تايي أتسكي سيلاسي... دبلوماسي مخضرم عضد موقف إثيوبيا دولياً في أزمة التيغراي

إضاءة على شخصية رئيس الجمهورية الجديد

 تايي أتسكي سيلاسي
تايي أتسكي سيلاسي
TT

تايي أتسكي سيلاسي... دبلوماسي مخضرم عضد موقف إثيوبيا دولياً في أزمة التيغراي

 تايي أتسكي سيلاسي
تايي أتسكي سيلاسي

منصب رئيس الجمهورية في إثيوبيا شرفي، لا يتمتع شاغله بأي صلاحيات تنفيذية، وفقاً للدستور، الذي يعدّه رمزاً لوحدة الدولة وسيادتها. لكن مع ذلك، يرى مراقبون ومحلّلون أن خبرات تايي أتسكي سيلاسي، التي تمتد لما يزيد على 4 عقود في العلاقات الدولية، وتوافقه مع آبي أحمد رئيس الوزراء و«رجل إثيوبيا» القوي، من المزايا التي تؤهله للعب دور مؤثر في المشهد السياسي، لا سيما في مجالات حلِّ النزاعات الداخلية وتحقيق الوحدة الوطنية. وهذا، دون شك، تَوقُّع مبرّر لدى النظر إلى دوره في تعضيد موقف بلاده في الأمم المتحدة خلال أزمة إقليم التيغراي، ودعوته أخيراً لحوار مع مصر بشأن ملف «سد النهضة» المعقّد.

مسيرة دبلوماسية

وُلد تايي أتسكي سيلاسي يوم 13 يناير (كانون الثاني) 1956 في بلدة ديبارك، الواقعة في منطقة شمال غُندر بإقليم الأمهرة، الذي يُعَدَّ القلب السياسي والتاريخي لإثيوبيا، ويضم أبرز المجموعات العرقية النافذة في البلاد. وتلقَّى تعليمه العالي متخصصاً بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية، وتخرَّج في جامعة أديس أبابا، ثم تابع دراسته الأكاديمية بالحصول على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة لانكستر البريطانية.

خدم تايي أتسكي سيلاسي بلاده في عدد من المحافل الدولية بصفته دبلوماسياً، وبدأ مسيرته العملية فور تخرجه بالعمل في وزارة الخارجية الإثيوبية، إذ شغل مناصب عدة من بينها مستشار إدارة أوروبا الغربية، ثم أصبح رئيساً لتلك الإدارة. وشملت أولى مهامه الدبلوماسية العمل في سفارتَي بلاده في استوكهولم وواشنطن.

كذلك، عمل تايي قنصلاً عاماً لإثيوبيا في مدينة لوس أنجليس بالولايات المتحدة، ثم مديراً لشؤون أوروبا والأميركتين. وشغل منصب سفير فوق العادة في سفارة إثيوبيا لدى مصر في الفترة ما بين عامَي 2017 و2018، وهو المنصب الذي يجعل البعض يتوقَّع منه لعب دور بارز في الفترة المقبلة، لا سيما مع ظل النزاع بين القاهرة وأديس أبابا بشأن «سد النهضة».

بعد ذلك، وفي عام 2018 مثَّل الرجل إثيوبيا في الأمم المتحدة بصفته ممثلها الدائم في نيويورك، إبّان فترة من أكثر الفترات اضطراباً في تاريخ إثيوبيا، وحينذاك لعب دوراً محورياً في الرد على الانتقادات الدولية لأديس أبابا خلال الصراع في إقليم التيغراي.

في عام 2023، عمل رئيس الجمهورية الجديد (68 سنة) مستشاراً للسياسة الخارجية لرئيس الوزراء آبي أحمد، ما قرّبه أكثر من دوائر الحكم والسلطة. وبالفعل، خلال الأشهر الأخيرة، وتحديداً منذ فبراير (شباط) الماضي، أدار تايي ملف السياسة والعلاقات الخارجية لبلاده بصفته وزيراً للخارجيّة، وبرز اسمه عبر تصريحات إعلامية في مختلف الملفات، قبل أن ينتخبه البرلمان رئيساً لإثيوبيا خلفاً لسهلي ورق زودي التي غدت عام 2018 أول امرأة تتولى هذا المنصب.

انتخابه رئيساً

وحقاً، أعلن رئيس البرلمان الإثيوبي تاغيس شافو، في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، «انتخاب تايي أتسكي سيلاسي رئيساً جديداً لجمهورية إثيوبيا الديمقراطية الاتحادية، مع امتناع 5 نواب فقط عن التصويت». وأدى الرئيس المنتخب اليمين الدستورية بحضور رئيس الوزراء آبي أحمد، قبل أن تسلمه الرئيسة المنتهية ولايتها الدستور.

