آر. إس. توماس... الطبيعة والفلاح

ربع قرن على رحيل الشاعر والكاهن الويلزي (1-2)

أر.أس. توماس
أر.أس. توماس
TT

آر. إس. توماس... الطبيعة والفلاح

أر.أس. توماس
أر.أس. توماس

في سيرته الذاتية، التي توزعت على أربعة أجزاء، يخبرنا الشاعر والكاهن الويلزي آر.إس. توماس، الذي يمر هذه السنة ربع قرن على رحيله عن 87 عاماً، والذي رُشح عدة مرات لجائزة نوبل من دون أن يحصل عليها، كيف قضى طفولته على ساحل ويزال في منطقة تششير، وهو يحدق من بعيد إلى ويلز، حيث ولد. في السادسة من عمره، انتقلت عائلته إلى هوليهيد، حيث عمل والده في سفن تبحر ما بين ويلز وآيرلندا. وهو يذكر أيضاً كيف أن صداقته مع أطفال المنطقة، وهم يكتشفون ساحل البحر القريب، قد فتحت عينيه على مكان ساحر وفاتن.

يكتب في مذكراته عن هذه التجربة:

«تجربة خاصة، تتسلل أحياناً في الظلام، لتقف تحت النجوم بينما ريح البحر تولول حول البيت الصامت... بعد يوم صيفي كهذا، ترى إكليلاً على كل شيء متجه نحو البيت خلال الغسق الذي كان مغموراً برائحة العشب وأزهار الشجيرات الغنية بالرحيق مع طير السبد الذي يغني بشكل متواصل على أجمات السرخس».

مسألة «الحدود الفاصلة»، سواء أكانت الحدود الطبيعة للبحر، أو تلك الفاصلة بين إنجلترا وويلز، استمرت تؤرق توماس أثناء دراسته اللاهوت في كلية «سنت مايكل»، في ضاحية لانداف التابعة لكارديف، عاصمة ويلز. وبعد ترسيمه، أصبح توماس كاهناً، وكانت أبرشيته الأولى في مانافان، على حدود ويلز، وهناك كتب مجموعته الأولى «أحجار الحقل»، والثانية «فدان من الأرض».

والطبيعة عند توماس ليست مكاناً جغرافياً. إنها رمز، فهو ليس شاعر طبيعة، بالمعنى الرومانسي للعبارة، فما يهمه هو الإنسان أولاً. الطبيعة بالنسبة له، ليست كما هي بالنسبة لوردزورث، ليست شيئاً موضوعياً، بل ذاتي، يقول:

«سيهزل الجلد عندما يتهرأ بفعل الشمس والماء المالح، ولكن قدح ماء بارد قبل النوم سيكون رائعاً، سيكون الشرشف الأبيض ناعماً ومأموناً. السماء والبحر سيشحنان بالأزرق، وهذا رمز على أن العبء قد انزاح عن الروح بعد فترة من اليأس».

في قصيدته «طفل الحقل»، يعبر توماس عن هذه اللحظات: عن التفاعل بين الطبيعة والفلاح، وكيف تعيد الأرض تشكيل الجسد والروح، وتحيي النبات الموات. وسنرى أن الفلاح والنبات قد امتلآ معاً في الوقت نفسه بنعمة الطبيعة:

انظر إلى صبي القرية هذا... رأسه محشو

بكل الأعشاش التي يعرفها، وجيوبه بأزهار

وصدفات حلزونات، وكسر من زجاج...

ثمار ساعات قضاها في الحقول بين كتل الشوك.

انظر إلى عينيه لترى زهرتي زنبق تختبئان هناك،

لاحظ كيف نمّشت الشمس وجهه الناعم

مثل بيضة عصفور تحت خصلة شعره

التي تتحدى الريح

لاحظ وقاره، وهو وسط الجموع.

