لبنان الناهض على الصداقة ولبنان الناهض على العداوة

نشأ مع عبد الناصر قاموس سياسيّ جديد... وأيقظت قضيّة فلسطين المكبوت الجريح والمُدمّى

جانب من مرفأ بيروت المدمر وفي الخلفية مبان شاهقة (رويترز)
جانب من مرفأ بيروت المدمر وفي الخلفية مبان شاهقة (رويترز)
TT

لبنان الناهض على الصداقة ولبنان الناهض على العداوة

جانب من مرفأ بيروت المدمر وفي الخلفية مبان شاهقة (رويترز)
جانب من مرفأ بيروت المدمر وفي الخلفية مبان شاهقة (رويترز)

حين نشأ لبنان في 1920 وحين استقلّ في 1943، لم تكن فكرة العداوة والعدوّ من شِيمَه، ولا كانت على لسانه. فلحسن الحظّ لم يكن لدينا «مليون شهيد» نتباهى بهم، بل لم يكن لدينا أيّ شهيد أصلاً. وقد خلا تاريخنا الاستقلاليّ من معارك، كمعركة ميسلون في سوريّا. فـ«الآباء المؤسّسون»، إذا صحّت الاستعارة الأميركيّة، اهتمّوا بالصداقة وبناء الجسور، فوصفوا بلدهم بأنّه «جسر بين الشرق والغرب»، ترصّعه المدارس والجامعات والمستشفيات والمصارف والرساميل والفنادق.

وكان من مصادر التكريم الذي أُسبغ على فينيقيا، وعلى الاستمراريّة التي قيل إنّها تضمّنا إليها، أنّ الفينيقيّين تجّار يعبرون المحيطات ويقصّرون المسافات. وكان في وسع الفينيقيّين أولئك أن يعيشوا في جوار عرب مسالمين أيضاً، فضلاً عن كونهم يأتوننا سيّاحاً ومصطافين ومستثمرين. وإذا كان لا بدّ من أعداء، لأنّ الأساطير المؤسِّسة للأوطان تتطلّب الأعداء، اختار أولئك الآباء أعداء اندثروا ولم تعد لهم ذريّة. هكذا أعلنوا عتبهم على الإسكندر المقدونيّ الذي حاصر صور قبل زمن المسيح، وعلى الملك الفارسيّ أرتحششتا الذي حاصر صيدا في زمن مُقارب. فكأنّما أريدَ القول إنّ لبنان لم يولد من رحم العداوة، وحين كانت العداوة تقصده كان يقاومها مضطرّاً، وهي في الأحوال كافّة، مرّت مروراً سريعاً ولم تعمّر.

صحيح أنّ الرواية التاريخيّة المعتمَدة لم تستطع تجاهل العثمانيّين. فهم قتلوا فخر الدين المعنيّ، الذي رفعته السرديّة الرسميّة جَدّاً أوّل للوطن، كما نفوا جدّه الثاني، بشير الشهابيّ. لكنّ العثمانيّة هي أيضاً صارت تاريخاً بلا وريث منذ ألغى أتاتورك سلطنتها وخلافتها. وبالمعنى هذا أصبحت الإحالات الكثيرة إلى الأربعمائة سنة عثمانيّة لا تدلّ إلى أحد، إذ قبل رجب طيّب إردوغان لم يكن في تركيّا حاكمٌ يتعصّب لها أو يُغضبه هجاؤها.

الأمين العام لجامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام باشا وسفير العراق لدى واشنطن علي جودت ومندوب العراق لدى الأمم المتحدة فاضل جميلي ومندوب لبنان شارل مالك في استراحة غداء في أثناء اجتماع اللجنة السياسية بشأن فلسطين... وبعد جلسة غاضبة تخللها تبادل الشتائم صوتت الأمم المتحدة على عدم استقلال فلسطين (غيتي)

أمّا الامتحان الأصعب الذي عبره لبنان فكان موضوعه جمال باشا عام 1916. هكذا أُطلقت استدراكات ثلاثة لتطويق تلك العداوة: فأوّلاً، بولغَ في التوكيد على أنّ الرجل سفّاح، وهذا ما امتصّ مضمون العداوة السياسيّ وردّها إلى ساديّة مَرَضيّة أصيلة فيه. وثانياً، كُرّم الشهداء بأن جُعل لهم عيد، فكأنّ المقصود أنّ هذا احتفال أو تنصيب يحصل مرّة واحدة، مثلما الحال حين يُحتفل بعيد قدّيس معيّن. وثالثاً، وبما أنّ جمال أعدم مسيحيّين ومسلمين، جُعل الإعدام جسراً آخر يؤدّي إلى الوحدة الوطنيّة ويمتّنها. آخرُ الأحزان جعلناه، إذاً، أوّل الأفراح.

وكان من أسباب البساطة هذه أنّ الأوضاع نفسها بسيطة لا تحوِج إلى تعقيد. أمّا الحرّيّة فأكثر من كافية لجعل بلد قليل العداوات وكثير الصداقات شيئاً قابلاً للحياة. وفي وقت لاحق، نطقَ رجل، لم تصدر عنه إلا الكليشيهات المضجرة، بعبارة مبدعة هي أنّ «قوّة لبنان في ضعفه»، بمعنى أنّ الجسور مدافع اللبنانيّين وسلاحهم الثقيل.

وظلّ تعبير «العدوّ» غير مُستساغ في القاموس اللبنانيّ السائد، شأنه شأن باقي التعابير التي تلازمه عادةً، كـ«الاستعمار» و«الرجعيّة» و«الصهيونيّة». ولكثيرين بدا الشيوعيّون الذين يشهّرون بـ«الحلف الأطلسيّ»، والعروبيّون الذين يتباهون بمعارك اليرموك والقادسيّة، أشخاصاً غريبين يتحدّثون لغة عجيبة. ولئن تسرّع البعض حين خوّنوا إميل إدّه، إبّان الاستقلال، بقي المعترضون على فكرة التخوين، والمشمئزّون من جوّها التشهيريّ، كثيرين. وبالطبع لم تنشأ محاكمات ولم تحصل إعدامات من النوع الذي يلازم تهمة الخيانة. هكذا رفض اللبنانيّون، مرّة أخرى، أن يكون الدم أحد آبائهم. وبعد ثلاث سنوات على الاستقلال، حوّل إميل إدّه مؤيّديه إلى حزب سياسيّ شرعيّ، وحين توفّي، بعد ثلاث سنوات أخرى، أقيم له مأتم شعبيّ حاشد.

مقهى بيروتي تقليدي في 1951 (غيتي)

تفادي ذيول النكبة

وحتّى عندما نشبت حرب فلسطين في 1948، تراءى أنّ إطفاء نارها أمر ممكن. وبالفعل وقّعتْ على هدنة رودُس، بعد عام واحد، مصر وسوريّا والأردن، ما حالَ دون ظهور لبنان كأنّه متفرّد، أي كأنّه مسيحيّ في عالم الإسلام. والحلّ هذا لم يكن سهلاً فحسب، بل كان مُربحاً أيضاً، إذ أعفى اللبنانيّين من احتمالات الحرب كما أعفاهم من مغبّة التنافس مع مرفأ حيفا الصاعد في دولة إسرائيل ذات الوجه الغربيّ. وبهذا تمكّن الشاطر اللبنانيّ من أن يؤكّد شطارته التي لا يُمارى فيها. وبعد سنوات، تجرّأ لبنانيّون على أن يقدّموا نموذجهم الذي سمّوه «عيشاً مشتركاً»، بديلاً عن النموذج الصهيونيّ لإسرائيل.

يومذاك كان التأمّل ممكناً ونقاش التأمّلات ممكناً أيضاً، تماماً كما كانت الشطارة. وبرغم النكبة، ثمّ الانقلابات العسكريّة التي راحت منذ 1949 تضرب الجوار السوريّ، ومحاولة انقلاب فولكلوريّة نفّذها أنطون سعادة، «زعيم» القوميّين السوريّين، وأُعدم بنتيجتها، لم يعرف لبنان، في 1952، أكثر من «ثورة بيضاء» أطاحت ببشارة الخوري وعهده. وهذه كانت أشبه بمشاجرة قرويّة أو مباراة زجليّة، اندرجت في تاريخ من العراضات التي كانت تنتهي بتبويس اللحى، وباكتشاف أنّنا أخوة متحابّون.

وظلّ ممكناً، حتّى أواسط الخمسينات، الحفاظ على طريقة الحياة هذه. وكان ما يسهّل الأمر أنّ الأنظمة العربيّة، ما قبل الانقلابات، شابهت نظام لبنان. فهي أيضاً حرصت على علاقة جيّدة مع الدول الغربيّة، وأبقت على الإدارة والتعليم كما أنشأهما الاستعمار الغربيّ، كما أقدمت على محاولات تجريبٍ في البرلمانيّة شابتْها، كما كلّ المحاولات الأولى، شوائب ونواقص.