تايي أتسكي سيلاسي... دبلوماسي مخضرم

عضد موقف إثيوبيا دولياً في أزمة التيغراي، ودعم هذه التكهنات منشور «مُبهم» للرئيسة المنتهية ولايتها عبر حسابها على «إكس»، أشارت فيه إلى «التزامها الصمت طوال سنة كاملة». وقد نقلت الـ«بي بي سي الأمهرية» (خدمة هيئة الإذاعة البريطانية باللغة الأمهرية) عن مصادر قريبة من زودي قولها إنها «لم تكن سعيدة... بل كانت تنتظر بفارغ الصبر نهاية فترة ولايتها».

انتقادات للرئيسة السابقة

ويشار إلى أن المرأة التي ترأست إثيوبيا بعد أشهر من تولي آبي أحمد رئاسة الوزراء، وجّهت خلال فترة رئاستها دعوات عدة للسلام في جميع أنحاء البلاد، بيد أنها تعرّضت لانتقادات بحجة أنها «لم تتكلّم أكثر عن العنف القائم على النوع الاجتماعي طوال الحرب التي استمرّت سنتين في التيغراي».

مقابل ذلك، في خطابه الأول بصفته رئيساً منتخباً، دعا تايي إلى بناء «سلام شامل مستدام»، والحفاظ على النظام الدستوري، و«سيادة القانون». وقال: «إن عملية الحوار الوطني في إثيوبيا تظهر التزام البلاد بضمان السلام في جميع الجوانب».

ثم عبر استغلال خبراته الدبلوماسية، أشار الرئيس الجديد إلى «بذل جهود لتعزيز علاقات بلاده مع دول الجوار لزيادة المصالح الوطنية»، متعهداً بـ«الاهتمام بالعمل ذي المنفعة المتبادلة فيما يتعلق بالسلام والأمن والقضايا الاقتصادية من خلال التعاون الإقليمي». وأيضاً، أكد أن بلاده «ستواصل تعزيز جهودها لتحقيق رغبتها في التطور والنمو معاً في المنطقة».

أوضاع القرن الأفريقي

لم يغفل تايي أتسكي سيلاسي في خطابه ذاك منطقة القرن الأفريقي، التي شهدت توتراً في الفترة الأخيرة، وتكلّم عمّا وصفها بـ«دبلوماسية إثيوبية مفتوحة ومتسقة لإحلال السلام في القرن الأفريقي... بما في ذلك حل الصراع في السودان». وذهب أبعد، متعهداً بأن «تلعب أديس أبابا دوراً مهماً في ضمان السلام والأمن في القرن الأفريقي». وأردف قائلاً: «سنعمل على زيادة نفوذ إثيوبيا وتأثيرها الإيجابي في (منظمة) بريكس، وسنعزز التعاون مع الاتحاد الأفريقي والمؤسسات الدولية».

هذه التصريحات شجَّعت المراقبين على اعتبار انتخابه «فصلاً جديداً في تاريخ البلاد»، وبالأخص، في ظل ما تواجهه إثيوبيا من انقسامات داخلية وتحدّيات اقتصادية وصراعات سياسية مع دول الجوار.

مُدافع شرس عن الحكومة

لقد دافع تايي بقوة عن موقف حكومته إبّان الصراع بين قوات الحكومة الاتحادية من جهة، ومقاتلي «الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي»، من جهة أخرى.

وأيضاً قال، أمام مجلس الأمن الدولي في منتصف عام 2021، وكان حينذاك سفيراً لبلاده لدى الأمم المتحدة، إن «طريقنا إلى الحوار والحل السياسي لن تكون مباشرة أو سهلة»، مضيفاً: «نركز في الوقت الحالي على كبح جبهة تحرير التيغراي، وعلى عمليات الإنقاذ، والوصول إلى مواطنينا الذين يعانون بشدة». وتحدّى الأمم المتحدة عندما أعلن رفض أديس أبابا أن يبحث المجلس النزاع في التيغراي، متذرّعاً بأنه «شأن داخليّ».

كذلك انتقد تايي تقارير الأمم المتحدة التي تحدَّثت عن «مجاعة تهدد الإقليم»، قائلاً: «نحن نختلف بشكل قاطع مع تقييم المنظمة الدولية بشأن المجاعة»، وإن الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية «لم تجمع هذه البيانات بطريقة شفافة وشاملة». وأضاف أن أديس أبابا «أتاحت الوصول إلى التيغراي من دون قيود، وهي ممتنة لوصول المساعدات الإنسانية الدولية، إلا أن الوضع في الإقليم لا يستدعي اهتمام مجلس الأمن».

