كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

الممثل والمخرج يحاكم المؤسسة في فيلمه الجديد

المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)
المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)
TT

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)
المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن لثلاثين سنة مقبلة.

بالنسبة لجوستن (نيكولاس هاولت) في جديد كلينت إيستوود «محلّف رقم 2» (Juror ‪#‬2) هناك طريقة ثانية. بوصفه محلّفاً في القضية المرفوعة في المحكمة سيحاول بعثرة قناعات المحلّفين الآخرين من أن المتهم هو مذنب بالفعل، وذلك عن طريق طرح نظريات (وليس براهين) لإثارة الرّيب في قناعات الآخرين. ليس أن قناعات الآخرين ليست مدفوعة بقصر نظر أو أنانيات أو الرغبة في الانتهاء من المداولات والعودة إلى ممارسة نشاطات أخرى، لكن المحور هو أن جوستن واثق من أن جيمس (غبريال باسو) لم يقتل المرأة التي تشاجر معها والمتهم بقتلها. جيمس لا يملك الدليل، لقد شُوهد وهو يعنّفها في تلك الليلة الماطرة واعترف بأنه وصديقته كثيراً ما تشاجرا، لكنه أكد أنه لم يلحق بها في تلك الليلة المعتمدة ويدهسها. من فعل ذلك، ومن دون أن يدري، هو جيمس وهو في طريق عودته إلى البيت حيث تنتظره زوجته الحامل.

ليوناردو دي كابريو في «ج. إدغار» (وورنر)

بدوره، لم يُدرك في ذلك الظلام وفي تلك الليلة الممطرة فوق ذلك الطريق خارج المدينة ما صدم. ظن أنه غزالاً عابراً. نزل من السيارة ونظر حوله ولم يجد شيئاً ركب سيارته وانطلق مجدداً.

لكنه الآن يُدرك أنه صدم تلك المرأة التي يُحاكم صديقها على جريمة لم يرتكبها. لذا يسعى لإصدار قرار محلّفين ببراءته.

محاكمات مفتوحة

يؤسّس إيستوود (94 سنة) في فيلمه الجديد (وربما الأخير) لما سبق، ثم يُمعن في إضافة تعقيدات على الحبكة تتناول موقف جوستن المصيري، موقف باقي المحلّفين حياله ثم موقف المدعية العامّة فايث (توني كوليت) التي لا يُخالجها أي شك في أن جيمس هو القاتل. في بالها أيضاً أن فوزها في هذه القضية سيساعدها على الارتقاء إلى منصب أعلى.

إنه فيلم محاكمات وليس فيلم محاكمة واحدة. كعادته يُلقي إيستوود نظرة فاحصة وناقدة على كل ما يرد في أفلامه. على بطله الذي تشبّع بالقتل خلال الحرب العراقية في «قنّاص أميركي» (American Sniper)، ومن خلاله حاكم الحرب ومسؤولية من أرسله إلى هناك.

«محلّف رقم 2» خلال المداولات (وورنر)

في «بيرد» (Bird) قدّم سيرة حياة عازف الجاز تشارلي بيرد بايكر الذي سقط مدمناً على المخدّرات، ومن خلاله الطقوس التي تُحيط بأجوائه والمسؤولة عن مصيره.

نراه في «ج. إدغار» (J‪.‬ Edgar) يعرض لحياة ج. إدغار هوڤر، واحد من أقوى الشخصيات السياسية في الولايات المتحدة خلال القرن العشرين، لكنه يمضي ليحاكمه باحثاً في استخدامه سُلطته لهدم الآخرين. وعندما تناول جزءاً من سيرة حياة المخرج جون هيوستن، ذلك الجزء الذي أمضاه في أفريقيا ببندقية اصطاد بها الفيلة، انتقد هذا المنوال ودوافعه وتبعاته.

أما في «سُلطة مطلقة» (Absolute Power) فخيّر المُشاهد ما بين الحكم على لص منازل أو الحكم على رئيس الجمهورية الذي شاهده اللص وهو يقتل عشيقته.

في الواقع كل أفلام إيستوود مخرجاً (من منتصف السبعينات وما بعد) كانت سلسلة من محاكماته للمجتمع. للسُلطة، للقانون، للسياسة، للإعلام وللمصالح التي تربطها مع بعضها بعضاً، ومن ثم الفرد الواقع ضحية كل ذلك التآلف.