ولأنّهم رأوا البلد رائقاً ومُطَمْئناً، التحم به المسيحيّون الذين أسّسوه التحاماً صوفيّاً. فهو عندهم ليس وطناً فحسب، بل هو البيت والجبل والبحر، وهو عصارة الكون و«أرز الربّ» الذي لا يكون الشاعر شاعراً إن لم يكتب نصف شعره عنه، ولا يكون المغنّي مغنّياً إن لم يُغنّ له. هكذا رُفعت الوطنيّة إلى ديانة متعالية ومطلقة تطالب بالموافقة على كلّ حرف فيها. أمّا الذي يشكّك بهذه الفهم للوطنيّة فجرى التشكيك بلبنانيّته نفسها. وفي المقابل، حافظ المسلمون على مسافتهم الهادئة التي تفضّل أن يكون الوطن جواز سفر وفرصة عمل وعلاقة جوار ولا تستسيغ رومنطيقيّة الريف وهذا الاحتفال الدائم بالنفس. والمسافة تلك كان يمكنها، لو اختلفت الظروف، أن تعقلن الوطنيّة اللبنانيّة وتثبّتها على سكّة أكثر دستوريّة وديمقراطيّة، بيد أنّ أواسط الخمسينات راحت تدفع في اتّجاهات أخرى.

فمع تمكين جمال عبد الناصر قبضته في مصر، نشأ قاموس سياسيّ جديد في المنطقة مفرداته الثورة والتحرير ومكافحة الاستعمار وتخوين «أعوان الاستعمار» والتحريض على إسقاطهم، وهذا فضلاً عن تعطيل الأحزاب السياسيّة وتأميم الصحافة وتدجين النقابات وهروب الرساميل. لقد استقرّت الرئاسة والزعامة في يد ضابط، وفي 1956 تحديداً، مع «حرب السويس» أو «العدوان الثلاثيّ»، انهالت على ذاك الضابط أوصاف هي غالباً ممّا يُمنح للأنبياء والرسل.

جمال عبد الناصر، ياسر عرفات، معمر القذافي والملك حسین في القاهرة عام 1970 (غيتي)

هكذا راح يتبدّى كأنّ الحياة اللبنانيّة، كما رسمها القاموس السائد، هي في أحسن أحوالها نعيم مضجر لا يطاق، وفي أسوأها هروب جبان من صناعة الأقدار والمصائر الملحميّة. فالمنطقة باتت تنتج العداوات وتستهلكها بنهم وشراهة، فتطرد أفكار التوافق والتسوية، فيما هي تغلق البرلمانات تباعاً، ولا ترى طريقاً إلى المستقبل غير نكء جراح الماضي. وبات لبنان مطالَباً بأن يكون له موقف: فبدعوة من رئيس الجمهوريّة كميل شمعون، عُقدت في بيروت قمّة للتضامن مع مصر، وأكّد بيان القمّة الختاميّ على «مناصرة مصر ضدّ العدوان الثلاثيّ (...) واعتبار سيادة مصر أساس حلّ قضيّة السويس، وتأييد نضال الشعب الجزائريّ من أجل الاستقلال». لكنّ عبد الناصر أراد أكثر كثيراً، فطلب من الحكومة اللبنانيّة قطع العلاقات مع فرنسا وبريطانيا. وكان طبيعيّاً أن يرفض شمعون طلباً كهذا. فهو، من جهة، يقطع بعض الشرايين الأساسيّة لبلد ناشئ يرى أنّ علاقته بالغرب شرط شارط لازدهاره ولتعليمه. وهو، من جهة أخرى، يغيّر معنى لبنان كما رسمه «الآباء المؤسّسون». وعلى عكس ما أشيع، لم يكن في ذلك شيء من «الانعزال عن العرب»، إذ الأكثريّة الساحقة من الحكّام العرب كانت ترى ما رآه شمعون، وتتخوّف من «المارد الأسمر» مثلما تخوّف.

لكنّ الأمر لم يقتصر على حاكم مصر العسكريّ. فيومها كان الاتّحاد السوفياتيّ ما بعد الستالينيّ، والضالع في حرب باردة مع الغرب، يتقدّم من الشرق الأوسط، وكانت سوريّا، التي تحدّ لبنان من الشمال والشرق، تخضع لحكم ضبّاط يختبئون خلف واجهة مدنيّة. وكان هؤلاء الضبّاط، من ذوي الميول القوميّة العربيّة والبعثيّة، قد سحقوا خصومهم من «حزب الشعب» والقوميّين السوريّين وشرعوا يدفعون بلدهم نحو وحدة اندماجيّة مع مصر الناصريّة. وفي المعمعة هذه بدأت إعادة تأسيس القضيّة الفلسطينيّة بوصفها قضيّة لا تُعالَج بالهدنة والسياسة والوساطات الدوليّة، بل بتحريرٍ يعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل 1948. هكذا ارتسمت العداوة، التي حرص لبنان على تجنّبها، قدراً لا سبيل إلى تجنّبه، ولا تستطيع الشطارة تذليله.

عودة المكبوت

وكانت قضيّة فلسطين بالطريقة التي صارت تُطرح فيها أشبه بعودة المكبوت وهو جريح مُدمّى. فالفلسطينيّون الذين طُردوا من أرضهم وبيوتهم، وفي عدادهم مائة ألف نزحوا من الجليل إلى لبنان، وجدوا في عبد الناصر وإذاعة «صوت العرب» ما يغريهم بالعودة والتحرير، ويقنعهم بانسداد طرق السياسة والتسويات. وفي لبنان استيقظ مكبوت آخر هو تاريخ البلد نفسه، إذ صار إنشاء «لبنان الكبير» في 1920 قابلاً لإعادة النظر. فهو ضمّ، في الأطراف، أكثريّات إسلاميّة مشدودة اقتصاديّاً وقرابيّاً وعاطفيّاً إلى سوريّا وفلسطين، لكنّ الأطراف هذه وُحّدت مع ما كان متصرفيّة جبل لبنان ذات اللون المسيحيّ الطاغي. وفي ظلّ توازنات القوى الجديدة، من تحوّلات الديموغرافيا اللبنانيّة إلى الصعود الناصريّ، لم يعد مقبولاً ما بدا مقبولاً على مضض صامت في زمن أسبق. فالسياسة الموصوفة بممالأة الغرب وبمناوأة عبد الناصر، والنظام الرئاسيّ، خصوصاً وقد زوّر انتخابات 1957 وأسقط معظم القادة المسلمين لتعاطفهم مع الزعيم المصريّ، باتا عبئاً على استمرار النظام. وفي 1958، وبعد شهرين على قيام الوحدة المصريّة السوريّة، انفجرت حرب أهليّة طائفيّة كانت تمريناً أوّليّاً على حروب أشدّ شراسة سوف تلي. هكذا بدا أنّ يقظة القديم المسكوت عنه لا تأتي إلاّ على شكل حرب.

مظاهرات ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان في سبتمبر (أيلول) 1984 (غيتي)

وفي تسوية أميركيّة - مصريّة، جيء بفؤاد شهاب رئيساً موصوفاً بالقدرة على توحيد لبنان. فهو، وإن كان مارونيّاً لا يرقى الشكّ إلى مارونيّته، لم يزجّ الجيش، بوصفه قائداً له، في مواجهة 1958. لكنّ نجاح تجربة الإصلاح الشهابيّ استدعت ربط السياسة الخارجيّة للبنان بالقاهرة، وأُحكمت السيطرة على الإعلام اللبنانيّ. كذلك زُوّرت انتخابات 1964 مثلما زُوّرت انتخابات 1957 إنّما على نحو معكوس، فأُسقط كميل شمعون وريمون إدّه، ومُنح جهاز «الشعبة الثانية» صلاحيّات يصعب تبريرها في نظام برلمانيّ. وما كادت تنتهي التجربة الشهابيّة، في النصف الثاني من عهد شارل حلو، حتّى انشقّ اللبنانيّون من حول المقاومة الفلسطينيّة الناشئة للتوّ، ووجدنا أنفسنا على أبواب حرب لن تلبث أن تندلع.

