فصل من رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون» للراحل خالد خليفة

تصدر قريباً

فصل من رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون» للراحل خالد خليفة
TT

فصل من رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون» للراحل خالد خليفة

فصل من رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون» للراحل خالد خليفة

تصدر قريباً عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون» للروائي السوري الراحل خالد خليفة (1964 - 2023)، وهي الرواية الأخيرة التي كتبها خليفة قبل وفاته، وتصدر بعد غيابه بعام. في هذه الرواية، التي تقع في 264 صفحة، يصفي خالد حساباته مع الزمن، لتغدو وكأنها بوح موارب عن أحلامه وإحباطاته، من خلال سرد حكاية شلّة تحاول عبثاً إعادة بثّ الحياة في مدينة تموت! إنه يتحدث عن مدينة اللاذقية في سوريا، بشوارعها وأزقتها، ومعالمها التي شوّه معظمها الفساد الإداري وصفقات المقاولين. ينعى المدينة من خلال موت أحلام شبابها. هم شلة موسيقيين وشعراء وراقصة حاولوا إعادة بث الحياة في مدينةٍ تموت لكنّهم كانوا على موعد مع الخيبات القاتلة. فلا أحلامهم الموسيقية تحققت، ولا قصص حبهم عاشت، ولا أفضى مستقبلهم إلى الإنجازات التي تمنوها. لكلٍّ من أبطال الرواية، «المسوخ» كما تطلق عليهم صديقتهم، معاناته، وتسلخاته، وخيبته، ولكلٍّ منهم وهمٌ ابتلعه في نهاية الحكاية.

فيما يلي مقتطف حصري من رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون»:

«كنّا مجتمعين في دكّان أبي، نناقش أمرنا كفرقة، وسط علب سائل الجلي، والموادّ المهرّبة التي يؤمّنها له رفاقه المساعدون الأوّلون الذين ما زالوا يخدمون في لبنان. في تلك السهرة شعرنا جميعاً بأنّ فكرة الفرقة سرابٌ وخديعة وقعنا فيها، الأمر ليس بهذه البساطة التي افترضناها، استسلمنا لفكرة أن نكتب ونلحّن ونغنّي لأنفسنا في هذه الفترة، لم نتّفق على شيء، حاولنا إعادة المحاولة في الغناء، واقترحنا تسجيل كاسيت لأغانينا وترويجه ضمن مجموعاتٍ شبابيّة تهتمّ بعملنا. أصبح في رصيدنا أكثر من عشر أغانٍ، دعتنا مجموعة من الشعراء الشباب في حلب، فذهبنا وارتجلنا حفلةً في منزل أحدهم، لكنّه أخبرنا لاحقاً أنّه استُدعي في اليوم التالي إلى فرع الأمن حيث هُدّدَ بالحبس إن قام مرّةً أخرى بتنظيم حفلةٍ دون إذن. أفهموه أنّنا فرقةٌ ممنوعة.

انقطعت عنّا منال، حبسها أخوها الكبير منعم في غرفةٍ وبدأ يتعامل معها بإذلالٍ شديد، وهي استسلمت تمامًا، تنفّذ كلّ ما يطلبه منها، كسجينةٍ تقاوم بالصمت كلّ عبثه وقسوته. كانت تعرف أنّها في هذه اللحظة تمنحه فرصةً حقيقيّة ليمارس بشكلٍ عملي حلم عمره بأن يكون سجّاناً. في فترة انتظار قبول طلب تطوّعه كسجّانٍ في جهاز المخابرات، كان يحاول التدرّب على العيش ضمن السجن، أراد تصفية حسابه مع خروجها الأخير وما قالته المدينة عن غنائها شبه عاريةٍ على مسرح الكنيسة. سألها عن موسى وعن الحفلة والسهرة على الشاطئ التي تناقلتها المدينة مؤكّدةً أنّنا مجموعةٌ من شهود يهوه مرّة، ومرّةً أخرى وأقرب إلى المعقول أنّنا مجموعة عبدة الشيطان. لم تجبه منال، تعلّمت أنّ الصمت أقوى فعل للاحتقار. كان صمتها يثيره، وفي لحظةٍ تخاف فعلاً من تحرّشه، فتصرخ بقوّة لتنبّه من في المنزل لإنقاذها، كما رحّبت ببقاء يارا معها، فوجودها يحميها من التحرّش. لم يكن تحوّله المفاجئ غريباً عن أفراد العائلة الذين يعرفون أحلامه مذ كان طفلاً، حلم بأن يكون قاتلاً مأجوراً، سفّاحاً، وفي النهاية استهوته فكرة الجلّاد.