من نعمة معطاة كهذه

تتوالد الأرض وتغري المحراث العنيد

لكن رؤية توماس للطبيعة أبعد ما تكون عن العاطفية. فهو يدرك تماماً الجوانب المظلمة للعالم الطبيعي، وأن لحظات التناغم بين الإنسان والطبيعة نادرة جداً. في هذه المرحلة، نستطيع أن نلاحظ مواقف مختلفة في تقديم الشاعر للطبيعة والإنسان.

في مجموعته الأولى «أحجار الحقل»، نرى قسوة حياة الفلاح التي تفرضها الطبيعة، التي لم تعد «تشارك في تنمية الحياة، أو تحقق البعث» لفلاح الحقل الذي أصبح عبداً للأرض.

لم يعد هناك «تحت العشب الساطع شيء سوى عظام الفلاح الجافة». لم يعد باستطاعة الشاعر أن يمجّد الأرض كما كان يفعل في قصائده السابقة، بل بدأ يعكس الوقائع القاسية، المتجذرة في أرض لا ترحم.

لم يعد الفلاح ولا النبات يتمتعان ببركة الطبيعة، بل، على العكس، بدأت الطبيعة ترسل رسائل الخوف والكراهية:

اتركها، اتركها - الثقب تحت الباب

ليس سوى فم تتحدث من خلاله الريح الجافة

حتى بحدة أكثر.

يد العمر الباردة تكتب على عجل

بحروف غامضة

رسائل الكراهية والخوف.

بعد أن يرسم الشاعر صوراً للأرض الحارقة، والمطر البارد الذي يبدأ في الصيف، وصورة الشتاء بطينه المراكم فوق محور العربة، يعبر عن شكه العميق بأن الأرض سوف تنجد الأهالي، الناجين الأخيرين من أفعال السماء المدمرة. بدلاً من ذلك، تدمرهم الأرض بتيارات من المد والجزر، وكأنها تسخر منهم:

اتركها، اتركها-

مطرها يتساقط ليل نهار

من السقف المرقوع

المحني تحت ثقل السماء

هل ستنجد الأرض، ويناصر الزمن

الناجين الأخيرين هؤلاء؟

هل سيشفي عشب الربيع

جراح الشتاء؟

العشب يتلفها بتيارات مده وجزره

المتصاعد من المدخنة

شرائح لحم مثل الدخان

محترقة تسفعها في طريقها

خلال الأخشاب المتهالكة

إنه مزاح الطبيعة.

تصدعت جوانب الهيكل القديم

ولكن ليس بانبساط!

في قصيدته «فلاح الأرض يتكلم»، نجد أن الفلاح مجرد من الحب، والرويّة، وبركة الأرض: الطبيعة قاحلة وقاسية، والريح تعصف بمراعي التل عاماً بعد عام، والنعاج تجوع، إذ ليس هناك عشب ينمو، والفلاح يجوع، «لأن الربيع لا يزهر في عروق جافة».

لكن الشاعر بكرامة وكبرياء الفلاح الذي يصارع الأرض الجرداء... هذا الفلاح الذي هو أكبر من شجرة السنديان، والذي «عيناه بلا لون، ومع ذلك فهما صافيتان وحادّتان»، وهو يستطيع أن يعلمنا الحكمة بالصمت أكثر مما يفعل بالكلام:

انظر إلى خصلات شعره التي تركتها الريح الباردة

بتردد خفيف للشمس كي تخترقها

لاحظ فمه الجاف مثل الطير

الذي يرفرف ثم يسقط الآن على الباب المتصدع

للنفايات... جاف؟

لا يزال، هذا الرجل يستطيع أن يعلّمنا

في صمته وهو عجوز

أكثر من أغانيه وهو شاب.

حتى مثل شجرة سنديان عندما تكون أوراقها سقيفة.

مواقف متناقضة

في قصائد أخرى، يعبر الشاعر عن موقف مختلف، حتى يبدو أنه متناقض. فنحن نرى أن ظروف الجفاف تترافق الآن بإحساس مروع بالإفقار والفراغ الذهني عند المزارعين. لم يعد الشاعر يضفي صفة مثالية على الفلاحين، بل بدأ يدرك الفرق الشاسع بين الفكرة والواقع. إن فلاحي توماس يختلفون عن فلاحي ووردورث، الذين هم أكثر نبلاً.