في تلك الغضون حاول الرحابنة وفيروز إقناعنا بأنّ مشاكلنا بسيطة، ناجمة عن سوء فهم وقابلةٌ لأن تُحلّ بالتفهّم والمحبّة، على غرار ما يحصل في القرى برعاية الشاويش والمختار. إلا أنّ الأعرف بيننا شرعت تُضحكهم تلك النهايات السعيدة. ذاك أنّ قاموسين مكتملين ارتسما في الأفق يتجاوزان الانقسام الحاصل ما بين تأييد الجيش وتأييد الفدائيّين الفلسطينيّين. فالقاموس الأوّل تعامل مع لبنان بوصفه بلداً ناجزاً، لا ينقصه إلاّ بعض الإصلاح، وكان أصحاب هذا القاموس يستوحون بلدان أوروبا المستقرّة نموذجاً لهم. أمّا القاموس الثاني فاعتبره بلداً فادح النقص ينبغي أن يعاد تأسيسه من صفر، وأصحابُ هذا القاموس كانوا يجدون نماذجهم في بلدان «العالم الثالث» المندرجة حينذاك في مكافحة الاستعمار. والقاموس الأوّل ظلّ، رغم كلّ شيء، يرسمه بلداً رائعاً أنجز تحرّره ولم يعد بحاجة لأن يحارب ويقاتل لأنّ تاريخ الآلام بات وراءه، فيما كان القاموس الثاني يرسمه بلداً شنيعاً وكريهاً لا يزال عليه أن يجتاز شوط التحرّر الطويل. أمّا الحروب والعذابات فإنّما تبدأ للتوّ، وهي ستكون هذه المرّة أكبر من أيّ وقت سابق. والأسوأ أنّ ما ظنّه أهل القاموس الأوّل أدوات تحرّر، كالجامعة والمصرف، كان بالضبط ما ظنّه أهل القاموس الثاني أدوات استعبادٍ تُعزّز ربطنا بـ«الإمبرياليّة والاستعمار والرجعيّة العربيّة». وهم اقترحوا علينا، بعد أن نطلّق هؤلاء كلّهم، نماذج بديلة كسوريّا والعراق البعثيّين واليمن الجنوبيّ المتمركس والبلدان الشيوعيّة في أوروبا الشرقيّة. وعلى العموم، أصبحنا مثل رجل مصاب بمرضين، واحدٍ يُعالَج بالإكثار من تناول المسكّنات والآخر يُعالَج بالامتناع عن تناولها.

وفي أواسط السبعينات شرعنا نتحرّر، فإذا بها حرب أهليّة متمادية وضروس، صبغتْها المجازر وتطهير المناطق أو تطهّرها من المختلفين، وهذا ناهيك عن تعطيل الدولة وشيوع الميليشيات ممّا راح يتعاظم مذّاك. وفي آخر المطاف تأدّى عن ذلك اجتياح 1982 الإسرائيليّ، فلم يتحرّر اللبنانيّون ولا انتصر الفلسطينيّون.

سيدة لبنانية تطلب النجدة لزوجها الذي سقط جريحاً في اشتباكات ببيروت (غيتي)

أمّا دعاة الحلّ عبر انتصار كاسح يحتمي بالغزو الإسرائيليّ فرأوا أنّ رئاسة بشير الجميّل تطوي صفحة الماضي. هكذا رُفض كميل شمعون أو بيار الجميّل كمرشّحين للرئاسة، وهما مَن هما في التصلّب المسيحيّ، ولم يعد مقبولاً في موقع الرئاسة إلاّ رمز التحدّي وقائد الميليشيا بشير الجميّل. فالردّ على ما اعتبره أغلب المسيحيّين خيانة المسلمين بانحيازهم إلى المقاومة الفلسطينيّة واعتبارها جيشهم لا يكون إلا ببشير. لكنّ الأخير اغتيل قبل وصوله إلى قصره، ثمّ كانت حرب الجبل وحرب المخيّمات وحرب الإلغاء وحرب التحرير، وراحت الكراهية، في وداع متعدّد الفصول للبنان القديم، تشقّ طريقها من الأجسام الاجتماعيّة الأكبر إلى الأجسام النواتيّة الأصغر.

والحال أنّ لبنان القديم لم يكن سيّئاً، وهو قطعاً كان أفضل الموجود في الشرق الأوسط. صحيح أنّ القصور والخطأ لازماه لكنّ النجاحات التي لازمته كانت أكبر. فهنا، وبفعل الحرّيّة المتاحة، كان التاريخ يتحوّل ويفتح باباً للاحتمال، وخلال سنوات قليلة من عمر الاستقلال تمدّدت الرأسماليّة من المركز إلى الأطراف، واشتدّ عود الطبقة الوسطى، وحصل اللبنانيّون على تعليم جيّد جعلهم شعباً مؤهّلاً لكثير من الأدوار والوظائف في داخل بلدهم وفي خارجه، كما اتّسع نطاق العمل الحزبيّ والنقابيّ مثلما اتّسعت رقعة الإعلام وما يمارسه من نفوذ. وهذا جميعاً لم يترافق مع ظهور ديكتاتور أو آيديولوجيا رسميّة تقول للسكّان: هكذا كونوا ولا تكونوا هكذا.

عبادة الأسد ونصر الله

لكنْ إبّان الحرب المديدة التي كسرت لبنان القديم جدّ عاملان شدّانا من شَعرنا إلى الانحطاط وكان لهما دور بارز في تأسيس الجمهوريّة الثانية. فقبل الغزو الإسرائيليّ وبعده، فرض نظام الوصاية، وعلى نحو غير مسبوق في لبنان، آيديولوجيا رسميّة على لبنانيّين كانوا قبلذاك أحراراً. هكذا لم يعد مقبولاً أن نفكّر ونناقش ونستنتج في ما يخصّ «عروبة لبنان» أو «قداسة المقاومة». وكان من نتائج التحوّل هذا انكماش الفضاء العامّ وازدهار التلقين والتخوين والتشهير في التعامل مع الرأي الآخر، تماماً كما هي الحال في الأنظمة الديكتاتوريّة والتوتاليتاريّة المؤسّسة على العداء والكراهية.

ومنذ ذلك الحين راحت تتزايد المقدّسات في حياتنا كما تتزايد المدنّسات. وكانت ثنائيّة المقدّس والمدنّس، وهي دوماً طريق إلى العنف والعداوة، تمهيداً لعبادة أولياء صالحين كان أبرزهم حافظ الأسد ومن بعده حسن نصر الله. وراح يتبدّى بجلاء، وعلى عكس الحكمة الشائعة، أنّ الجمع مستحيل بين أن تكون مقاوماً وأن تكون حرّاً يقتل نفسه فدى لحذاء زعيم. وهذا، بطبيعة الحال، جاء مصحوباً بفقر أكبر وتعليم أسوأ وهجرات شبابيّة إلى سائر أرجاء المعمورة.

أمّا العامل الآخر فكان الثورة الإيرانيّة، أعظم الكوارث التي شهدتها منطقتنا في تاريخها الحديث. فمعها لم تعد العداوة والعنف يستهدفان طرفاً في حاضرنا، بل باتا يدفعاننا عميقاً في الماضي إلى يزيد بن معاوية والحسين بن عليّ. فكأنّما العداوة أصل أصيل في البشر ما إن يبرأوا منه حتّى يبرأوا من بشريّتهم. وبعدما كان عيب الثورات إصرارها على فرض التنوير دونما اكتراث بالواقع، بات عيب هذه الثورة إصرارها على رفض التنوير من أساسه.

عرض لـ«حزب الله» في الضاحية الجنوبية لبيروت نهاية 1989 في الذكرى الأولى لأول عملية انتحارية ضد جنود إسرائيليين في بلدة كفركلا (غيتي)

وعن الرعايتين السوريّة والإيرانيّة، وفي ظلّ تردّي الجسد اللبنانيّ المنهك بحروبه، انتهت السياسة، فرمزَ إلى نهايتها الطاقم الذي تولّى الحكم متوّجاً بالرئيس إميل لحّود، الموظّف المطواع لدى المتحكّمين في دمشق وطهران. أمّا الثمرة الأكبر التي نجمت عن زواج الرعايتين هاتين فكان «حزب الله» الذي استثني من حلّ الميليشيات، كما قضى به اتّفاق الطائف، بذريعة الاحتلال الإسرائيليّ ومقاومته.

لكنّ زوال الاحتلال في 2000 لم يُنه السلاح الذي ازداد افتتاناً بذاته، وفي حرب 2006 أضاف العرب إلى افتتانه بنفسه افتتانهم به، إذ، كما قيل، صمد وقاتل وهزم إسرائيل. وما لبث هذا الحزب، بعد عامين فحسب، أن وضع يده على بيروت بعدما غزاها وأذلّها. وعلى مدى تلك المرحلة التي جعلت لبنان ملحقاً بـ«حزب الله»، راح يهطل علينا القتل والقتال والشهادة والشهداء بوصفهم الصناعة الحصريّة للبنان، وانقسم المواطنون إلى واحد يحمي وآخر يُحمى، وهما كانا ينقلبان، حين تستدعي الظروف، إلى واحد يهدِّد وبيده السلاح، وآخر منزوع السلاح يُهدَّد وليس له إلا الله. والحقّ أنّ الصناعة الإيرانيّة - السوريّة، وبالاستفادة من التصدّع اللبنانيّ لما بعد الحرب، نجحت في جعل الوحش أكبر من الغرفة التي يقيم فيها، بحيث غدا تهديم الغرفة شرطاً لقتل الوحش.

وإذ أصبح اكتساب الأصدقاء وبناء الجسور تهمة، غدت أعمال التفجير والاغتيال والخطف رياضة يوميّة. وحتّى لو وضعنا جانباً تلك الارتكابات التي طالت لبنانيّين وأجانب، وكانت بمثابة حرب تطهيرٍ للبنانيّة المعروفة، بقي اغتيال رفيق الحريري في 2005 والاغتيالات اللاحقة لسياسيّين وصحافيّين شهادةً على أنّ الوطن الواحد صار مهمّة صعبة، إذ انشطر السكّان إلى قاتل وقتيل.

