يلعب دوراً أبرز في حياتهم، بينما انخفضت النسبة إلى 62 في المائة عند الطبقة الفقيرة أو الغنية. مع ذلك، تبقى نسبة عالية جداً قياساً إلى مجتمعات أخرى.

مفعمون بالأمل لا بالرضا

ومقارنة بالدراسة التي أجريت منذ خمس سنوات، ورغم الظروف الصعبة التي استجدت بقي الشباب محتفظاً بالأمل، وهو أمر مثير للاهتمام. باستثناء النازحين السوريين في لبنان واللبنانيين الذين انخفض بينهم قليلاً الشعور بالأمل، فإن عدد المتشائمين لم يرتفع في العالم العربي، بالقدر الذي يمكن تصوره. على العكس، نصف الجزائريين متفائلون وأكثر من الثلثين في تسع دول أخرى. رغم حالة عدم اليقين الشديدة التي تعيشها بلادهم، يبقى الشباب العربي متفائلاً في رؤيته للمستقبل. ففي جميع الدول التي أجري فيها الاستطلاع، 58 في المائة من الشباب يميلون إلى التفاؤل، و15 في المائة فقط هم من عبروا عن تشاؤمهم، وثلثا الذين سئلوا، قالوا إنهم «واثقون تماماً» أو «إلى حدٍ ما» من تحقيق رغباتهم وطموحاتهم المهنية. لكن هذا لا يعني أن الشباب يشعرون بالرضا عن أوضاعهم والحياة التي يعيشونها، فالتفاوت الطبقي والبطالة والنزاعات المسلحة كلها مصدر قلق، مع ذلك، فإن الشباب في مصر مثلاً رغم معدلات الفقر العالية، أكثر رضا من دول أكثر غنى مثل العراق أو الجزائر، واللاجئون السوريون في لبنان رغم أوضاعهم الحرجة أكثر رضا عن معاشهم من اللبنانيين أنفسهم. ويأتي السودان، حتى في دراسة أجريت قبل الحرب، في مؤخرة اللائحة.

الإعلام ينقل الأخبار السيئة

لا مفاجأة في أن 90 في المائة من المستطلعين يمتلكون هاتفاً ذكياً، وإن انخفضت النسبة قليلاً في اليمن والسودان. لكن الثقة بوسائل الإعلام التقليدية، لا تتجاوز في المتوسط 14 في المائة حين يتعلق الأمر بالمواضيع السياسية، أما أعلى نسبة ثقة فهي في المغرب ولا تتجاوز 26 في المائة. وعكس المتوقع، الثقة بوسائل التواصل ليست أفضل حالاً في ما يتعلق بمواضيع السياسة؛ إذ تبقى عند 16 في المائة. وعلى أي حال، ثلاثة أرباع الشباب يحصلون على معلوماتهم من وسائل التواصل، ويرون وسائل الإعلام بشكل عام، أدواتٍ لنقل الأخبار السيئة.

ورغم الكلام الكثير على الدور السياسي لوسائل التواصل وأهميتها التعليمية، وتعزيزها فرص الحصول على العمل، فإن هذه الدراسة تبين أن الشباب العرب يستخدمون هذه الأدوات بشكل أساسي للتواصل مع عائلاتهم وأصدقائهم، وبدرجة ثانية للاسترخاء وملء وقت الفراغ. وعلى الأرجح أن وسائل التواصل تهدئ الشباب ولا تشحن ثورتهم وغضبهم.

الإيمان أولاً

وحين طُلب من المستطلعين وضع علامة على عشرة فيما يخص إنجازات الحياة التي يريدون تحقيقها، جاء الإيمان بالله على رأس اللائحة، تلاها العثور على شريك ذي ثقة، ثم الشعور بالأمان، تلتها الصحة والمثابرة. ثم نجد الاستقلال المادي والالتزام بقانون الشرف والعار، في الخانة نفسها، وجاء في آخر اللائحة إنجازات من صنف المشاركة في السياسة أو إرضاء الآخرين، أو امتلاك السلطة، أو الانقياد للمشاعر الذاتية.

أما الهجرة بالنسبة للشباب العربي، فهي ليست فقط لأسباب اقتصادية ومالية، بل تحولت في بعض البلدان نوعاً من العادة، وتسجل الدراسة تغيراً في وجهتها؛ إذ لم تعد الدول الغربية هي الهدف الأول، وحلّ مكانها دول الخليج العربي بنسبة 14 في المائة، مقابل 9 في المائة لأوروبا، 6 في المائة إلى آسيا، و3 في المائة إلى أميركا الشمالية ودول جنوب الصحراء.

وتنمو الرغبة في الهجرة في كل من تونس، ولبنان وسوريا لتصل إلى 20 في المائة ومستقرة عند 5 في المائة في مصر والمغرب.

شارك في الدراسة الاستطلاعية 11 باحثاً وباحثة من ألمانيا وشملت11 دولة عربية

لكن هذه الرغبة لا تشهد نموا يذكر في مصر والمغرب؛ إذ لا يتجاوز معدل 5 في المائة، مقارنة بتونس ولبنان وسوريا، التي يتضاعف فيها معدل الرغبة المؤكدة في الهجرة ويقترب من نسبة 20 في المائة.

ويُعدّ الأردن الاستثناء الوحيد من بين دول المنطقة التي شملتها الدراسة، الذي يُسجَّل به تراجعٌ كبيرٌ في معدل الرغبة المؤكدة في الهجرة لدى الشباب، وهو ما يجد تفسيره في إحساس الشباب بأن لديه فرصاً في بلاده، وبأنه لا يشعر بدرجة إقصاء أو تهميش كبيرة.

كما يرصد الباحثون ظهور نوع من ثقافة «الاعتياد على الهجرة» لدى الشباب في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بيد أن الدراسة تسجل أيضاً تحولاً مهماً في البلدان أو المناطق المقصودة لدى الشباب، اعتماداً على تجاربهم الشخصية في الهجرة. إذ تأتي دول الخليج العربي في المقدمة بنسبة 14 في المائة، مقابل 9 في المائة بأوروبا، وبنسبة 6 في المائة في آسيا، ونسبة 3 في المائة في أمريكا الشمالية ودول جنوب الصحراء.

وشارك في الدراسة 11 باحثاً وباحثة من ألمانيا من تخصصات أكاديمية وحقول متعددة من مناهج العلوم الاجتماعية، كما تمت الاستفادة مما يزيد على مائتي عنوان كتاب ودراسة لباحثين ومراكز دراسات ومؤسسات دولية، حول أوضاع الشباب في العالم العربي.

ويمزج مؤلفو الدراسة في أبحاثهم بين أدوات البحث التجريبي والواقعي لأوضاع الشباب الشخصية والمجتمعية والتحليل الموضوعي للظواهر والسياقات التي يعيشون فيها محلياً وإقليمياً. وهو ما يضفي على هذا العمل البحثي ثراءً في المعلومات والمعطيات عن تضاريس حياة الشباب في الدول العربية، مدعمةً بعشرات الرسوم البيانية، ونظرة تحليلية معمقة لاتجاهات التطور في الأفكار والقيم والعلاقات في المجتمعات العربية.

وتتبع الدراسة عملاً بحثياً سابقاً كان بحجم أقل تم إنجازه في سنتي 2016 و2017؛ وهو ما يشكل أرضية مناسبة برأي المشرفين على الدراسة لإجراء مقارنات واستنتاج اتجاهات تطور الأوضاع في المجتمعات العربية.