عمر بن أبي ربيعة شاعر الأنوثة الهاربة والعبث المأساوي

علاقاته المتعددة وبوحه العاطفي لا يضعانه في خانة «الإباحية»

عمر بن أبي ربيعة شاعر الأنوثة الهاربة والعبث المأساوي
TT
20

عمر بن أبي ربيعة شاعر الأنوثة الهاربة والعبث المأساوي

عمر بن أبي ربيعة شاعر الأنوثة الهاربة والعبث المأساوي

قلّ أن ارتبط اسم شاعر عربي عبر العصور بالمرأة والحب، كما هو حال عمر بن أبي ربيعة. لا بل إن هذا الاسم بالذات استطاع أن يكتسب صفات وترجيعات لها وقع السحر في الوجدان العربي الجمعي، وأن يصبح رمزاً بالغ الفرادة لكل ما يتصل بفوران الروح والرغبات الحسية والاحتفاء بالحياة. ومع أن الافتتان بالجمال الأنثوي كان سمة مشتركة بين كثير من الشعراء الذين سبقوه، إلا أن عمر وحده هو الذي احتفظ من دون الآخرين بلقب شاعر الحب والغزل، ولم يستطع أحد مجاراته في ذلك، سوى نزار قباني في العصر الحديث.

عمر بن ربيعة في صورة متخيلة
عمر بن ربيعة في صورة متخيلة

وإذا كانت الظواهر الإبداعية لا تدين بنشوئها للصدف المجردة، بل هي ثمرة تقاطع خلَّاق بين الموهبة الفردية والشرط الاجتماعي والتاريخي، فإن من حق المتابع المتأمل أن يتساءل: لماذا عمَر بالذات؟ ولماذا تكونت ظاهرته في تلك الحقبة الزمنية، وفي حواضر الحجاز دون سواها من الأماكن؟

والواقع أن انتماء عمر إلى بني مخزوم، وهم بعض أكثر بيوتات قريش ثراءً ومَنَعَةً وكرماً، يعكس الرفاهية والدلال اللذين حكما حياة الشاعر وجعلاه ممتلئاً بنشوة العيش. وينقل الأصفهاني عن عبد الله، والد عمر، أنه كان الأكثر ثراءً في قومه، وأنه بعد إسلامه كان يكسو الكعبة من أمواله الخاصة مرة كل سنتين.وفي حين خلّف انتقال مركز الخلافة إلى الشام، جرحاً لا يندمل في نفوس الحجازيين الذين تم تهميشهم وإخراجهم من المعادلة السياسية، فقد واجه عمر هذا التهميش بانصرافه إلى العشق والحب، مجسداً اندفاعة جيل الشبان من أرستقراطيي قريش نحو افتراع الحياة والعبّ من ملذاتها المختلفة. وإذا كان زهو الشاعر بنفسه جزءاً لا يتجزأ من طباع بني مخزوم وتكوينهم النفسي الجماعي، فقد أسهمت وسامته البالغة في شعوره بالزهو، ورفعت منسوب نرجسيته إلى حدوده القصوى، بحيث بات يرى العالم بأسره انعكاساً لصورته في المرآة.

ويكفي أن نعود إلى ديوان عمر لكي نعثر على عشرات الشواهد الدالة على خيلائه. فحبيبته لا تملك حين تتعثر في المشي، سوى مناداته باسمه لكي تستعيد التوازن:

وإذا ما عثرت في مرْطِها

نهضت باسمي وقالت: يا عمر

والنساء اللواتي تناهى إليهن صيته عاشقاً مفرطاً في الوسامة، يتدافعن لرؤيته من خلف نوافذ بيوتهن:

وكنَّ إذا أبصرنني أو سمعن بي

سعيْن فرقّعنَ الكِوى بالمحاجرِ

وقد يكون إلباس عمر لنفسه لبوس الفاتح المظفَّر الذي يغزو بلا هوادة قلوب معجباته الكثيرات، نوعاً من المحاكاة الرمزية لسطوة السلطة السياسية التي لم يملك الشاعر، ولا الجماعة الحجازية القدرة على مواجهتها بالسلاح، فاختار أن يواجه جبروتها الفحولي، عبر فحولة موازية تتوسل لتحقيق أهدافها سلطة اللغة وسحرها المغوي.