وفيما توطّد نظام تقسيم العمل بين المقاومة والفساد، شاعت لدى بعض اللبنانيّين لغة ورواية للتاريخ مزعومتان لا تنطويان إلاّ على الضدّيّة وتمجيد العنف. فنحن منذ كنّا، وبغضّ النظر عمّا نفعل، مُستهدَفون بالأطماع، وليس متاحاً لنا إلاّ القتال حتّى نهاية العالم، وأمّا الكرامة فلا تُكتسب بالعلم أو التقدّم أو الإنجاز، بل هي تعريف أن نقاتل إسرائيل. وهذا، في عمومه، كان برنامجاً لتصغير العقل وشفط المعرفة وتلغيز العالم.

وبدوره جاء صعود ميشال عون في الوسط المسيحيّ ليعلن تمكّن السمّ من المسيحيّين. فهم تصرّفوا كالعامل الذي يضطهده ربّ عمله فيفجّر غضبه انتقاماً من زوجته ومن أبنائه. هكذا حاولت العدوانيّة العونيّة، المغطّاة بكثير من الزجل، أن توهمنا بأنّ الالتحاق بـ«حزب الله» هو وحدة بين أنداد متساوين يخوضون معاً حرب الأقلّيّات. ولاحقاً، إبّان حرب «حزب الله» في سوريّا، حاول الطرفان إيهامنا بأنّنا ننتقل من سويّة التحرّر الذي أنجزناه إلى سويّة التحرير الذي ننخرط فيه. فبدل التوقّف لمراجعة الأكلاف الهائلة التي رتّبها علينا «التحرّر» منذ ابتدائه في 1975 حتّى تصاعده النوعيّ مع «حزب الله»، هربنا إلى «التحرير» عبر احتلال جزء من سوريّا وقتل السوريّين وتهجيرهم.

امرأة تحمل صورة لأمين عام «حزب الله» وتعبر بها وسط الدمار في بلدة عيتا الشعب بجنوب لبنان (أ.ب)

وأن تسيطر إيران، من خلال «حزب الله»، على قرارات البلد الأساسيّة فهذا متعدّد الأبعاد والمعاني، لكنّ المعنى الذي يهمّنا هنا هو أنّ العداوة والضدّيّة والعنف باتت عنواناً لحياتنا العامّة، حيث «الموت عادة» و«كلّ يوم كربلاء وكلّ أرض عاشوراء».

وإذ وفّرت حرب غزّة مسرحاً نموذجيّاً للعيش وفق القتال، بات واضحاً أنّ الخيارين اللبنانيّين وصلا إلى نقطة اللاعودة، وأنّه بات من المشكوك فيه أن يتصالح هذان التصوّران عن لبنان وعن العيش فيه حتّى لو هبّت رياح إقليميّة ودوليّة لغير صالح الحزب المسلّح.

صحيح أنّ هذا التناول لم يتوقّف عند أخطاء كثيرة ارتكبها الجميع، وارتكبتها الطوائف كلّها، والحكّام جميعاً، أكان في إدارة البلد أو في اقتصاده أو تعليمه أو غير ذلك. لكنّ هذه العوامل، على أهميّتها، لم تكن سبب تفجيره وجعله مستحيلاً. فأغلب الظنّ أنّ المشكلة الأمّ تكمن في السؤال: أيّ لبنان نريد؟ وهل نغلّب الصداقة أو نغلّب العداوة؟ فاللبنانيّون لم يتّفقوا في الأساسيّات، وكلُّ ما يلوح في الأفق يوحي أنّ عدم اتّفاقهم سيكبر ويتعاظم. وهذا ما يُلزمهم، أو يُفترض أن يلزمهم، بالتفكير في عدم اتّفاقهم وفي تحويله إلى نظام وإلى مؤسّسة يحلّان محلّ الفوضى المشبعة باحتمالات العنف الخصبة. والأسرع الأفضل، كي لا تنتهي بنا الحال إلى ما انتهت بـ«الحمار الفلسفيّ» الذي كتب عنه فيلسوف القرن الرابع عشر الفرنسيّ جون بوريدان. ذاك أنّ حماراً ضربه الجوع والعطش وجد نفسه في النقطة الوسطى بين كومة قشّ وسطل ماء، فراح يفكّر: هل أشرب أوّلاً أو آكل أوّلاً؟ وظلّ يطرح هذا السؤال على نفسه إلى أن مات جائعاً وعطشاناً معاً.

* ألقي هذا النصّ في ندوة استضافها «حزب الكتلة الوطنيّة» في لبنان.


مقالات ذات صلة

الجمهوريون يضيّقون الخناق على وزير الحرب بيت هيغسيث

الولايات المتحدة​ طائرات حربية أميركية تشارك في الضربات على قوارب يشتبه بتهريبها المخدرات في البحر الكاريبي (أ.ف.ب) play-circle

الجمهوريون يضيّقون الخناق على وزير الحرب بيت هيغسيث

تتصاعد حدة التوتر داخل المعسكر الجمهوري تجاه وزير الحرب الأميركي بيت هيغسيث وتطورات تشير إلى تآكل في الثقة قد يمهّد لمرحلة من الصدام المفتوح داخل الحزب.

إيلي يوسف (واشنطن)
الولايات المتحدة​ وزير الجيش الأميركي دان دريسكول (أ.ب)

دان دريسكول... أصغر وزير جيش في أميركا وقائد مفاوضات إنهاء حرب أوكرانيا

رغم صغر سنه وحقيقة أنه أصغر وزير جيش أميركي في تاريخ البلاد، فقد وقع الاختيار على دان دريسكول من قبل دونالد ترمب لقيادة محادثات إنهاء حرب أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس التركي في أنقرة... 19 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب) play-circle

زيلينسكي يواجه أزمات متلاحقة... ما أبرز التحديات؟

يواجه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي سلسلة من الأزمات التي تختبر قدرته على قيادة بلد أنهكته الحرب بعد نحو أربع سنوات على الغزو الروسي الواسع.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا مجندون للقتال في صفوف الجيش الروسي (أب - أرشيفية)

شبان أوكرانيون يتجنبون التجنيد الروسي في المناطق التي تحتلها موسكو

يُقْدِم شبان أوكرانيون على الهروب من سكنهم تجنباً للتجنيد الروسي في المناطق التي تحتلها موسكو.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا المكان المخصص في مقبرة كتابوي لعائلة فرنكو بمدينة فيرول مسقط رأس الديكتاتور (رويترز)

خمسون عاماً على رحيل فرنكو

منذ خمسين عاماً، طوت إسبانيا صفحة الجنرال فرنسيسكو فرنكو الذي قاد أطول نظام ديكتاتوري في تاريخ أوروبا الغربية الحديث

شوقي الريّس (مدريد)

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
TT

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

فوجئ الغزيون منذ أشهر قليلة، بإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي لمؤسسة غامضة اسمها «المجد أوروبا»، تحفزهم على الهجرة وتعدهم بالوصول إلى أوروبا.

ورغم كثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، لم يتوانَ البعض عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم. وبالفعل، سيّرت المؤسسة 3 رحلات جوية لنحو 300 فلسطيني خرجوا من القطاع في ظروف استثنائية ورحلة يكتنفها الكتمان والسرية. لكن الوجهة لم تكن بلدان أوروبا الموعودة؛ وإنما جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

«الشرق الأوسط» تحدثت إلى إحدى المسافرات على متن تلك الرحلات، وتعقبت تفاصيل تسجيل الأسماء والمبالغ المدفوعة، ورصدت انطلاق الركاب بحافلات صغيرة من دير البلح، تحميها مسيّرات حتى لحظة الوصول إلى مطار رامون الإسرائيلي، ومن هناك تقلع الطائرات نحو نيروبي، ثم جوهانسبرغ، لتترك المسافرين أمام مصير مجهول.

وبين اتهامات دولية بأن المؤسسة تنفذ خطة إسرائيلية - أميركية لإفراغ غزة من سكانها، ورغبة المدنيين بالفرار من جحيم الحرب والجوع، تستمر الإعلانات على وسائل التواصل، ويستمر كثيرون في محاولات النجاة بأي ثمن.


رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

TT

رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)
طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)

لأشهر عديدة استمرت جنين (ب)، من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، تتواصل مع قائمين على إعلان ممول عبر «السوشيال ميديا»، يهدف لاستقطاب الغزيين للهجرة إلى الخارج. وعمد الإعلان إلى تحديد الوجهة «إلى أوروبا» لتحفيزهم بشكل أكبر، باستغلال الحرب الدامية في القطاع.

الإعلان الممول عبر «فيسبوك» حمل اسم مؤسسة «المجد أوروبا»، التي يسمع بها الغزيون داخل القطاع للمرة الأولى، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، إلا أن البعض لم يتوانَ عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم، أو بصيص أمل يمنحهم حياة مختلفة بعيداً عن أصوات القصف وأهواله التي لم تتوقف على مدار عامين.

