غياب المفكر جورج قرم بعد معارك طويلة من أجل الإصلاح

وزير المالية الذي في أعماقه فنان مستتر

المفكر اللبناني جورج قرم
المفكر اللبناني جورج قرم
TT

غياب المفكر جورج قرم بعد معارك طويلة من أجل الإصلاح

المفكر اللبناني جورج قرم
المفكر اللبناني جورج قرم

خسارة فكرية للبنان، رحيل المؤرخ والاقتصادي والخبير المالي جورج قرم، يعرفه عموم اللبنانيين بصفته واحداً من أنبل الوزراء الذين مرّوا على وزارة المالية، وكان ذلك بين عامَي 1998 و2000. ولسوء الحظ قلّة مَن تعرف قيمة قرم مفكراً وكاتباً موسوعياً، مهجوساً في تطور مجتمعه ونهضته.

قرم الذي وُلد في الإسكندرية عام 1940، وأكمل تعليمه المدرسي في «العائلة المقدسة للآباء اليسوعيين» في القاهرة، قبل أن يذهب إلى فرنسا؛ لإتمام تعليمه الجامعي، شهد فورة الثورة الناصرية، وحضر خطاب جمال عبد الناصر في تأميم قناة السويس، وما رافقه من مشاعر فياضة، فتأثر بعمق، وبقي عروبياً، متمسكاً بانفتاحه وموضوعيته حتى الرمق الأخير.

علمانيّ بحق، لبنانيّ بالانتماء، عربيّ بالروح، لا يحب التقسيمات الحادة، والآيديولوجيات التفتيتية، ويفضّل عليها استيعاب الآخر، وتوسيع دائرة الرؤية، والتركيز على ما يجمع بدل ما يفرّق. فهو من جيلٍ عاش لبنان الخمسينات والستينات من القرن الماضي، حين لم تكن الطائفية مرضاً مستشرياً، عادّاً أنها عاهة اجتماعية كبرى، ترعرعت في ظل الحرب الأهلية وما تلاها.

هو ابن الثقافة الفرنسية، حيث درس في باريس، في «معهد الدراسات السياسية»، وتخصّص في العلوم السياسية والاقتصاد، وحصل على إجازة في القانون ودكتوراه في القانون الدستوري. أطروحته التي ناقشها عام 1969، حملت عنوان «تعدد الأديان وأنظمة الحكم»، وجدت صدى بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) في نيويورك، وهي مترجمة إلى لغات عدّة.

بدأ حياته المهنية في لبنان مطلع الستينات، خبيراً اقتصادياً في وزارة التّصميم، ومن ثَمّ في وزارة المالية، واشتغل بعد ذلك مصرفياً وخبيراً، ومستشاراً مالياً في كلٍّ من باريس والجزائر، ومستشاراً لحاكم مصرف لبنان.

كما عمل مع الاتحاد الأوروبي، والبنك الدّولي، ومؤسسات الأمم المتحدة، ومؤسسات عربية ودولية كبيرة، وقدم المشورة في موضوعات إعادة التأهيل المالي المصرفي في دول عدة، منها الجزائر، وتونس، والمغرب، واليمن، وسوريا، وعمان، وتنزانيا. أصبح وزيراً للمالية في حكومة الرئيس سليم الحص، كما مارس التعليم الجامعي وعُرف بأبحاثه المرجعية، وكتب بالفرنسية والعربية والإنجليزية.

من عائلة اشتهرت باحترافها الفن، جده الفنان التشكيلي الرائد داود قرم الذي اشتهر ببورتريهاته، ووالده الرسام المعروف جورج قرم، الذي يُعدّ أول فنان عربي ذهب إلى روما لدراسة الفن الحديث. ومع ذلك، لم يكن الفن كافياً ليجعل العائلة تعيش في بحبوحة. وحين رغب الابن جورج في أن يتخصّص في الموسيقى التي عشقها، خصوصاً البيانو، لقي معارضة شديدة من والده الذي هو نفسه كان عازفاً على الآلة نفسها.