كما يتمثل الطابع الإشكالي لتجربة الشاعر في اختلاف النقاد حول العلاقة بين شعره وسلوكه. ففي حين يُنسب إلى صديقه ابن أبي عتيق قوله: «ما عُصي الله عز وجلّ بشعرٍ أكثر مما عُصي بشعر ابن أبي ربيعة»، وإلى هشام بن عروة قوله: «لا ترووا لفتياتكم شعر عمر بن أبي ربيعة حتى لا يتورطوا في الزنا تورطاً»، لم يتردد الشاعر نفسه في تأجيج البلبلة المثارة حول ذلك، بحيث كان يعترف بالشيء ونقيضه في آن. فإذ سأله سُمرة الحميري، وقد التقاه شيخاً في الطواف: «أكلُّ ما قلته في شعرك فعلته؟»، أجابه عمر قائلاً: «نعم، وأستغفر الله». في حين أنه صرح في شيخوخته: بـ«أنه لم يكشف ثوبه عن حرامٍ قط». فضلاً عن إشارته إلى أن ولعه بالنساء لم يعدُ كونه مطاردة عن بُعد للجمال المطلق:

إني امرؤ مولعٌ بالحسْن أتبعه

لا حظَّ لي فيه إلا لذة النظرِ

أما نعت عمر من النقاد بالشاعر الإباحي، فهو لا يجد سنداً له في قصائده ومقطوعاته، حيث لا مكان في معجمه الشعري للبذاءة والفحش والتهتك. فرغم شغف عمر الحسي والشهواني بالمرأة، فإن هذا الشغف ظل في الإطار الضيق الذي التزم به العذريون في قصائدهم، ولم يتعدَّ حدود العناق والضم واللثم.

كما تتجلى منطقة التشابك النفسي والفني بين عمر وبين العذريين، في الكثير من النصوص التي تُنسب إلى الطرفين معاً، كالأبيات التي قالها في معشوقته الرباب، وتُنسب في الوقت ذاته إلى كثيّر عزّة، ومنها:

أفقْ قد أفاق العاشقون وفارقوا

الهوى واستمرّت بالرحيل المرائرُ

وهبْها كشيء لم يكنْ أو كنازحٍ

به الدار أو من غيّبتهُ المقابرُ

إلا أن تقاطع الرؤيتين إلى المرأة والحب، يبدو أكثر وضوحاً في تجربتَي عمر وجميل بثينة، بحيث تحيل نصوصهما إلى المكابدات ذاتها والألم إياه. وقد يتعدى التشابه بين الطرفين حدود الكتابة على البحر ذاته والقافية إياها، ليتشاركا المضامين والمعاني، حيث كل منهما مطارَد ومهدَّد بالقتل. فإذ يقول جميل:

أحِلماً؟ فقبل اليوم كان أوانه

أم أخشى؟ فقبل اليوم أوعدتُ بالقتلِ

يقول عمر في المقابل:

جرى ناصحٌ بالودّ بيني وبينها

فقرّبني يوم الخضاب إلى قتلي

ومع ذلك فإن تجربة عمر لا تقل في عمقها الأخير مأساوية عن تجربة جميل ورفاقه العذريين. فإذا كان جرح الثاني وليد حرمانه من بثينة، وافتقاره إلى حضورها الباعث على السكينة، فإن جرح الأول أبعد غوراً وأصعب التئاماً، لأن المنادى في حالة جميل يقتصر على امرأة واحدة هي بثينة، أما المنادى لدى عمر فلا يقتصر على «نُعم» وحدها، بل يتعدى النساء الأربعين اللواتي ذكرهنّ في شعره، ليطول كل نساء الكوكب.