 

رحلة محفوفة بالكتمان

لم يكن الوصول إلى أحد الغزيين الذين استقلوا تلك الرحلات بالأمر اليسير؛ ففضلاً عن السرية المطبقة التي أحاطت وتحيط بخروجهم من القطاع وسط ظروف أمنية وإنسانية سيئة للغاية، فإن ظروفهم الحالية وأوضاعهم القانونية لم تتثبت بعدُ في البلدان التي وصلوا إليها. ومن قريب إلى آخر، وبشبكة ثقة عبر أفراد الأسرة المقربين، تواصلنا عبر «واتساب» مع جنين التي تحدثت إلينا بعد تردد كثير، وفضّلت عدم ذكر هويتها كاملة، خشية الملاحقة من الدولة الموجودة فيها حالياً.

صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

وتقول جنين لـ«الشرق الأوسط» إنها للوهلة الأولى كانت مترددة جداً في التواصل مع الرقم الذي وضعته المؤسسة في إعلانها، ثم قررت المجازفة والتواصل، وبعد التأكد من أنها تتحدث مع أشخاص يستعملون أرقاماً إسرائيلية، قررت وضع اسمها وزوجها وثلاثة من أبنائها، ضمن من قرروا الهجرة من غزة، بحثاً عن حياة آمنة.

تشير جنين إلى أنها كانت تخشى أن تقع ضحية عملية نصب كما جرى مع الكثير من الغزيين خلال وقبيل الحرب، إلا أنها تلقت تطمينات ممن كانوا يتحدثون معها بأن دفع المال بالنسبة لهم يأتي كـ«خطوة أخيرة ولا يهتمون به»، وهذا ما شجعها على استكمال خطواتها نحو البحث عن أمل جديد لها ولعائلتها التي عانت كثيراً خلال الحرب.

وكشفت السيدة أن الإجراء بدأ بإرسال معلومات تفصيلية عنها وعن أفراد عائلتها الراغبين في السفر، مثل الاسم الرباعي ورقم الهوية ورقم جواز السفر، ومعلومات شخصية متكاملة، ثم قالت إنه طُلب منها مبلغ 1500 دولار عن كل فرد بمن فيهم الأطفال، وإنها أبدت استعدادها لدفع المبلغ عند اكتمال الإجراءات.

تدقيق أمني في الأسماء

وبقيت جنين تتواصل بين الفينة والأخرى مع القائمين على المؤسسة لمعرفة تفاصيل عن مواعيد السفر، مشيرةً إلى أنها كانت تتلقى «تطمينات بأن العملية مستمرة وفق الخطوات المطلوبة»، ولافتةً إلى أن المؤسسة أوضحت لها أن «هناك إجراءات فحص أمني مشددة تجري حول كل شخص» سيخرج من القطاع، حتى لا يكون «بينهم عناصر من (حماس) أو أي فصيل فلسطيني آخر يوصف بأنه إرهابي».

وذكرت أنه بعد 3 أشهر ونصف الشهر تلقت رسالة مفاجئة على هاتفها الجوال، وكذلك هاتف زوجها، تبلغهم بالاستعداد خلال 6 ساعات للتجهّز، وألا يجلبوا إلا الأوراق الثبوتية اللازمة، مشيرةً إلى أنه تم تحويل الأموال المطلوبة للسفر قبل ذلك بأيام عبر حسابات تتعامل بشكل أساسي مع العملات المشفرة، وعبر التطبيقات الإلكترونية للمحافظ الخاصة بالعملات الأجنبية.

من دير البلح عبر مطار رامون

وبحسب جنين، خرجت العائلة بحافلة صغيرة من مكان قرب دير البلح وسط قطاع غزة، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، حملتها وعائلتها مع نحو 40 شخصاً آخرين، وتوجهوا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وصولاً إلى نقطة عسكرية في ما يبدو أنها شرق خان يونس أو رفح، ومنها نُقلوا إلى داخل معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون الإسرائيلي في النقب، ومن هناك سافروا إلى جنوب أفريقيا. ولفتت جنين إلى أنه كان هناك عدد آخر من سكان القطاع وصلوا قبلهم من خان يونس.

ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الحافلة حتى وصولها للموقع الإسرائيلي ما بين خان يونس ورفح، حلقت طائرتان مسيّرتان فوق الحافلة ورافقتاها حتى وصولها لنقطة العبور إلى الداخل الإسرائيلي.

فلسطينيون يمرون قرب عربة عسكرية إسرائيلية مدمرة في مدينة غزة الخميس (أ.ب)

وكانت جنين (ب) وأفراد عائلتها جزءاً من الرحلة الأولى التي تنظمها مؤسسة «المجد أوروبا»، وتمت عملية وصولها ودخولها إلى جنوب أفريقيا عبر دولة أخرى، أسهل بكثير مما واجهه فلسطينيون آخرون احتُجزوا ساعات طويلة في طائرة أقلّتهم من نيروبي بعد أن اكتشفت السلطات أنهم لا يمتلكون أوراقاً كاملة، منها تذاكر عودة، وكذلك ختم جوازات سفرهم من قبل إسرائيل، كما كان في الرحلة التي على متنها جنين (ب).

 

رحلات «المجد أوروبا»

 

وتظهر بعض الشهادات لفلسطينيين أن مؤسسة «المجد أوروبا» نجحت في تسيير 3 رحلات جوية لفلسطينيين من داخل قطاع غزة، من مايو (أيار) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2025، وكانت الأولى وجهتها إندونيسيا، وعلى متنها 57 من سكان القطاع، بعد أن هبط من كانوا على متنها في بودابست، انطلاقاً من مطار رامون نفسه، في حين كانت الرحلة الثانية في أكتوبر الماضي للانتقال من مطار رامون باتجاه نيروبي، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهي الحال ذاتها مع الرحلة الأخيرة خلال الشهر الماضي.

وأثارت هذه الرحلات العديد من التساؤلات حول مؤسسة «المجد أوروبا»، التي تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها «منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، متخصصة في تقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع والحروب».

عرب في إسرائيل خلال مظاهرة ضد تهجير الغزيين في 8 فبراير من العام الحالي (أ.ف.ب)

وأشارت المؤسسة إلى أن مقرها الرئيسي في القدس، وتحديداً حي الشيخ جراح، لكن زيارة صحافيين فلسطينيين في القدس إلى الموقع المذكور كشفت أنه لا يوجد أثر فعلي للمؤسسة، وأن المقر الذي وضعته تبيّن أنه لمبنى مهجور.

وتزعم المؤسسة أنها منذ العام الماضي تركز جهودها بشكل أساسي على دعم أهل غزة، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، بما يشمل تسهيل وصول المرضى إلى الرعاية الطبية الحرجة، وتأمين السفر إلى الخارج للعلاج، وضمان مرافقة ذويهم لهم طوال فترة العلاج.

هل «الصحة العالمية» متورطة؟

يفتح هذا الأمر تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مؤسسة «المجد أوروبا» هي مَن أدارت وتدير فعلياً عمليات خروج بعض الجرحى ومرافقيهم من داخل قطاع غزة، تحت ستار التنسيق مع «منظمة الصحة العالمية»، للعلاج في الخارج، ومن ثم مغادرتهم لدول أوروبية وغيرها.

وتفيد مصادر أمنية من غزة لـ«الشرق الأوسط» بأنه في الحقيقة كان هناك العديد من الرحلات التي تم تسييرها من داخل القطاع في خضم الحرب، وكان هناك استغلال واضح للظروف الأمنية وملاحقة رجال الأمن والمقاتلين وغيرهم، الأمر الذي سهّل عمليات السفر بهذه الطريقة المشبوهة.

وصول عائلات فلسطينية من غزة إلى مطار جنيف لتلقي العلاج في مستشفيات سويسرية بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (إي بي أي)

وتشير المصادر إلى أن هناك عائلات خرجت بذريعة المرض والحاجة للعلاج، وهناك أيضاً مرضى فعليون سافروا إلى دول عربية وأوروبية للعلاج، وذلك من خلال آلية رسمية وعبر منظمة الصحة العالمية التي كانت جهزت قوائم للمرضى ذوي الأولوية، ومنهم جرحى الحرب.

بالعودة إلى مؤسسة «المجد أوروبا»، فإنه عند فتح موقعها الإلكتروني تظهر تنويهات، منها وضع أرقام شخصين حملا اسم «عدنان» و«مؤيد»، وأحدهما يحمل رقماً فلسطينياً والآخر إسرائيلياً، في حين وُضع رقمان آخران من إسرائيل للمؤسسة للتواصل عبر «واتساب»، داعيةً في التنويه من يدخل الموقع إلى ضمان سير إجراءات التنسيق بشكل سليم، ودفع الرسوم عبر الأرقام التي وُضعت، وعدم التعامل مع أي أرقام أخرى. كذلك تحذّر المؤسسة في تنويه آخر من التعامل مع أي وسيط خارجي، مؤكدةً أنه لا يوجد وساطة في عملية التسجيل، أو تسريع الحصول على تصريح أمني للسفر، أو تفضيل شخص على آخر، في طريقة تهدف إلى تنبيه من يسجل للسفر من الوقوع في الاحتيال أو النصب.