تصاعد قلق موسى. قامت ماريانا بدور ساعي البريد، تحمل رسائل حبّه الملتهبة وفيها سجائر حشيش ملفوفة إلى منال المحبوسة في منزل أهلها، والتي يتحدّث الجيران عن سمعتها السيّئة، ويحرّضون عائلتها على تربيتها. قالت ماريانا إنّها خسرت الكثير من وزنها، وجهها أصبح شاحباً، وتعاني من فرط الكآبة. كان موسى يقرأ لنا مقاطع من رسائلهما المتبادلة، كتب لها مرّةً رسالةً يخبرها عن صباح المدينة (يجب أن تصدّقي أنّ هذه المدينة أصبحت غريبة، لقد ذهبت مع القتلة إلى مخادعهم، هذا الصباح وأنا جالسٌ في مقهى شناتا راقبتها تتوضّأ بالدم، لقد بدأوا بهدم معبد ذكرياتنا...).

ردّت عليه منال برسالةٍ قصيرة كتبنا بعض عباراتها على آلاتنا (توضّأت المدينة بالدم، صلّت علينا، أمواتاً ننهض كلَّ صباح، نزور قبورنا ونعتني بزهورها، نحن الأموات، يقتلنا القتلة، وتذهب مدينتنا كلّ ليلةٍ معهم إلى مخادعهم).

جميعنا افتقدنا منال، التي تحوّلت من حبيبة موسى إلى معبودتنا جميعاً، ننتظرها دوماً، تدخل وتقلب الطاولة، تمزّق دفاتر أفكارنا التي نكتشف أنّها مكرّرةٌ وباهتة، وتقودنا من أيدينا إلى حماقاتٍ جديدة. لم تستطع يارا احتمال فقدانها، لم تكتف بالرسائل، حملت حقيبة ملابس صغيرة ورافقت ماريانا، قالت: لن أعود إلّا ومنال معي. وصفت فيما بعد حياتهما في الحبس المنزلي، لم يفهم شقيقها منعم معنى قدوم فتاةٍ جميلة وغضّة لتقاسم صديقتها الحبس. مدّت رجليها ببساطة وطلبت منه تقييدها إذا أراد ذلك. لم تخف من نظراته، شعر بورطةٍ حقيقيّة رغم إعجابه بالفكرة. لم تعد منال تريد الخروج من المنزل. أرادت للجميع رؤيتها سجينةً في غرفتها، دعت الجيران والأقارب وكانت يارا جالسةً قربها.

آخر الليل كانت يارا تحتضن منال وتتحدّث الاثنتان بإنكليزيّةٍ صافية عن الرقص والطيران والحبّ والخيبة. تستمع منال طويلاً ليارا تخبرها بأنّها لن تعيش طويلاً، تضيف: لا يمكن لمسخ أن يعيش قرناً. العيش الطويل فعلٌ غبيّ، ماذا نفعل سوى التكرار؟ أضافت يارا أنّ روني لا يحبّها، لكنّها لا تكترث. يكفيها الحبّ الناقص. فهي تشعر بأنّها قد تغادر المدينة في أيّ لحظة، والحبّ الناقص يجعلنا أكثر حرّية. وافقتها منال. ثمّ سمح لها منعم بالخروج، وهو ينظر خجلًا الى الأرض، ويدعوهما لمشاركته الإفطار، معلناً خبر قبول تطوّعه في المخابرات بعد توسّط صديقه غدير له.