ورغم ما أصابه في مغامراته النسائية من نجاحات، فقد كانت لدى عمر ما يشبه عقدة النقص العاطفي وعدم الشعور بالامتلاء، التي سُميت بعد قرون «عقدة الدون جوان»، (ومن المفارقات الغريبة أن يكون لعمر ولد اسمه جوان!). ولذا كان يكفي الشاعر المحبوب من عشرات النساء أن ترفضه امرأة واحدة، لكي تُفقده اعتباره لنفسه، فيشعر بأنه فاشل ومهزوم، ويجدّ في طلبها بأي ثمن. فهو لم يضطر إلى الزواج من كلثم المخزومية إلا لأنها رفضت بإصرار أن تلتقيه إلا تحت سقف الزواج الشرعي. وهو لم يتعلق بالثريا كل ذلك التعلق إلا لأنها، رغم حبها له، لم تستسغ عبثه المفرط وتعدد علاقاته. وحين تزوجت من سواه بدا شعره فيها مشوباً بكثير من الحسرات. وهذا ما حدث له أيضاً مع فاطمة الأشعث، التي خطبها في موسم الحج، فرضيت شرط أن يتبعها إلى وطنها العراق، وحين فعل أوصدت بابها في وجهه.

وككل مولع بالنساء، كانت مأساة عمر أن جسده أقل بكثير من ظمأ روحه، وذراعيه أقصر بكثير من رغباته، وقدميه لا تكفيان لبلوغ الأنوثة الأبدية التي ظل سرابها يلمع في أقاصي العالم. وقد يكون أبلغ ختام لهذه المقالة، هي الصورة التي رسمها لنفسه، ضلِّيل النساء وشريدهنّ الأبديّ، حين قال:

رأت رجلاً إما إذا الشمس عارضتْ

فيضحى وإما بالعشيّ فيخصرُ

أخا سفرٍ جوّاب أرضٍ تقاذفتْ

به فلواتٌ فهو أشعثُ أغبرُ


مقالات ذات صلة

المدينة الفاضلة

ثقافة وفنون المدينة الفاضلة

المدينة الفاضلة

كان الصينيون القدامى يتركون عظام جنودهم الذين سقطوا في الحرب، عند أسس بوابات المدينة ومبانيها الرئيسية.

حيدر المحسن
ثقافة وفنون الذاكرة مرتع للكتابة

الذاكرة مرتع للكتابة

فاز كتاب «يغتسل النثر في نهره» بجائزة «أبو القاسم الشابي» في تونس في دورتها الثلاثين 2024، الديوان الشعري الصادر عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع (الأردن).

رشيد أزروال
ثقافة وفنون «الليلة الكبيرة»... الواقع والفانتازيا يمتزجان عبر لغة ساخرة

«الليلة الكبيرة»... الواقع والفانتازيا يمتزجان عبر لغة ساخرة

يستدعي عنوان رواية «الليلة الكبيرة» للكاتب محمد الفولي حالة من الحنين أو «النوستالجيا» لأوبريت مسرح العرائس الأشهر الذي يحمل الاسم نفسه وتربت عليه الأجيال

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون استعادة الهوية الممحوة

استعادة الهوية الممحوة

رواية «العائد من غفوته» للروائي جاسم عاصي، الصادرة عام 2024، رواية موجعة ومحتشدة بالمعاناة والفواجع الشخصية لبطلها سعيد الناصري، الذي تحول بطلاً تراجيدياً

فاضل ثامر
ثقافة وفنون «مكتبة الكلمات المفقودة»... رواية إنجليزية عن الولع بالكتب

«مكتبة الكلمات المفقودة»... رواية إنجليزية عن الولع بالكتب

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «مكتبة الكلمات المفقودة» للكاتبة ستيفاني باتلاند، ترجمة إيناس التركي، والتي تتناول حالة خاصة من الولع بالكتب من خلال شخصية…

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)

المدينة الفاضلة

المدينة الفاضلة
TT
20

المدينة الفاضلة

المدينة الفاضلة

كان الصينيون القدامى يتركون عظام جنودهم الذين سقطوا في الحرب، عند أسس بوابات المدينة ومبانيها الرئيسية. ثم يذبحون كلابهم ويرشّون دماءها على العظام، فتتلوّن وتتشبّع بها. من مزيج عظام الجنود الشجعان، مع حرارة قلوب كلاب الحراسة، تنبعث قوى سحريّة تدافع عن المدينة ضدّ الأعداء.

في زماننا لا تجري هذه الطقوس. لكننا نحصل بالمقابل، من خلال امتزاج عرق الأسلاف، مع بخار نباح الكلاب المتشردة، وعطور دمها أيضاً ودموعها، بالإضافة إلى قيئها وبقية فضلاتها، وهي حية وميتة، تتشكّل من هذا الخليط قوى سحريّة تقوم بغرس الحياة الروحيّة في المكان، وتحافظ عليها ما دامت كانت المدينة قائمة.