تنفيذ لخطة إسرائيلية

ذهب البعض في قطاع غزة وخارجه إلى التأكيد أن المؤسسة تتبع بشكل مباشر جهات رسمية إسرائيلية، وتأتي في إطار تشجيع الهجرة من غزة لتفريغها. وبالإضافة للأخطاء الإملائية الكثيرة التي ترد في تعريفها بنفسها، وحتى في اسمها، فإن الأرقام المستخدمة إسرائيلية، والأهم أن المؤسسة تقوم بالحصول على موافقات أمنية للسفر إلى الخارج، ما يؤكد أنها على صلة وثيقة بالسلطات الإسرائيلية، وتنطلق رحلاتها من مطار إسرائيلي، ونشاطاتها بدأت تبرز بشكل أساسي بعد سيطرة إسرائيل بشكل أكبر أمنياً على القطاع .

وأكثر من ذلك، كشف مختصون في التكنولوجيا، بينهم فلسطينيون وعرب، أن الموقع التابع للمؤسسة تم إنشاؤه في الثاني من فبراير (شباط) من العام الجاري، وتم تسجيله في آيسلندا.

وأقرت مصادر إسرائيلية في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية بأن مؤسسة «المجد أوروبا» سلّمت الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية قوائم مسبقة تتضمن بيانات الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والذين سجلوا أنفسهم عبر الموقع الإلكتروني أو بالتواصل مع القائمين على المؤسسة.

وبحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن مؤسسة «المجد أوروبا» مرتبطة بشركة «تالنت غلوبس»، وهي شركة مسجلة في إستونيا، ومؤسسها تومر جانار ليند، وهو إسرائيلي - إستوني. وأشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة تنسق مع إدارة في وزارة الدفاع الإسرائيلية أُنشئت بدورها في فبراير من العام الجاري، بهدف «تسهيل الهجرة الطوعية» للغزيين، وقد تم استحداثها بشكل أساسي في أعقاب اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح باب الهجرة الطوعية لسكان القطاع.

أب وطفله يصلان إلى مطار جنيف في سويسرا ضمن رحلة علاجية شملت 13 طفلاً و51 عائلة فلسطينية خرجت من غزة بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (أ.ف.ب)

في الثامن عشر من نوفمبر من العام الجاري أصدرت المؤسسة بياناً أكدت فيه أنها تتعرض لحملة تشويه وتشهير كبيرة، بهدف تجريد سكان غزة من حريتهم في اختيارهم وتقرير مكان عيشهم، وإجبارهم على البقاء تحت خطر مباشر ومعاناة يومية، وحرمانهم من أي فرصة لإنقاذ حياتهم أو تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، مؤكدةً أنه لا علاقة لها بإسرائيل سوى تنسيق عمليات الخروج معها، ومشددةً على أنه لا علاقة لها بـ«الموساد» أو أي جهة استخباراتية.

 

تبادل اتهامات ومصاير مجهولة

واتهمت المؤسسة دبلوماسيين يتبعون السلطة الفلسطينية باستدعاء المسافرين الذين غادروا من خلالها للاستجواب والتهديد.

ويقول أحمد (غ) البالغ من العمر (33 عاماً)، مفضّلاً عدم ذكر هويته، والذي غادر عبر الرحلة الثانية لمؤسسة «المجد أوروبا»، إنه لم يتلقَّ أي تهديدات من أي جهة فلسطينية عقب مغادرته قطاع غزة. لكنه أشار في المقابل إلى أنه تلقى تحذيرات من بعض العاملين في إحدى السفارات الفلسطينية من التعامل مع هذه المؤسسة، وأنه تم الاستفسار منه عن آلية التسجيل والخروج، والأشخاص الذين قابلهم في مطار رامون، بحسب ما أوضح لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح أحمد أن رحلته انطلقت من مطار رامون إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، مشيراً إلى أنه «كان سعيداً جداً بالهجرة مع زوجته ومغادرة قطاع غزة»، وإن اصطدم بواقع حياتي صعب نسبياً.

صورة مقتطعة من فيديو لطائرة ركاب تحمل فلسطينيين من غزة هبطت في مطار جوهانسبرغ ورفضت السلطات إدخال المسافرين القادمين على متنها (وسائل تواصل)

ويلفت الشاب إلى أنه بعد مغادرتهم مطار نيروبي لم يعد أحد من المؤسسة يتابع ظروفهم، وبقي مصيرهم مجهولاً، دون أن يكون هناك من ينتظرهم في جنوب أفريقيا، مشيراً إلى أن وفداً من المؤسسة استقبلهم فقط في مطار رامون، وفي مطار نيروبي، وبعد مغادرتهم الأخيرة لم يكن أحد برفقتهم على متن الطائرة أو في مطار «أو آر تامبو» في جوهانسبرغ. وقال: «تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا بعدما نقلتنا مركبات كانت تنتظرنا أمام المطار إلى بيوت ضيافة بسيطة وعلى نفقتنا الشخصية». علماً إن السلطات في جنوب أفريقيا اعلنت رفضها استقبال مزيد من الوافدين الفلسطينيين على متن هذه الرحلات خوفاً من أن تكون فعلاً تنفيذ لمخطط إسرائيلي بإفراغ غزة والقطاع من السكان.

ولكن على الرغم من كل ذلك كله، ما زال أحمد وزوجته سعيدين بخروجهما من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان في قطاع غزة، كما قال.

 

بين «حماس» والسلطة

تقول المصادر الأمنية بغزة، وهي من حكومة «حماس»، إنها لم تكن تعلم بحقيقة تلك الرحلات والجهة التي تقف خلفها، وكان الاعتقاد السائد أنهم من المرضى، أو ممن لديهم أقارب في أوروبا، ويتم تسهيل سفرهم عبر سفارات تلك الدول للمّ الشمل.

وأكدت المصادر أنها لم تستجوب أو تتواصل مع أي من المسافرين للحصول على المعلومات اللازمة لهم، ولكنها تعمل حالياً لمنع محاولات جديدة من السفر.

العمليات الإسرائيلية تسببت في تهجير 40 ألف فلسطيني حتى الآن بشمال الضفة الغربية (رويترز)

وبينما لم يصدر تعقيب رسمي من السلطة الفلسطينية على الأحداث أو الاتهامات التي وُجهت إليها من مؤسسة «المجد أوروبا»، اكتفت «الخارجية الفلسطينية» بإصدار بيان حذرت فيه من «الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير»، مؤكدة عزمها على ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.

وكانت سفارة فلسطين لدى جنوب أفريقيا أصدرت في الرابع عشر من نوفمبر من العام الجاري تحذيراً شديد اللهجة من استغلال جهة «مضللة ومشبوهة»، كما وصفتها، الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، وخداعهم لتنظيم عملية سفرهم بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة. كما قالت في أعقاب أزمة الرحلة الأخيرة التي وصلت إلى جوهانسبرغ، مؤكدةً أن تلك الجهة حاولت التنصل من أي مسؤولية بمجرد ظهور التعقيدات والإجراءات الروتينية عند وصول المسافرين إلى الدولة المحددة لهم للسفر إليها.

وتقول مصادر أمنية من حكومة «حماس» إنه بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ورغم أن الظروف الأمنية غير مستقرة وتحاول إسرائيل رصد أي تحركات، فإنها ستسعى لمنع مثل هذه الرحلات المشبوهة، وإنها ستتصدى لمثل هذه المحاولات، لكنها لن تعترض أي رحلات هدفها سفر المواطنين للعلاج أو حالات إنسانية، لكن مثل هذه العمليات التي تقف خلفها جهات مشبوهة ستتصدى لها وستعمل على منعها، لمنع تنفيذ الخطة الإسرائيلية - الأميركية، الهادفة إلى تهجير السكان.

الملاحقة والاستمرارية

ويبدو أن المؤسسة تعاني من ملاحقة حقيقية، وتتعرض لحملات إلكترونية مثل الاختراق، ولإجراءات قانونية تُتخذ ضدها من قبل بعض الجهات، الأمر الذي دفع تطبيق «واتساب» لحظر أرقامها المعلنة عبر وسائل التواصل وعبر موقعها الإلكتروني.

فلسطينيون يحملون لافتات كُتب عليها: «لا للتهجير» و«غزة تموت» خلال احتجاج في مخيم النصيرات بغزة (د.ب.أ)

واتهمت المؤسسة في منشور لها عبر «فيسبوك» جهات لم تسمها بأن عملية حظر أرقامها جاءت كجزء من «الهجمة» الموجهة ضد نشاطاتها، مؤكدةً الاستمرار في عملها، وأنها تعمل على معالجة هذه القضية وترتيب أرقام جديدة للتواصل، وأنها ستتواصل مع متابعيها من أرقام بديلة عند جهوزيتها.

وعلى الرغم من كل هذا الضجيج حول المؤسسة وعملها، فإنها ما زالت تواصل استقبال طلبات المسافرين من سكان قطاع غزة، كما يظهر على موقعها الإلكتروني، ومن خلال صفحتها على «فيسبوك»، إلى جانب استمرار الإعلانات الممولة التي تظهر للغزيين عبر شبكات التواصل.