لكن هذا الجانب الفني عند جورج قرم بقي حاضراً بقوة، وظلّ عشقه للموسيقى حياً، ويمكن القول لأن للخبير المالي، وجهين: الوجه السياسي الفكري التأريخي، والوجه الثقافي الفني وحياته التي عاشها في تماس مع الفن التشكيلي. لهذا جاءت كتاباته حتى الاقتصادية منها، ممزوجة بهمومه الوطنية، وهواجسه الإصلاحية، ومحاولاته الابتكارية لوصف الحلول. فهو لم يكتب أبحاثاً جافة، بقدر ما بلور رؤى بهدف توضيح الصورة، واقتراح الخطط، وإنارة الدرب. فهو مثل الكتّاب النهضويين في النصف الأول من القرن العشرين، الذين شغلتهم يقظة شعوبهم، وشكّلت محور كتاباتهم، وبوصلة سلوكهم.

وهذا يمكن أن نلحظه من عناوين مؤلفاته مثل كتابه الشهير «انفجار المشرق العربي»، وكتب أخرى مثل «شرق وغرب»، و«الشرخ الأسطوري»، و«تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب»، و«المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين»، و«نظرة بديلة إلى مشكلات لبنان السياسية والاقتصادية». كما كانت له آراؤه النقدية، وصوته المرتفع، معارضاً المديونية العامة التي أدمنت عليها الحكومات المتعاقبة بعد الحرب، واعترض على الهدر والفساد اللذين كانا سائدَين، وسياسة التّسول.

عُرف في الأوساط الأكاديمية في فرنسا، لأبحاثه وكتبه، ونال «جائزة الأكاديمية الفرنسية» عام 2018 عن كتابه «المسألة الشرقية الجديدة» الصادر حينها عن دار «لا ديكوفرت» في باريس. كما نال «وسام الأرز» من الدولة اللبنانية، وجوائز عديدة بينها «سلطان العويس»، وذلك لما تمتاز به كتاباته من «شمولية في الرؤية، وعمق في التحليل، ومنهجية دقيقة في تناول القضايا الاقتصادية والاجتماعية، ورؤية استشرافية، فضلاً عن ابتكار المفاهيم والتّصورات، ونقد عديد من المُسلّمات».

وقد غادرنا جورج قرم، كما عرفناه دائماً، نبيلاً، متعففاً صارماً، متواضعاً، لا يساوم على مبادئه، وقد ترسّخ مع الأيام إيمانه بأن النيوليبرالية وهي تزداد شراسة، لا يمكن أن تكون طريقنا للخروج من المأزق.



علماء يفجّرون صدمة: حجر المذبح الضخم نُقل من أسكوتلندا إلى ستونهنج

أصلُه ظلَّ لغزاً (إ.ب.أ)
أصلُه ظلَّ لغزاً (إ.ب.أ)
TT

علماء يفجّرون صدمة: حجر المذبح الضخم نُقل من أسكوتلندا إلى ستونهنج

أصلُه ظلَّ لغزاً (إ.ب.أ)
أصلُه ظلَّ لغزاً (إ.ب.أ)

أظهرت معطيات جديدة أنَّ حجر المذبح الذي يزن 6 أطنان، الواقع في قلب ستونهنج، جاء من أقصى شمال أسكوتلندا، وليس من جنوب غربي ويلز، كما اعتُقِد. ووفق «بي بي سي»، يعني ذلك أنّ هذا النصب التذكاري القديم، بالقرب من سالزبوري، جنوب غربي إنجلترا، بنته أحجار من جميع أنحاء بريطانيا العظمى. فالنتائج تشير إلى أنّ بريطانيا في العصر الحجري الحديث كانت مجتمعاً مترابطاً ومتقدّماً أكثر بكثير مما أشارت إليه الأدلّة السابقة؛ علما بأن المسافة بين ستونهنج وأقصى شمال أسكوتلندا تبلغ نحو 700 كيلومتر (434 ميلاً).

قاد البحث طالب الدكتوراه الويلزي، أنتوني كلارك، الذي يعمل الآن في جامعة كورتين بغرب أستراليا. ويُعدُّ الاكتشاف مهمّاً جداً، إلى درجة أنه نُشر في مجلة «نيتشر» العلمية الرائدة، وهو إنجاز هائل لباحث مبتدئ. لكنها لحظة حلوة ومُرّة للشاب المولود في بيمبروكشاير، إذ كان يُعتَقد سابقاً أنّ حجر المذبح آتٍ منها.