وهنا، يشار إلى أن رئيس الوزراء آبي أحمد، كان قد أمر بشنّ هجوم عسكري واسع على إقليم التيغراي (شمال إثيوبيا) لنزع سلاح قادة «الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي»، الحزب الحاكم في الإقليم، في حين أدّت أعمال العنف إلى قتل آلاف المدنيين وإجبار أكثر من مليونَي شخص على ترك منازلهم.

قضية «سد النهضة»

ملف آخر برز فيه اسم الرئيس الجديد أخيراً، لا سيما أنه سبق له شغل منصب وزير الخارجية، إذ بدأ يلعب دوراً لافتاً في أزمة «سد النهضة» الذي تبنيه إثيوبيا على الرافد الرئيسي لنهر النيل، وتخشى مصر أن يؤثر في حصتها من المياه.

والمعروف أن هذه الأزمة ما زالت تراوح في مكانها بعد عقد من المفاوضات التي انتهت دون نتيجة، وقد دفعت مصر للجوء لمجلس الأمن الدولي غير مرة.

في أغسطس (آب) الماضي، دعا تايي أتسكي سيلاسي، الذي كان وقتها وزيراً للخارجيّة الإثيوبية، مصر إلى «تجاوز الخلافات». وأعلن أن «أبواب بلاده مفتوحة للحوار والتفاوض معها؛ لإنهاء ملف الخلافات بشأن سد النهضة».

الدعوة هذه جاءت بعد تفاقم الخلافات مع الصومال على خلفية توقيع أديس أبابا «مذكرة تفاهم» مع إقليم «أرض الصومال» الانفصالي، خلال يناير الماضي، وتعترف بموجبها أديس أبابا باستقلال الإقليم مقابل حصولها على ميناء وقاعدة عسكرية على البحر الأحمر.

هذه الاتفاقية رفضها الصومال ودول عربية عدة. وأعلنت مصر دعمها للصومال، وأرسلت مساعدات عسكرية لمقديشو، كما أنها تعتزم المشارَكة في قوات حفظ السلام في الصومال.

وعلى غرار دعوة تايي للحوار مع مصر بشأن أزمة «سد النهضة»، فإنه استخدم نهجاً مماثلاً حيال الأزمة مع الصومال عبر تشديده على أن «الخلافات يجب أن تحل عبر المفاوضات». لكن خطابه حمل، في الوقت ذاته، إشارات عدائية تجاه القاهرة عبر مطالبته بـ«الإحجام عن الاستعانة بقوى خارجية لتهديد أمن بلاده».

والحال، أن إثيوبيا عدّت تقديم مصر مساعدات عسكرية للصومال أمراً «يرقى إلى مستوى تدخل خارجي»، بحسب بيان لوزارة الخارجية في أغسطس الماضي.

من ناحية ثانية، ما كان اهتمام تايي أتسكي سيلاسي بملف «سد النهضة» مرتبطاً بشغله حقيبة الخارجية، لكنه كان محوراً من محاور كلمته الأولى أمام البرلمان عقب أدائه اليمين الدستورية رئيساً لإثيوبيا. وهو في أي حال أكد «اكتمال بناء السد وجولته الخامسة من الملء»، وتابع: «السد يمثل معلماً رئيسياً في رحلة التنمية في البلاد». ختاماً، لكون تايي دبلوماسياً محترفاً ومحنكاً، فهو يشدد باستمرار على أهمية دور إثيوبيا في تحقيق السلام والأمن الإقليميَّين، ويعوّل مراقبون على خبرته سفيراً سابقاً لدى مصر، وممثلاً لبلاده لدى الأمم المتحدة «لتعزيز مصالح أديس أبابا على الساحة الدولية». غير أنهم يتساءلون، في الوقت عينه، عمّا إذا كان سيتجاوز صلاحيات منصبه الشرفية، ويسهم في الحل العملي للنزاعات الداخلية والإقليمية، عبر التزام شعارات الوحدة والحوار، وفي خضم تحديات عدة تواجهها بلاده اقتصادياً وسياسياً. يتولى تايي رئاسة إثيوبيا بعد فترة سادت فيها تكهنات عدة بشأن خلاف

بين رئيسة الجمهورية سهلي ورق زودي ورئيس الحكومة آبي أحمد


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.