في «محلّف رقم 2» يعمّق منظوره من دون أن يشعر المُشاهد بأي ثقل أو عناء. بالنسبة إلى إيستوود هو أستاذ في كيف يطرح الأفكار العميقة والحبكات المستعصية بأسلوب سهل تستطيع أن تأخذه كعمل تشويقي أو تذهب به لما بعد به متجاوزاً حبكته الظاهرة إلى تلك البعيدة.

المواقف في هذا الفيلم متعددة. جوستِن يضع عدداً من رفاقه المحلّفين في شكوك ويُثير غرابة عدد آخر. أحدهم يخبره بأنه يقرأه ككتاب مفتوح ملئ بالنظريات، لكن من دون براهين. يسأله لماذا. جوستن لا يستطيع الإجابة على هذا السؤال.

رقصات التانغو

هو دراما محاكمات، كما كثير من الأفلام من قبله ومن بعده، «12 رجلاً غاضباً» (12Angry Men) الذي حققه سيدني لومَت في 1957 ويُشار إليه أحياناً بأنه أفضل فيلم محاكمات (نظرة موضع نقاش)، لكن على عكس معظمها من ناحية طروحاتها وأبعادها من ناحية، وعلى عكسها على نحو جامع من حيث تخطيه الشكل المستطيل المعتاد لأفلام المحاكمات. مثال، عوضاً أن يقضي إيستوود الوقت في قاعة المحكمة، يقطع قبلها وخلالها وبعدها لمشاهد خارجية داعمة. وعوض تقديم الأحداث كمشاهد استرجاعية (Flashbacks) يوردها ضمن تداول المحكمة كمشاهد موازية لما يدور متجنّباً مشاهد داخلية طويلة.

لا يترك إيستوود نافذة مفتوحة ولا يستخدم مواقف للتخفيف ولا يضيّع الوقت في سردٍ مُعاد أو موقف مكرر. هو أذكى من الوقوع في رقصات التانغو التي تسميها هوليوود اليوم أفلاماً.

فيلم إيستوود، كمعظم أعماله، عمل راقٍ وجاد. لا مزح فيه ولا عواطف ملتاعة عملاً بمقولة أرسطو «القانون هو سبب وجيه من دون العاطفة». إنه كما لو أن إيستوود استوحى من هذا التعريف كيفية معالجة هذا الفيلم وطرحه لولا أنه دائماً ما عالج أفلامه على هذا النحو بصرف النظر عما يسرد فيه. حتى فيلما الوسترن الشهيران له وهما «The Outlaw Josey Wales» و«Unforgiven» حملا لجانب إتقان العمل البُعد النقدي للتاريخ وللمؤسسة.


مقالات ذات صلة

شاشة الناقد: دراما نسوية

سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )

شاشة الناقد: دراما نسوية

من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)
من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)
TT

شاشة الناقد: دراما نسوية

من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)
من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

الفستان الأبيض ‫★★★⭐︎‬

* إخراج: جيلان عوف

‫* دراما مجتمعية | مصر (2024)‬

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية. حتى الفيلم الذي ما زال النقاد حولنا يُعدّونه «أبو الواقعية» وهو «سارقو الدراجة» لڤيتوريو دي سيكا ليس واقعياً بالتجسيد الكامل. لديه حسّ واقعي وممثلون غير محترفين ومشاهد مصوّرة في الشوارع، لكن فيه قصٌ وتركيب وإطلاق عنان لحكاية.

لذا، فإن اتهام «الفستان الأبيض» بأنه فيلم غير واقعي ليس صحيحاً لأن مخرجته جيلان عوف لم تقصد تقديم هذا النوع من الأفلام. لو قصدت لفشلت تبعاً لما نراه. «الفستان الأبيض» أول وقبل كل شيء حكاية تقصد أن تنتقد حالات ناتجة عن حكاية خيالية. فتاة اسمها وردة (ياسمين رئيس) ستتزوّج في اليوم التالي لكن فستان الزفاف احترق صباحاً. هي وابنة خالتها بسمة (أسماء جلال) تنطلقان لشراء أو - على الأقل - استئجار فستان بديل. الرحلة تستمر طوال النهار ولساعة متأخرة من الليل من دون نتيجة. العراقيل متعددة، إما الأسعار عالية لا يمكن لفتاة من الطبقة الفقيرة تحمّلها أو هناك خلاف على الفستان يؤدي لمغادرة المكان بلا نتيجة، أو عندما تنجح وردة بمعاونة ابنة خالتها بسمة وصديقتها (إنجي أبو السعود) بالحصول على فستان مناسب تتعرض الفتيات لهيجان شوارعي بشع من شباب لا يحملون أي أخلاق. يتحرشون بهن ويخطفون الفستان ويدوسونه. الأمر يصل بوردة إلى التفكير بسرقة فستان، لكن شكراً لوالدتها (الجيدة سلوى محمد علي) استطاعت أن تنقذ الموقف في النهاية.