قال ممازحاً: «لا أعتقد أنّ الناس في الوطن سيسامحونني. ستكون خسارة كبيرة لويلز!». لكن كلارك يشير إلى أنّ الأحجار المتبقية في حدوة الحصان المركزية، المعروفة باسم أحجار البلوستون تأتي من ويلز، وإنما الأحجار الأكبر في الدائرة الخارجية مصدرها إنجلترا. وعلَّق على ذلك بقوله: «علينا إعطاء الأسكتلونديين شيئاً!».

حُدِّدت أحجار البلوستون في ستونهنج بأنها آتية من تلال بريسيلي في بيمبروكشاير عام 1923 مِن الجيولوجي الويلزي هنري هيربرت توماس. كان حجر المذبح المركزي مصنوعاً من صخرة مختلفة، ولكن كان يُفترض دائماً أنه آتٍ من المنطقة عينها، حتى بدأ العلماء يشكّكون في أصوله قبل 20 عاماً.

النتائج شكَّلت صدمة على أقل تقدير (رويترز)

وفي العام الماضي، خلُص الباحثون، بمَن فيهم البروفسور الويلزي نيك بيرس إلى أنّ حجر المذبح لا يمكن أن يكون قد جاء من ويلز. لكن أصله ظلَّ لغزاً حتى الآن. قال بيرس: «انفجر رأسنا عندما اكتشفنا أنه من شمال شرقي أسكوتلندا. شكَّل ذلك صدمة على أقل تقدير. المجيء من مسافة أكثر من 700 كيلومتر كان رائعاً». وأضاف: «يجب أن يكون الناس في العصر الحجري الحديث على اتصال جيّد جداً. يجب أن يكونوا منظَّمين جداً».

حقَّق هذا التقدُّم فريق جامعة كورتين الذي حلَّل التركيب الكيميائي لقطع الصخور المتساقطة من حجر المذبح، وأرَّخها. فالتركيب والتاريخ فريدان من نوعهما لصخور من مناطق مختلفة من العالم، تماماً مثل بصمة الإصبع.

كان لدى الفريق الأسترالي إمكان الوصول إلى واحدة من أكثر قواعد البيانات الشاملة لبصمات الصخور العالمية، ووجد أنّ أفضل تطابُق كان من حوض أوركاديان الذي يشمل مناطق كايثنس، وأوركني، وموراي فيرث في شمال شرقي أسكوتلندا. بدأ البناء في ستونهنج منذ 5000 عام، مع تغييرات وإضافات على مدار الألفيتين التاليتين. ويُعتقد أنّ معظم أحجار البلوستون كانت أول الأحجار التي نُصبت في الموقع. وصف الدكتور روبرت إيكسر، من كلية لندن الجامعية، الذي شارك أيضاً في الدراسة، النتيجة بأنها «صادمة»: «يدفعنا العمل إلى طرح سؤالين مهمَّين: كيف نُقل حجر المذبح من أقصى شمال أسكوتلندا، لمسافة تتخطّى الـ700 كيلومتر، إلى ستونهنج، ولماذا؟». وتُعدّ المسافة أطول رحلة مُسجَّلة لأي حجر استخدِم في نصب تذكاري بتلك الفترة؛ ويقول البروفسور بيرس إنّ اللغز التالي الواجب حلُّه هو كيفية وصوله إلى هناك: «ثمة عقبات مادية واضحة للنقل البرّي، وكذلك رحلة شاقّة بالقدر عينه إذا جرت عبر البحر. ستكون لهذه النتائج عواقب كبيرة على فهم المجتمعات في العصر الحجري الحديث ومستويات التواصل وأنظمة النقل لديها».

سيكون الإشراف على البحث الجديد من علماء الآثار العاملين في التراث الإنجليزي الذين يتولّون رعاية ستونهنج، وفق إحدى أمينات النصب التذكاري، هيذر سيبير، التي قالت: «يدلُّ هذا الاكتشاف على الروابط الاجتماعية الكبيرة في بريطانيا آنذاك. مذهل أن ينقل الناس في ذلك الوقت حجراً كبيراً كهذا كل تلك المسافة. يجب أن يكون لديهم سبب قوي للقيام بذلك».