الكلاب في حقيقة أمرها، بالبراءة في العينين، والسكينة في الطبع، وتوّحشها مع الغرباء أيضاً، كأنها أطفالنا الذين سوف يحملون الأعباء عنّا في المستقبل. لقد نشأت فلسفة جديدة وغدت هي الزيّ الشائع؛ الأطفال يشبّون، وربما غادروا إلى خارج البلاد، أو حادوا عن الطريق، وفي أحسن أحوالهم فإنهم يشبهون الكلاب في دروب المدينة، وهي تزرع اللطافة والحُسن. إن أيّ مساحة وتفصيل من شارع أو مبنى، وبسبب الحياة الغزيرة والثرّة في المدينة، بإمكانهما أن يؤديا دور متحف تتجدّد فيه المعروضات الفنيّة كلّ ساعة، مع ألبوم من الصور يمثّل الناس الطيّبين (يا للعبارة الكونيّة التي لا يلمّها وصف: الناس الطيّبون). صحيح أن هؤلاء يموتون، لكنهم يتناسلون، وما ينفكّ أحفادهم يسيرون وفق هذه الطِباع والعادات. تحصل هجرات في كلّ زمن من أماكن أخرى، لكنّ البشر يشبه النبات، يتربّى على الهواء والماء وضوء القمر، فهو ابن المكان أكثر منه سليل أسلافه.

والمدينة العظيمة أيضاً ليست شيئاً من هذا العالم؛ لأنك ترى فيها كلّ أنماط الحياة، وتتحقق فيها كذلك رغبات الجميع؛ الدنيوية والصوفية، بالإضافة إلى ميول أهل الفن وشهواتهم، مهما بلغ تهوّرهم وجنونهم وشذوذهم، وتعطّشهم لابتكار رغبات جديدة. يقوم الأدب الحديث على الخيال؛ لأن جلّه من إبداع أبناء المدينة، يوسّعون به أفق القارئ ومداركه، فإن جاء واقعياً صرفاً، كان بلا روح. عن ألبير كامو: «الكلمات تفرغ من معناها، حين ينام الخيال».

كان هذا النوع من المدن شائعاً في الشرق والغرب، لكنه أخذ ينحسر أو يختفي؛ بسبب تضافر جهود هندسة ما بعد الحداثة، على أن تكون المباني والمنشآت شبيهة بأقفاص الدجاج البيّاض. البشر فيها بجثامين متماثلة، يقومون بالأفعال ذاتها، وتقدّم لهم ثقافة استهلاكية واحدة، ويتبعون وصفات طعام جاهز ومعلّب، وكلّ شيء تقوده آلة إعلانية جبارة، بإمكانها طمس الجمال الحقيقي، وإعلاء شأن الدمامة والقبح. توائم هذه الطريقة من العيش لا أحد غير رجال المال والأعمال، ويصحب هؤلاء حتماً المقامرون، وبنات الهوى، والمتصابون من الرجال بصورة خاصّة. إن علينا انتظار مئات أو ألوف السنين، المدة الكافية لكي تفعل القوى السحريّة – على أن يكون البنّاءون من أهل البلاد، فإن كانوا مستوردين من الخارج، يبطل السحر حتماً.

الناس الطيّبون باستطاعتهم الخلق من أيّ مكان، وإن كان معتقلاً مرهوباً ومنسيّاً، وطناً جميلاً وفردوساً أرضيّاً؛ لأن وداعتهم انطبعت في زواياه، فهو يتّسم بها. هل يمكننا تصوّر مدينة تخلو من الناس الطيبين؟ مطلقاً. لأن هؤلاء يشكلون الدعامة الأساسية لحياة مستقرة ومهيبة. بقية الدعامات والروابط التي تشدّ أجزاء المجتمع، تكون في العادة متناثرة أو عشوائية وغير مهمة. هل أجازف وأقول لا وجود للناس الطيّبين في المدن الحديثة؛ أقفاص الدجاج البيّاض؟

القوى السحريّة التي مرّ ذكرها هي السرّ في أن كلّاً منّا مكبّل ببلده، مثل طائر في قفص. هناك من يفتح لنا نافذة فنرتحل لأسبوع أو أكثر، ثم نعود إليه حتماً، فإذا رحنا نفتّش عن ملاذ في بلاد أخرى «متخبطين مثل حصاة دحرجت من مكانها» – التعبير لجورج سيفيريس - انتقل معنا سجننا الباهر هذا بمحض إرادتنا، وهذا هو تفسير قصيدة «المدينة» الشهيرة لكافافيس: «سأذهب إلى بلاد أخرى، سأذهب إلى ضفة أخرى سأجد مدينة أفضل كلّ جهودي محتومة بالفشل فقلبي متمدّد ومدفون هنا».