الغزي نادر (ع)، من سكان مدينة غزة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو يبلغ من العمر (41 عاماً)، ومتزوج ولديه 4 أطفال، كان أحد من تسابقوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة، منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، وما زال في عملية تواصل مستمر مع الأرقام التي وضعتها المؤسسة.

غروب شمس خريفية في غزة (رويترز)

ويقول نادر إن الظروف الحياتية الصعبة أجبرته على التفكير في الهجرة، والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله أن تنجح مساعيه في السفر، وأن يحالفه الحظ كما حالف آخرين.

وأضاف: «كل ما أريده أن أخرج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومنها سأغادر إلى أي جهة كانت... ما يهمني أن أرتاح من حياة الخيام، وأن أبحث عن حياة آمنة لي ولزوجتي وأطفالي».


فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
TT

فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)

فاز محمد الحلبوسي، أحد أكثر الفاعلين السنة في العراق تعقيداً، بعشرة مقاعد برلمانية عن بغداد، و35 مقعداً من أصل 329، عن عموم البلاد في الانتخابات التي أُجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

تبدو هذه الأرقام استثنائية لرجل أُقيل في مثل هذه الأيام قبل عامين من منصبه رئيساً للبرلمان، وهو أعلى موقع خصصه العرف السياسي للعرب السنة بعد الرئيس الراحل صدام حسين.

ما الذي جرى في مسيرة رئيس حزب «تقدم» خلال فترة كانت مزدحمة بالعواصف منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟ بينما كانت فصول عنيفة تُطوى في الشرق الأوسط، كان عراقيون يزورون محافظة الأنبار، مسقط رأس الحلبوسي غرب العراق، يلتقطون الصور لشوارع معبّدة وملاعب وأبنية جديدة، ويتساءلون: «أليست هذه نفسها صحراء الرجل الذي عاقبته إيران؟».

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات، أن الحلبوسي الذي تنافس للمرة الأولى على أصوات الناخبين في بغداد قد تفوق فيها بنحو 72 ألف صوت على نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون» الذي جمع أصواتاً أقل بنحو 20 ألفاً. في المشهد الحزبي، فاز «تقدم» منفرداً بفارق 8 مقاعد على الحزب الديمقراطي الكردستاني الخبير في لعبة الاقتراع منذ 3 عقود.

تشكل عودة الحلبوسي نموذجاً فريداً لعلاقات القوة بين الجماعات الطائفية في العراق، وكيفية النجاة من أشدّ معاركها ضراوة. ومثلما تثير العودة أسئلة حول كيفية التعامل أو التعايش مع النفوذ الإيراني في البلاد، تسلط الضوء على نموذج حزبي صارم يتنامى في مجتمع سني لم يعهد خبرة في العمل السياسي، لكنه يستعيد شيئاً من التقاليد الكلاسيكية في احتكار النفوذ وتصفية المنافسين.

الحلبوسي مهندس مدني في منتصف عقده الرابع من بلدة «الكرمة» بمحافظة الأنبار. ومن شركة كانت تُنفذ مشاريع محدودة للبنى التحتية في الفلوجة، وجد طريقه إلى استثمار أشد صعوبة وتعقيداً في السياسة، تتقاطع عنده جماعات شيعية وسنية، تتنافس تحت ظلال إيرانية.

دخل الحلبوسي البرلمان عام 2014. انتقل من لجنة «حقوق الإنسان» التي همّشتها الحياة السياسية، مباشرة إلى المعركة الأساسية؛ صار عضواً في لجنة المال عام 2015 ورئيسها عام 2016. هناك تعرّف على وسطاء الموازنة، إذ يمثلون شبكات الولاء مقابل المنفعة، والخطأ فيها قاتل في لمح البصر.

لم ينتبه اللاعبون الأساسيون يومها إلى شاب سني بلحية خفيفة وتسريحة حديثة، لم يبد لهم أنه قد يثير القلق. الحلبوسي نفسه لم يكن قد اكتشف بعد أين ستقوده أحلامه، لكنه سرعان ما بدأ يعبر عن نفسه. بعد سنوات وجدته قوى شيعية مرتابة وسنية ناقمة، على حد سواء، خطراً عليها. وتم وصفه على نطاق واسع برأس تلعب فيه شياطين «الزعامة»، فلعب معها.

محاولات دامية

بعد 2003 عاد الحلبوسي إلى جامعته في بغداد لإكمال دراسته العليا. كان العرب السنة خارج مطبخ السياسة في أعقاب الغزو الأميركي. تسرد وقائع عديدة على مدى العقدين الماضيين كيف قادت محاولات نخب سنية لدخول الحياة العامة إلى نهايات مميتة، سُفكت فيها دماء.

في يونيو (حزيران) 2005 توسعت لجنة كتابة الدستور لتضم 15 ممثلاً عن العرب السنة الذين كانوا بعيدين عن أهم نقاشات حول مستقبل البلاد. التوسع شمل مجبل الشيخ عيسى وضامن حسين عليوي وعزيز إبراهيم، الذين انخرطوا فوراً في معارضة صياغة بنود في الدستور. في يوليو (تموز) من العام نفسه، كان الثلاثة يتناولون وجبة غداء في أحد المطاعم وسط بغداد، قبل أن يفتح مسلحون النار على سيارتهم، ويُقتلوا في الحال.

على طريق مزدحم بحي الداوودي غرب العاصمة، كان عصام الراوي، وهو أستاذ علوم الأرض في جامعة بغداد، في طريقه إلى مكان عمله حين قتله مسلحون في أكتوبر 2006. كان الرجل، في أعقاب تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، قد قطع الطريق راجلاً إلى مرقد «الكاظم» المقدس لدى الشيعة، ليصلي، في محاولة لإطفاء فتنة تتفجر في كل مكان. يقول كثيرون إن جماعة أصولية عاقبته على ذلك.

في العام نفسه، قتل شاكر وهيب، القيادي في تنظيم «القاعدة»، زعيمَ قبيلة كبيرة في محافظة الأنبار كان يدعو إلى إشراك السكان المحليين في الحياة السياسية، وانخراطهم في مؤسسات الأمن بالتزامن مع انسحاب كان مأمولاً للقوات الأميركية.

في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2009، شنّ تنظيم «القاعدة» هجوماً على مبنى حكومة الأنبار، أسفر عن مقتل نحو 30 مسؤولاً وعنصر أمن وإصابة العشرات. من بين الجرحى المحافظ قاسم الفهداوي الذي اقترب منه انتحاري خمسة أمتار.

وشاهد سكان الرمادي يومها مروحيتين فوق سطح مستشفى المحافظة لنقل الفهداوي إلى منشأة طبية أكثر تخصصاً، لعلاج إصابات خطيرة في القدم والساق.

نجا الفهداوي وانتكست المدينة خلال محاولتها التعايش مع النظام الجديد.

الطريق بين الكرمة وبغداد

خلال تلك الأيام الدامية، كان الحلبوسي يتنقل بين مسرحين قاتلين، بغداد والكرمة. الطريق الذي يُقطع براً بينهما بساعة ونصف يربط بين ملعبين لانتحاريين وأحزمة ناسفة وميليشيات، ومئات الآلاف من الضحايا من كل الطوائف.

غادر الحلبوسي بغداد عام 2010 ناجياً بشهادة ماجستير في الهندسة إلى مدينة ينشط فيها سياسيون من «الإخوان المسلمين» والقوميين العرب وبقايا من «حزب البعث». كانوا جميعاً محبطين، يقدمون أجندة سياسية قائمة على المظلومية، ويفتقدون الفاعلية. كانت قائمة «العراقية» بقيادة إياد علاوي التي راهنوا عليها «سنياً»، قد تلقت ضربة موجعة بإعلانها الفائز الخاسر في انتخابات 2010.

مع هؤلاء، جاءت أخطر 6 أشهر في تاريخ السنة خلال العقدين الماضيين. ففي 30 ديسمبر 2013، أمر نوري المالكي، رئيس الحكومة آنذاك، باستخدام القوة لفض اعتصام في الأنبار كان امتداداً لاحتجاجات متفرقة في مدن وسط البلاد وجنوبها، لكن المالكي عدّ السنة «متمردين». اعتقلت قوة حكومية سياسيين سُنة بعد اشتباكات، من بينهم أحمد العلواني، أبرز معارضي المالكي، اقتيد إلى محاكمته بتهم إرهاب، وقُتل شقيقه ببشاعة.

في 30 أبريل (نيسان) 2014 انتخب العراقيون البرلمان الثالث. يومها وقعت هجمات انتحارية قرب مراكز اقتراع في الرمادي وبعقوبة وتكريت وكركوك، وقُتل موظفون في «مفوضية الانتخابات» وضباط كانوا يحمونهم، كما شغّلت الأحزاب السُنية دعايتها سراً بسبب المخاوف. وحصل الحلبوسي على مقعد بأصوات ناجين، بشكل ما، من الموت.

