في ظل النضال الذي شهدته منطقة جدة التاريخية من محبيها لأجل البقاء والحفاظ على هوية المكان في الذاكرة الحجازية، ورغم مرور أكثر من 100 عام على بيوتها، التي آلت فيها ليس للسقوط من ذاكرة التاريخ فحسب بل من ذاكرة جغرافية المكان أيضا، عاد أبناء هذه البيوت القديمة لإحيائها وتوثيق ما حفرته جدرانها من ذكريات وتحويلها إلى واقع يشرح للزوار كيف كانت الحياة في «زمن الطيبين».
ومنذ حصول جدة التاريخية على مقعد يليق بعبقها وتاريخها بين قرنائها في منظمة اليونيسكو، استشعر أبناء هذه المنطقة أهميتها وعادوا لها من كل فج وصوب لتكريم المنازل التي احتضنتهم في طفولتهم لينتقل من دوره كمنزل، إلى رافد، لإحياء ثقافة المكان فنيًا وتراثيًا وحضاريًا.
وفي هذه الأثناء تعود واجهة المنطقة التاريخية اليوم إلى المشهد المحلي، ولكن هذه المرة بعيدة عن مستوى المهرجانات والفعاليات، من خلال نافذة بيت «سلوم» العريق، الذي أسسه عميد الأسرة عبد الله بن عبيد سلوم في عام 1301.
135 عامًا هي حصيلة العمر الافتراضي للبيت العريق الواقع في إحدى الحارات الرئيسية التي شكلت جدة القديمة قبل هدم سورها في 1947، وهي حارة «المظلوم»، وعلى بعد خطوات قليلة من بيت «باعشن».
حكاية هذا الفصل المهم في تاريخ إحياء بيوت جدة القديمة، جاءت بتنفيذ مؤسسة «جدة وأيامنا الحلوة»، المهتمة بإعادة هوية المكان للجيل الجديد من الشباب، ويشير هنا رئيس مجلس إدارتها منصور صالح الزامل إلى أن ترميم البيت جاء وفقًا للمقاييس والمواصفات الفنية الدولية في ترميم البيوت الأثرية، وتحت إشراف الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بمنطقة مكة المكرمة، وبترخيص من أمانة محافظة جدة.
بيت سلوم الذي آلت ملكيته لابنة نجل العائلة «أسماء»، جاءت كما يقول الزامل تفاعلاً مع مبادرة عمدة حارة الشام والمظلوم الشيخ ملاك محمد باعيسى لإحياء بيوت المنطقة من الاندثار، وبخاصة أنها تمثل جوهرًا حيويًا في رسم المعالم التراثية للمنطقة.
واجهة البيت اليوم حملت عنوان «بيت جدة وأيامنا الحلوة»، أدخلت بيت سلوم إلى منصة جديدة كما يشير بذلك الزامل، تدفع الباحثين والمؤرخين إلى التباحث في شؤون الحفاظ على التراث العمراني والاجتماعي للمنطقة التي تمثل البنية التحتية لتاريخ جدة القديم.
الطريقة الجديدة التي لجأ إليها القائمون على مشروع الترميم، والتي تمثل أحد أنواع الاستثمار السياحي الفريد من نوعه، واستئجار المكان لـ10 سنوات من مالكته لغرض إحياء ثقافة المكان من خلال الدعم الثقافي والتراثي بصورة متزامنة.
التحولات الكبيرة التي جرت على البيت، جعلته بمثابة متحف متكامل بمساحة 497 مترا مربعا، مكون من 4 طوابق من غرف وصوالين ومقاعد البيوت الحجازية العريقة، وبكل المقتنيات التي عرفت بدور المنطقة التاريخية.
الناشطة بالمنطقة التاريخية عبير جميل أبو سليمان هي من تشرف على الدار بعد الترميم، لكن ما يثير فضول الكثيرين هو الأهداف التي من أجلها دفعت مؤسسة «جدة وأيامنا الحلوة» لترميم البيت بعد أن كان معرضًا هو الآخر لعملية الاندثار ليس فقط من ذاكرة التاريخ، بل من ذاكرة جغرافية المكان أيضًا.
أهداف الترميم تتجه إلى عدة مسارات منها، تقديم نموذج حي يكافح من أجل بقاء هوية المكان في الذاكرة الحجازية، وبخاصة أن الزامل يؤكد على ضرورة توجه ملاك البيوت إلى ترميم منازلهم، كما يدعو المستثمرين إلى إعادة بوصلة الاستثمارات صوب المنطقة التاريخية، من أجل الحفاظ على ما تبقى من وجدان هوية جدة القديمة.
البيت الذي دخل حيز التنفيذ منذ رمضان الماضي، استقبل وفودا محلية وأجنبية بالآلاف، ومما يعطيه ميزة أنه مؤثث بشكل كامل من الأثاث الذي يتزامن مع تلك الحقبة الزمنية، والذي يزيد عمره بحسب أبو سليمان على 100 عام تقريبًا، ولا تزال بعض الأجهزة القديمة تعمل للوقت الراهن، كالمكواة والثلاجة التي تعمل بالكيروسين.
أبو سليمان تشير إلى معلومة مهمة، وهي أن البيت يمثل بكل ما تحمله الكلمة من معنى «ذاكرة مصورة» للجيل الجديد من الأبناء، حتى يعلموا بشكل تطبيقي كيف عاش أجدادهم في هذه المنطقة.
هنا في زوايا البيت تشاهد «المٌركب، والمقعد، والمبيت، وبيت الماء»، ليس كأثاث أو جماليات بل كشاهد عيان على هوية المكان، وهذه الرسالة قد تكون الكبرى الذي ترغب مؤسسة «جدة وأيامنا الحلوة” بلوغها في المستقبل القريب.
حينما كانت تتحدث أبو سليمان، كانت في مكتبها ترسم جداول مواعيد الأفواج السياحية القادمة من المدارس المحلية، أو الأجنبية، وبخاصة المدرسة الفرنسية، الذين صفقوا لها بحرارة وهي تدعوهم لزيارة البيت عندما علموا أن أول بعثة دبلوماسية في المنطقة التاريخية كانت للفرنسيين والتي أنشئت في الرابع من رمضان 1225 هجرية، عندما كان دورها يتمثل في بعثة حج لمساندة حجيجها من المستعمرات وحجاج حلفائها الأوروبيين خلال الحرب العالمية الأولى.
مباني جدة التاريخية تحيي ثقافة المكان
«جدة وأيامنا الحلوة» تعيد المنازل القديمة للواجهة
مباني جدة التاريخية تحيي ثقافة المكان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة