شاشة الناقد: هجرة وحروب

عرين عمري ومحمد بكري في «ما بعد» (ماد وورلد)
عرين عمري ومحمد بكري في «ما بعد» (ماد وورلد)
TT

شاشة الناقد: هجرة وحروب

عرين عمري ومحمد بكري في «ما بعد» (ماد وورلد)
عرين عمري ومحمد بكري في «ما بعد» (ماد وورلد)

ما بعد... ★★★★

• في مكان ما... مستقبل ما... فلسطين ما | فلسطين (2024)

• عروض مهرجان لوكارنو (مسابقة الأفلام القصيرة).

الحزن الذي يسود فيلم مها الحاج الجديد ليس مُفتعلاً. هو مَعيش في كل أرجاء هذا الفيلم القصير وعناصره (31 دقيقة)، في الفكرة، وفي المعالجة، وفي تمثيل محمد بكري وعرين عَمري، وفي الطريقة التي تؤطر فيها المخرجة لقطاتها قبل وبعد اكتشاف المُشاهد لحقيقة مفاجئة. إنه حزن عضوي بالكامل لا تفسده الدراما ولا يدخل تحت جلباب الواقع والتسجيل.

يبدأ الفيلم بمشهد لطبيعة نائية وجميلة في مستقبل ما بعد العدوان الإسرائيلي على غزة. غزّة نفسها غير مذكورة إلا في المشهد النهائي. زوجان يعيشان في مزرعة تكمن وسط طبيعة جميلة. نسمع فيها تغريد العصافير. نشاهد الزوجان وهما يقطفان الثمار وينظفان الفناء الخارجي. الزوج يساعد زوجته على غسل الصحون. تنشر الغسيل. تحضّر الطعام. هذه أعمال كلّ يوم في مكان ناءٍ.

حين يتحدّثان يتكلّمان غالباً عن أولادهما. نفهم أنه دلّع كبرى البنات التي تدرس في الجامعة. تنتقد الزوجة تمييز زوجها لابنته عوض باقي الأولاد. ثم ينتقل الحديث إلى طارق الذي ما زال، حسب الزوج، يتصرف كمراهق. هو يريد استقبال أولاده وأسرهم في بيت آخر سيَبنيه في تلك المزرعة.

في يوم ماطر، يصل صحافي (عامر حليحل) للمكان البعيد طالباً مقابلة. يتركانه واقفاً خارج المزرعة ويدخلان المنزل، لكن عندما يكتشفان أنه ما زال في مكانه متحمّلاً المطر يُدخلانه ويدعوانه للعشاء. يطرح أسئلة حول أولادهما الذين قضوا معاً في قصف إسرائيلي على غزة، حينها كان الزوجان خارج المنزل. يبكيان. يتأسّف. ومن ثَمّ يكتشف فجأة ونحن أيضاً، أنهما يعيشان الوهم الكبير بأن أولادهما لا يزالون أحياءً بعدما آثرا العيش طويلاً في خيال مهيمن.

تتمتع المخرجة بكامل عناصر العمل التقنية وتصاميم الإنتاج الصحيحة والمدروسة. كل شيء في مكانه والإيقاع متنقلٌ، لكنه غير مستعجل للوصول إلى تلك المفاجأة التي كان يمكن لها أن تُهدر فيما لو أن المعالجة الإجمالية لم تكن واحدة منذ البداية. تقبض الكاميرا على المكان بلقطات بعيدة وواسعة. تنقلنا إلى الغاية المكنونة داخل هذا المكان ووجدانياته. تمثيل عرين عمري ومحمد بكري مثلُ عزفٍ موسيقي ثنائي متجانس.

الفيلم إيطالي- فرنسي التمويل (ومن توزيع شركة «ماد وورلد»)، لكنه مقدّم باسم فلسطين، ويعبّر تماماً عن تلك المأساة من دون أن يهوي إلى الافتعال أو المأسوية المباشرة.

THE STORY OF SOULEYMANE ★★★★

• ثلاثة أيام من حياة مهاجر في باريس | فرنسا (2024)

• عروض مهرجان كارلوڤي ڤاري.

‫نتعرّف، في فيلم بوريس لويكينو الثاني له، على الشاب الأفريقي سليمان (أبو سنيغاري)، ووضعه في الدقائق الأولى وهو جالس ينتظر دوره لمقابلة الموظّف المسؤول عن الهجرة في «مكتب الهجرة وجمع الشمل» (L’ Office Français de l’Immigration et de l’Integratiion). المقابلة هي فقط لتسجيل طلبه، وعليه أن يعود بعد يومين لمقابلة ثانية يشرح فيها الأسباب التي تدفعه لطلب الهجرة رسمياً. ننطلق معه وهو فوق دراجته الهوائية يعمل على إيصال الرسائل والطرود. يقبض أجره حسب الطلبات التي يقوم بها. مدير الشركة (أفريقي مهاجر قبله)، يعده بدفع مرتب في اليوم التالي. سليمان لديه مشكلة في غضون ذلك، هناك أفريقي آخر لديه مكتبٌ استشاري للمهاجرين. يستمع إلى قصصهم الحقيقية ويستبدل بها أخرى على أساس أنها أفضل وقعاً خلال المقابلات المبرمجة لهم. ينتظر سليمان أن يدفع مدير عمله الأجر المتفق عليه ليدفعه للمستشار الذي احتفظ بأوراق سليمان للغاية. يمرّ الفيلم على كل ما يمكن أن يواجهه سليمان من مشاكل عمل. مديره لا يدفع له راتبه ويرميه من فوق السّلم. المستشار يمتنع في البداية عن تسليم الوثائق قبل أن يرق قلبه عليه. كل ذلك قبل الموعد الذي قد يعني مستقبل سليمان في فرنسا.

«قصة سليمان» (يونيتي)

في الموعد المحدّد، تأخذه الموظّفة إلى مكتبها وتبدأ بسؤاله عن تاريخه والأسباب التي تدفعه لطلب الهجرة. يسرد ما لقّنه المستشار. تنظر إليه ملياً ومن ثَمّ تقول له، إنّها سمعت هذه القصّة بالكلمات نفسها من مهاجرين آخرين. هذا طبيعي لأن المستشار يلقّن الجميع الدرس نفسه. هنا يعترف سليمان بالأسباب الحقيقية. الدّافع ماديّ بحت، لمداواة والدته المتهمة في بلدتها بالجنون، ويروي المصاعب الجمّة التي صادفته قبل أن يحط على الشاطئ الإيطالي عبر ليبيا. تنظر إليه بقدر من الشفقة لكنها ليست مَن يمنح الإقامة.

اللقطة الأخيرة من الفيلم هي لسليمان في شارع باريسي ليلاً. لن يعرف نتيجة المقابلة ولن نعرفها. إذا ما تمّت الموافقة سيحصل على الإقامة، وإن رُفض فلديه شهر لتقديم قضيّته مرّة ثانية وأخيرة.

يمرّ الفيلم كما لو كان وتراً مشدوداً. نتابع حالة إنسانية لشابٍ رهن مستقبله على حافة الحياة. يؤدي أبو سينغاري الدور جيداً لأنه مرّ به. الحاصل هنا أن المخرج اكتشف الشاب ووجده نموذجاً لموضوعه. جلس وإياه وتعلّم منه كثيراً من المواقف التي مرّ بها. ليس فقط أن أبو لم يمثل من قبل، بل إن عدم حرفيّته ملائم تماماً لما يطلبه الفيلم في غمار واقعية معالجته. «قصّة سليمان» دراما معالجة بأسلوب يمر بلحظات تعتقدها تسجيلية خصوصاً في الرُّبع الأول من الساعة قبل أن تتعدّد الشخصيات. يروي حكاية بأسلوب مَن يريد تسجيلها وينجح في تصويرها واقعياً.

لا يُخطئ المخرج خطواته. يختار موضوعاً حاسماً ليلقي الضوء على أمثال سليمان (وهم بعشرات الألوف أو أكثر) في وطن جديد عليه أن ينتمي إليه. لا شيء سهلاً عليه ولا شيء يؤول إليه بسهولة.

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز


مقالات ذات صلة

باستخدام الذكاء الاصطناعي... محتال يوهم سيدة بأنه «براد بيت» ويسرق أموالها

يوميات الشرق الممثل الأميركي براد بيت (رويترز)

باستخدام الذكاء الاصطناعي... محتال يوهم سيدة بأنه «براد بيت» ويسرق أموالها

تعرضت امرأة فرنسية للاحتيال من قبل رجل أوهمها بأنه الممثل الأميركي الشهير براد بيت، باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي، وحصل منها على مبلغ 830 ألف يورو.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق مريم شريف ونهال المهدي شقيقتها بالفيلم (الشركة المنتجة)

«سنووايت» يستهل عروضه التجارية ويعوّل على حبكته الإنسانية

تنطلق، الأربعاء، العروض التجارية للفيلم المصري «سنووايت» الذي شهد عرضه العالمي الأول في الدورة الرابعة بمهرجان البحر الأحمر السينمائي.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الفنان شكري سرحان قدم أدواراً مهمة في السينما المصرية (أرشيفية)

تصاعد الجدل حول انتقاد رموز الفن المصري بعد أزمة «شكري سرحان»

تصاعد الجدل خلال الأيام القليلة الماضية حول أزمة انتقاد رموز الفن المصري على خلفية انتقاد موهبة الفنان الراحل شكري سرحان بعد مرور 27 عاماً على رحيله.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق لقطة من الفيلم صوّرته الحاج في أثناء «ثورة أكتوبر» (ميريام الحاج)

«متل قصص الحب»... رحلة سينمائية استغرقت 7 سنوات

بعد فيلمها الوثائقي الأول «هدنة» تقدّم اليوم المخرجة ميريام الحاج ثاني أعمالها السينمائية الطويلة «متل قصص الحب».

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق لوحات المعرض يستعيد بها الفنان رضا خليل ذكريات صباه (الشرق الأوسط)

«سينما ترسو»... يستعيد ملامح أفلام المُهمشين والبسطاء

معرض «سينما ترسو» يتضمن أفكاراً عدّة مستوحاة من سينما المهمشين والبسطاء تستدعي الذكريات والبهجة

محمد عجم (القاهرة )

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)
المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)
TT

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)
المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن لثلاثين سنة مقبلة.

بالنسبة لجوستن (نيكولاس هاولت) في جديد كلينت إيستوود «محلّف رقم 2» (Juror ‪#‬2) هناك طريقة ثانية. بوصفه محلّفاً في القضية المرفوعة في المحكمة سيحاول بعثرة قناعات المحلّفين الآخرين من أن المتهم هو مذنب بالفعل، وذلك عن طريق طرح نظريات (وليس براهين) لإثارة الرّيب في قناعات الآخرين. ليس أن قناعات الآخرين ليست مدفوعة بقصر نظر أو أنانيات أو الرغبة في الانتهاء من المداولات والعودة إلى ممارسة نشاطات أخرى، لكن المحور هو أن جوستن واثق من أن جيمس (غبريال باسو) لم يقتل المرأة التي تشاجر معها والمتهم بقتلها. جيمس لا يملك الدليل، لقد شُوهد وهو يعنّفها في تلك الليلة الماطرة واعترف بأنه وصديقته كثيراً ما تشاجرا، لكنه أكد أنه لم يلحق بها في تلك الليلة المعتمدة ويدهسها. من فعل ذلك، ومن دون أن يدري، هو جيمس وهو في طريق عودته إلى البيت حيث تنتظره زوجته الحامل.

ليوناردو دي كابريو في «ج. إدغار» (وورنر)

بدوره، لم يُدرك في ذلك الظلام وفي تلك الليلة الممطرة فوق ذلك الطريق خارج المدينة ما صدم. ظن أنه غزالاً عابراً. نزل من السيارة ونظر حوله ولم يجد شيئاً ركب سيارته وانطلق مجدداً.

لكنه الآن يُدرك أنه صدم تلك المرأة التي يُحاكم صديقها على جريمة لم يرتكبها. لذا يسعى لإصدار قرار محلّفين ببراءته.

محاكمات مفتوحة

يؤسّس إيستوود (94 سنة) في فيلمه الجديد (وربما الأخير) لما سبق، ثم يُمعن في إضافة تعقيدات على الحبكة تتناول موقف جوستن المصيري، موقف باقي المحلّفين حياله ثم موقف المدعية العامّة فايث (توني كوليت) التي لا يُخالجها أي شك في أن جيمس هو القاتل. في بالها أيضاً أن فوزها في هذه القضية سيساعدها على الارتقاء إلى منصب أعلى.