بعد شهر، في 29 يونيو 2014، أعلن «داعش» قيام دولته. اضطرت الحكومة، بضغط من التحالف الدولي، إلى تجنيد شبان من العرب السنة لمقاتلة التنظيم، وكانت القبائل في الأنبار تجرب التحالف مجدداً مع القوات النظامية مع مجيء حيدر العبادي إلى رئاسة الحكومة في محاولة لنسيان جراح فتحها المالكي وتركها مفتوحة.

رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي خلال زيارته طهران في سبتمبر 2013 (إيرنا)

«نادي العجز» السياسي

كانت الكتلة السنية «متحدون للإصلاح» بزعامة أسامة النجيفي الخيار السني الوحيد الذي وجد «حزب الحل» الذي ترشح عنه الحلبوسي الشاب إلى البرلمان عام 2014. رغم أن الكتلة كانت أقرب إلى نادٍ مغلق يخفي عجزاً بنيوياً عن إنتاج السياسات، لكن الجمهور السني صوّت لها في محاولة لتحدي قوى شيعية تتفرد بالسلطة، وتنظيمات إرهابية تمنعهم من التعامل معها والانخراط فيها. كان ذلك تكليفاً بمهمة شبه مستحيلة.

النجيفي، الذي ترأس برلمان الدورة الثانية حتى 2014، وآخرون من أمثال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية حتى ديسمبر 2013، ورافع العيساوي وزير المال حتى مارس (آذار) 2013، كانوا آخر من وُضعوا في فوهة المدفع أمام المالكي، وسقطوا من دون خطط بديلة للعودة، وبكثير من الشكوى والعزلة.

سرعان ما انقلب الحلبوسي على هذه المقاربة في «إدارة التهميش»، كان يريد التحرك إلى قلب النظام وليس البقاء في هامشه، معارضاً معزولاً.

عثر الحلبوسي على مقعده في البرلمان. واحتل «داعش» ثلث العراق. سرعان ما اجتذبت معارك التحرير تشكيلات عسكرية مختلفة، وأخرجت النفوذ الإيراني من الكواليس إلى العلن. وانتشر مستشارو «الحرس الثوري» الإيراني مع فصائل في «الحشد الشعبي»، تحت كل سماء حلّقت فيها مقاتلات الجيش الأميركي.

بعد 3 سنوات من القتال تراجع «داعش» عن مساحات شاسعة واستعادت بغداد أراضيها في الموصل والرمادي، وبدأت معركة نفوذ جديدة. كان الحلبوسي يعود إلى الكرمة في إجازته عبر نقاط تفتيش نصبتها فصائل منتصرة.

نسخة سياسية جديدة

لقد أمضى الآن 3 سنوات في البرلمان، تجربة وضعته بين «أسماك قرش» تتعاظم على أيديهم إمبراطوريات مال وسلاح، وامتد شيء منها إلى مساحات محررة من «داعش». قالت فصائل مسلحة إنها «صاحبة الفضل» في التحرير، ولها الحق في حماية الأمن في كل مكان رسمته دماء مقاتليها. حينها أصبح الحلبوسي محافظاً يحلم بإمبراطورية. كان ذلك في أغسطس (آب) 2017.

تزامن التعاظم المضطرد للنفوذ الإيراني في العراق مع ظهور نسخة جديدة من السياسية السنية. بينما كانت القوى الشيعية بحاجة إلى وسطاء سنة لتوطيد سلطتها، بدا أن الحلبوسي كان يريد ما هو أكثر، بتقاسم النفوذ. أصبح الآن رئيساً للبرلمان، وأزاح عن وجهه قناع الشاب الطموح وسحب كرسياً من الصفوف الخلفية إلى المائدة الرئيسية.

يرى أحد المسؤولين الحكوميين الذين عرفوا الحلبوسي عن قرب أن «ظاهرة الرجل نشأت من تفاعل الحاجة الاجتماعية داخل البيئة السنية بعد انهيار نموذج (الزعيم المنقذ)؛ ثم التوقيت والتمركز الصحيحين بأداء واقعي». يقول سياسي معارض للحلبوسي إنه «مشروع ديكتاتور جديد».

انتبه خصوم الحلبوسي إلى تحالفاته الواسعة بين جماعات متنافسة في العراق (د.ب.أ)

«أكثر من اللازم»

قاد الحلبوسي البرلمان منذ 2018... سرعان ما تعرضت المنظومة الشيعية إلى الاهتزاز بفعل التنافس على تمثيل المكون الأكبر، وأمام احتجاج شعبي في أكتوبر 2019 سقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وغاب عن المطبخ قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري».

لم يمنع الحلبوسي نفسه من التعبير عن النسخة الحديثة من السياسة السنية. ديناميكيته سمحت له بالتنقّل بين الجبهات لبناء تحالفات واسعة. يقول ذلك سياسيون شاهدوا كيف «قدم الحلبوسي نفسه عرّاباً أمام بيئة الاحتجاج بينما كانت الأحزاب الشيعية تفقد المبادرة». ويقول مقربون منه، إن «فاعليته تلك الأيام تعبير عن حضوره في النظام، بوصفه شريكاً».

انتبهت المنظومة الشيعية إلى الحلبوسي كأنها لم تعرفه من قبل. قرر الجميع إخراجه من اللعبة. بالنسبة لمنافسين سنة وشيعة، فإن الحد المسموح للحلبوسي هو الاستفادة من التوازن دون التحول «أكثر من اللازم إلى سمكة قرش»، على حد تعبير قيادي شيعي.

الحال أن الحلبوسي أُقيل من رئاسة البرلمان وشُطبت عضويته في نوفمبر 2023. في اليوم التالي خرج أمام الصحافيين ملوّحاً بنسخة من الدستور لـ«تصحيح خطأ» وقعت فيه المحكمة الاتحادية. كان هذا فعلاً سياسياً غير مسبوق على المستوى السني.

قيل على نطاق واسع إن خصوم الحلبوسي من العرب السنة اشتكوا لدى حلفاء شيعة من فائض قوته، وإن إيران في النهاية قررت إعادة التوازن. يقول سياسي عراقي إن فريق رئيس حزب «تقدم» تعامل مع القرار بوصفه «محطة فاصلة لإعادة إنتاج المشروع، دون الخوض في السياق السياسي للأزمة». كان هذا أمراً غير معهود في الحياة السياسية للسنة العرب.

بعد شهر واحد، خاض الحلبوسي انتخابات مجالس المحافظات في اختبار حاسم لقدرته وهو معاقَبٌ من دون منصب، وفاز بـ21 مقعداً. يقول قيادي من حزب «تقدم» إن شطب العضوية تحول إلى وقود لإشعال نيران الحملة الانتخابية، ونجح الأمر.

أصبح الحلبوسي الآن أكثر شراسة، بل أقل تساهلاً مع الثغرات في مشروعه، وأظهر ميلاً للصرامة الحزبية. كان على استعداد لتصفية أقرب المقرّبين. في يوليو 2024 تفاقمت شكوكه حول ذراعه اليمنى في حزب «تقدم» بالأنبار، المحافظ السابق علي فرحان، من حيث إنه منفتح ربما على خيارات سياسية مختلفة. حوكم الرجل بتهم إساءة استخدام المنصب، وقضى فترة في السجن.

في أبريل 2025، برأ القضاء الحلبوسي من تهمة التزوير التي أُقيل بموجبها. بعد شهر سيقضي القاضي جاسم العميري، الذي أقاله، إجازة التقاعد مغادراً المحكمة الاتحادية.

بدأ ثقل الحلبوسي السياسي من مناطق غرب العراق (إكس)

حصانة غير مضمونة

ثمة انقسام حول تفسير «ظاهرة الحلبوسي». يقول خصوم إن خصاله الشخصية لم تكن تكفيه لتحقيق هذه المكاسب، وإنه «حاصل الجمع بين شبكة تؤهل الزعامات ولحظة سنية سمحت له بالظهور».

لكن كثيرين من السنة في بغداد، بعد سنوات من العنف والانقسام، وجدوا في الحلبوسي الشخص الذي يشبع حاجتهم إلى الزعامة. لقد استمعوا إليه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يقول «شعارات» حادة: «نحن السنة نقرر ما نريد (...) لن نسمح للآخر (الشيعة والكرد) بأن يقرر نيابة عنا».

بعد إعلان النتائج الأخيرة، قال قيادي شيعي إن «الحلبوسي بموقعه الوسطي بين تيارات سائدة في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث أكتوبر 2023، بين إيران التي تحاول التقاط أنفاسها، وتركيا المتفوقة في سوريا، سيلعب دوراً متقدماً في ضبط التوازنات العراقية».

تبدو هذه المهمة واعدة، إذ تمنح الحلبوسي «جدار حماية» إضافياً في منطقة متقلبة، لكنه لا يزال يبحث عن «حصانة» أكبر. تدرك دائرته المقربة أن «الضمانات في هذه اللعبة غير متوفرة، ولا أحد يقدمها. النظام هش ويتغير بسرعة، كل ما يشغلهم الآن هو الاستعداد للضربة المقبلة: من أين؟ ومن يسددها؟». هذا النوع من «الاستعداد» يتحول الآن إلى أحد أهم فنون البقاء في العملية السياسية العراقية.