يقوم الأدب الحديث على الخيال لأن جلّه من إبداع أبناء المدينة وهم يوسّعون به أفق القارئ ومداركه

القراءة الأولى للقصيدة فيها هجاء للمدينة الأم، لكن المقاربة النقدية تكشف عن مديح هادئ النبرة. الانتقال إلى مدينة أخرى لا يُبطل القوى السحريّة، فهي السبب في دوام نعمة السجن الذي نختفي بين ظلاله، ومفتونون نحن بجدرانه. ثمة بهجة حزينة في هذه الأبيات، التي نحفظها جميعاً عن ظهر قلب، مع نوع من الأسى الناعم:

«لن تجد بلاداً جديدة، أو تجد ضفةً ثانية هذه المدينة ستطاردك. سوف تمشي في الشوارع نفسها. تشيخ في الأحياء نفسها ستُصبغُ رماديّاً في المنازل نفسها».

يبدو الأمر غريباً، لكنه الواقع؛ قوى السحر هذه يكتشفها السائح في المكان، فهي غائبة عن رؤية ابن البلد. ربما بسبب خاصيّة الإخفاء التي يؤدي إليها تكرار وقوع عين الإنسان على الشيء، فكأنما وجوده وعدم وجوده سيّان. لتوضيح القصد، أستعير شيئاً من شعر اليوناني يانيس ريتسوس، لا لكي أثبّت ما توصّل إليه، بل إلى نقضه:

«يدٌ شاحبة

تخلع المسمار

تهوي المرآة

يهوي الجدار.

يصلُ السائحون

وتُلتقط الصُّور الفوتوغرافية».

يحاول ريتسوس هنا، وعبر فذلكة شعرية، إقناعنا أن السائح غريب ومنقطع عن المكان، فهو يتنقل معصوب العين، مثل آلة حديدية في البلاد التي يزورها، بينما يُثبت الواقع العكس. السحر الخاصّ بالمدينة يكون في العادة ذائباً في دماء أهلها، ولا يستطيع أحد رؤية ما يجري في عروقه، كما هو معلوم. غير أن خاصيّة الإخفاء التي تقوم بها عين الإنسان، بسبب مداومة النظر وتكراره اللاشعوري، تكون معطّلة لدى الزائرين للبلدة، فهم الوحيدون القادرون على اكتشاف السحر، وبهذا تكون القصيدة بنسقها الصحيح: «يدٌ شاحبة تثبّت المسمار فتقوم المرآة ويقوم الجدار. يصلُ السائحون وتُلتقط الصُّور الفوتوغرافية».

الناس الطيّبون والحيوانات الطيّبة الأثر هم سرّ الحياة العجيبة في المدينة، ويمكننا إضافة أهل الفنّ إلى هذا الثنائي، ليكون الكلام أكثر رسوخاً. العالم الحقيقي موجود في كل مكان، وغياب القوى السحرية هو السرّ في عزوف الفنانين عن السكن في مدن الدجاج، أو حتى مجرّد التفكير بزيارتها سائحين. ثم هناك الفرق الأهمّ بين مدينة كافافيس الفاضلة، وبين تلك التي لا تحتفظ بشيء من الماضي؛ في الأولى يشعر أفقر الناس وأدناهم منزلة بأنه شخص له شأن، وفي مدن الدجاج يكون أحسنهم وأكثرهم ثراءً غريباً، لا يستطيع المشي في شوارعها وتنفّس هوائها؛ لأن مجتمع ما بعد الحداثة اختار أن يكون الإنسان كائناً منهوشاً ومتوارياً عن الأنظار، مثل دجاجة تأكل وتأكل وتقاسي من العزلة القاتلة، في انتظار الموت.