إنه فيلم محاكمات وليس فيلم محاكمة واحدة. كعادته يُلقي إيستوود نظرة فاحصة وناقدة على كل ما يرد في أفلامه. على بطله الذي تشبّع بالقتل خلال الحرب العراقية في «قنّاص أميركي» (American Sniper)، ومن خلاله حاكم الحرب ومسؤولية من أرسله إلى هناك.

«محلّف رقم 2» خلال المداولات (وورنر)

في «بيرد» (Bird) قدّم سيرة حياة عازف الجاز تشارلي بيرد بايكر الذي سقط مدمناً على المخدّرات، ومن خلاله الطقوس التي تُحيط بأجوائه والمسؤولة عن مصيره.

نراه في «ج. إدغار» (J‪.‬ Edgar) يعرض لحياة ج. إدغار هوڤر، واحد من أقوى الشخصيات السياسية في الولايات المتحدة خلال القرن العشرين، لكنه يمضي ليحاكمه باحثاً في استخدامه سُلطته لهدم الآخرين. وعندما تناول جزءاً من سيرة حياة المخرج جون هيوستن، ذلك الجزء الذي أمضاه في أفريقيا ببندقية اصطاد بها الفيلة، انتقد هذا المنوال ودوافعه وتبعاته.

أما في «سُلطة مطلقة» (Absolute Power) فخيّر المُشاهد ما بين الحكم على لص منازل أو الحكم على رئيس الجمهورية الذي شاهده اللص وهو يقتل عشيقته.

في الواقع كل أفلام إيستوود مخرجاً (من منتصف السبعينات وما بعد) كانت سلسلة من محاكماته للمجتمع. للسُلطة، للقانون، للسياسة، للإعلام وللمصالح التي تربطها مع بعضها بعضاً، ومن ثم الفرد الواقع ضحية كل ذلك التآلف.

في «محلّف رقم 2» يعمّق منظوره من دون أن يشعر المُشاهد بأي ثقل أو عناء. بالنسبة إلى إيستوود هو أستاذ في كيف يطرح الأفكار العميقة والحبكات المستعصية بأسلوب سهل تستطيع أن تأخذه كعمل تشويقي أو تذهب به لما بعد به متجاوزاً حبكته الظاهرة إلى تلك البعيدة.

المواقف في هذا الفيلم متعددة. جوستِن يضع عدداً من رفاقه المحلّفين في شكوك ويُثير غرابة عدد آخر. أحدهم يخبره بأنه يقرأه ككتاب مفتوح ملئ بالنظريات، لكن من دون براهين. يسأله لماذا. جوستن لا يستطيع الإجابة على هذا السؤال.

رقصات التانغو

هو دراما محاكمات، كما كثير من الأفلام من قبله ومن بعده، «12 رجلاً غاضباً» (12Angry Men) الذي حققه سيدني لومَت في 1957 ويُشار إليه أحياناً بأنه أفضل فيلم محاكمات (نظرة موضع نقاش)، لكن على عكس معظمها من ناحية طروحاتها وأبعادها من ناحية، وعلى عكسها على نحو جامع من حيث تخطيه الشكل المستطيل المعتاد لأفلام المحاكمات. مثال، عوضاً أن يقضي إيستوود الوقت في قاعة المحكمة، يقطع قبلها وخلالها وبعدها لمشاهد خارجية داعمة. وعوض تقديم الأحداث كمشاهد استرجاعية (Flashbacks) يوردها ضمن تداول المحكمة كمشاهد موازية لما يدور متجنّباً مشاهد داخلية طويلة.

لا يترك إيستوود نافذة مفتوحة ولا يستخدم مواقف للتخفيف ولا يضيّع الوقت في سردٍ مُعاد أو موقف مكرر. هو أذكى من الوقوع في رقصات التانغو التي تسميها هوليوود اليوم أفلاماً.

فيلم إيستوود، كمعظم أعماله، عمل راقٍ وجاد. لا مزح فيه ولا عواطف ملتاعة عملاً بمقولة أرسطو «القانون هو سبب وجيه من دون العاطفة». إنه كما لو أن إيستوود استوحى من هذا التعريف كيفية معالجة هذا الفيلم وطرحه لولا أنه دائماً ما عالج أفلامه على هذا النحو بصرف النظر عما يسرد فيه. حتى فيلما الوسترن الشهيران له وهما «The Outlaw Josey Wales» و«Unforgiven» حملا لجانب إتقان العمل البُعد النقدي للتاريخ وللمؤسسة.