فلاحو توماس حمقى، بغيضون، رخيصون، تافهون، وناس ذوو «أرواح لئيمة» لأن «سياج الشجيرات» هو الذي يرسم «حدود الروح». إنهم لن يتمتعوا بالجمال والنعمة اللتين تمنحهما الطبيعة. وهذا ما يصيب الشاعر بالخيبة والغضب أيضاً:

لقد خذلتني أيها الفلاح

منذ اليوم الذي رأيتك فيه تتسكع مع الأبقار

أنت نفسك واحد منها، لكن بسبب الابتسامة

المبهمة مثل ضوء قمر، المنعكسة على وجهك

من مصدر معتم، أخطأتُ طبيعته

بدأ الشاعر يدرك أن أفكاره السابقة حول نبل الفلاحين لم تكن سوى أوهام، وأنهم فقدوا صلتهم مع الأرض، ولهذا السبب «سوف لن يتعلموا حكمتها»:

نعمة التلال يكسيها الضوء

جمالاً برياً، لذلك ظننت،

وأنا أراقب استيقاظك البطيء

وسط بحور من الندى

أنك ترتدي الجمال نفسه بحكم الولادة.

وما يحزن قلب الشاعر فقدان الفلاحين قرابتهم مع الأرض، ولهذا السبب فإنهم لن يتعلموا حكمتها:

أساليبك الجنونية، غير الطبيعية وغير الإنسانية،

لا يمكن قبولها، وتدينها مكانة الإنسان المحتملة.

شيئان اثنان يمكن أن يخلصاك من جهلك: الجمال والنعمة،

وهما ما تجهد الأشجار والأزهار أن تعلمهما

لن يكونا لك أبداً، لقد أوصدت قلبك دونهما.

يرى الناقد راندل جينكنز أن هذه القصيدة لا توحي فقط بـ«تشييع الشاعر للفلاح، وإنما لأي ثقة زائدة بالشرط الكوني لحياة الريف الوضيعة». لكن الأمر على عكس ذلك تماماً. فالشاعر يؤمن بأن كبرياء وكرامة الفلاحين تكمنان في إطاعة قوانين الأرض، وأن تحقيق الانسجام بينهم وبين الأرض، الشكل الأكثر طبيعية للوجود، سينقذ ليس الفلاحين فقط، وإنما كامل الجنس البشري، كما نرى في المقطع التالي:

احلم حلمك، وأطع قواعد الأرض

رتّب حياتك وإيمانك. عندها

ستكون الرجل الأول في المجتمع الجديد

وعلى أي حال، وكما ذكرنا، يبدو الشاعر في هذه المرحلة مليئاً بالغضب على المزارعين، وسكان الريف عموماَ، هؤلاء «الذين تغذيهم الخرافات»، والذين لا يحبون حتى الأرض التي تحضنهم:

ها هو يمضي

نفسك أمام فيضانات الحقول المضطربة

ماذا فعلت القرون؟

الأثواب نفسها، تتهرأ في الضوء،

أو يشقها المطر، تتشبث بهياكل طافية قذفتها الرياح

وتخزيه في عيون طيور الراتينجية.

الفلاحون في هذه القصيدة يقودهم الجهل، ثم الحاجة، وهم الآن يقادون بالعادة. وعلى الرغم من أنهم موجودن منذ بداية الحياة، لكنهم ينكرون الأرض، ولذلك هم لا يستحقون شيئاً:

في البداية كان الجهل، ثم الحاجة،

والآن، العادة التي تجعّده على أجمة سحابة

الحياة تسخر منه، بينما موجات البشر الصاخبة

تضج بعيداً على حافة العالم.

إنه هنا منذ ابتدأت الحياة،

حركة غامضة بين جذور العشب الطري.


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.