الرسائل التي حملتها ماريانا لمنال قرّبتها منها ومنّي، كانت ماريانا تشعر بأنّها تقوم بفعلٍ عظيم لرفاقها. أصبحت جزءاً من فرقتنا، تندسّ في صدري وتطلب منّي ألّا أتوقّف عن احتضانها، لم أعد أشعر بأنّني عاشقٌ فائضٌ عن الحاجة، تأتي كلّ صباحٍ إلى غرفتي في منزل أهلي، نشرب قهوتنا، ونختلس القبلات، وبقيت غرفتها في منزلها مكاناً دائماً لحبّنا حين تغيب الجدّة.

بعد عودتها إلينا كتبت منال أغنيةً لفرقتنا، قرأتها لنا:

رأيت الموت يتسرّب من النوافذ،

يقرع الأبواب

يخطف الصبايا الجميلات

أنا التي ودّعت صديقتها التي باعها أهلها بالأمس مقابل حصان

وأربعة أزواج من الأحذية

أنا مسخةٌ عمياء رأيت المدينة ولم ترني

أنعق كبومةٍ كلَّ ليلةٍ في خرائب قلوبكم.

هل عرفتم من أنا؟

ابنة الخراب الذي حفرتم أعمدته في زوايا المدينة الأربع

لم تهتمّ سوى بالصور المرعبة التي أحاطت بطفولتها، كانت المدينة بالنسبة إليها مكاناً لمرور النعوش ومقبرةً كبيرة، وفي أغنيةٍ أخرى كتبت (لا تقلق، الزهور تنمو ذابلة، تقتات من موتنا). نعم، كنت أفكّر في هذا دوماً، أنّ الزهور تنمو رغم ذبولها، وفي تلك اللحظات كانت تقتات من موتنا.

في حفلتنا الثانية ذهبنا إلى بيروت، عزفنا في بار last night ثلاث ليالٍ، شعرنا بأنّ وضعنا أفضل، بدأنا ندير أمور فرقتنا، أخذنا نقوداً، وعشنا ليل بيروت، تلقّينا دعواتٍ خجولة، ووُعدنا بالعودة مرّةً أخرى.

وصلنا منهكين إلى اللاذقيّة، كان المنزل فارغاً، والباب مفتوحاً، استغربت الأمر، لا يمكن لأهلي ترك الباب مفتوحاً بهذه الطريقة. سمعت بكاء عمّتي نديمة، فتحت باب غرفتها في الطابق الأرضي، تصاعد عويلها، أخبرتني أنّ أخي صالح مات قبل ساعتين، وأنّني أصبحت الذكر الوحيد لعائلتي. مات ظلّي وظلّ العائلة وبقينا جميعاً دون ظلّ. لحقت بالعائلة إلى المشفى العسكري، كان الجميع ينتظرون السماح لهم برؤية جثمانه.

كان وقع الخبر على العائلة صاعقًا يوم 14 كانون الأول 1991، لم نصدّق ما حدث حتى أدخلونا مشرحة المشفى العسكري وتلمّسنا جثّته الباردة. أختاي صفاء وحليمة مزّقتا ثيابهما، أمّي بكت دون توقّف، ظلّت تبكي حتّى عودتنا من زيارة قبره في ذكرى سنويّته الأولى. جلست إلى طاولة العشاء، سكبت في صحنها قطعة لحمٍ كبيرة، مسحت دموعها بعد توقّفها وسط ذهولنا، وقالت: أخذت حصّتي من البكاء. منذ تلك اللحظة، لم يرها أحدٌ تبكي. خسر أبي حلمه الوحيد برؤية ابنه ضابطاً يخرجه من حفرة صفّ الضابط التي عاش فيها طوال حياته، منذ تلك اللحظة تغيّر كثيراً، بقي إلى نهاية عمره حزيناً وشارداً، انحنى ظهره، وانخفض صوته، وأصبح ماضيه أقلّ بطولة، فكّر بأنّ موت صالح رسالةٌ ربّانيّة لعدم محاولة تغيير ما قسمه الربّ من أرزاقٍ وطبقات».



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!