للفيلم حسنات عديدة. الحكاية نفسها جيدة الحبكة والتعرّض لواقع مجتمعي هو ليس الواقع الوحيد لكنه من لحمته. في مشاهد كثيرة تصوّر المخرجة شباباً بلا روادع أخلاقية يعيشون حياتهم بلهو مصطنع ويستمعون ويرقصون على أغاني لا فن أو معنى لها. للأسف تلجأ المخرجة في نهاية الفيلم إلى واحدة من تلك الأغنيات الشعبية التي كانت تنتقدها. ربما مضطرة لأن الأغنية هنا تعبيرٌ عن حفل الزفاف المقبل.

هناك ملامح إنسانية عديدة تبرز من ثنايا العلاقات النُّسوية كما من النقاشات بين وردة وخطيبها عصام (أحمد خالد صالح)، وتصوير متطوّر وسهل السياق من عمر أبو دومة، وتمثيل جيد من الجميع كبرت أدوارهم أم صغرت.

* عروض مهرجان البحر الأحمر.

Moon ‫★★‬

* كوردوين أيوب

‫* دراما مجتمعية | النمسا (2024)‬

دراما نسوية أخرى في شكل فيلم مختلف حققته المخرجة النمساوية (ذات الأصل الكردي) كوردوين أيوب في فيلمها الثاني. الأول أنجزته قبل عامين تحت عنوان «شمس»، والمشترك بينهما أنهما عن امرأة شابة ترفض الواقع وتُحارب ما قد يوقفها عن تحقيق استقلاليّتها. لكن الاستقلالية في فيلمها الجديد مسألة غارقة في تضارب ثقافات تقع ضحية فيها ولو لحين.

«قمر» (أولريخ سيدل فيلمز)

بطلتها مدرّبة ملاكمة للنساء. نتعرّف عليها سريعاً في الحلبة وفي البيت والمحيط النمساوي حيث عاشت وحيث تأمّنت حريّتها الشخصية. لا علاقة لمفهومها هذا بحقيقة ملازمة وهي أنها تحاول عبثاً التغلّب عن أحوالها المعيشية. لكن البحث عن مصدر عمل جيد يدفعها لقبول عرض من رجل أردني لديه ثلاث فتيات يريد من المدرّبة سارا (فلورنتين هولزنجر) تدريبهن على الملاكمة وفن الدفاع عن النفس. للغاية تسافر إلى الأردن وتبدأ العمل لتكتشف أن ما ينتظرها غير ما توقّعته. تصبح، رغماً عنها، جزءاً من وضعين واحد ثقافي والآخر يشوبه الغموض كونها تدرك الآن أن تدريباتها (التي ستتوقف بعد حين) ليست سوى أداة لأوضاع سياسية وعائلية غير مستتبة.

هذا فيلم عن الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا، ويمكن القبول بوجهة نظره كون الفوارق الثقافية بين تلك العربية وتلك الأجنبية أكبر من أن تُهضم، من وجهة نظر المخرجة التي ليس من السهل أو المعيب نقضها.

مشكلة هذا الناقد مع الفيلم هي أن الكاميرا المحمولة تقفز إلى الواجهة قبل الحدث وخلالها. ليس هناك سرد متواصل يشبه الاستماع إلى أسطوانة مشروخة. هو فيلم غاضب لأن بطلته غاضبة والمخرجة كذلك. الأسلوب يستعير من أفلام سابقة تعتقد أن عليها فرض طريقة العمل على المُشاهد لكي تنجح في إيصال رسالتها.

* عروض مهرجان ڤيينا

في الصالات

* من المسافة صفر ‫★★★‬ - فيلم تسجيلي مؤلف من 22 فيلماً قصيراً أشرف المخرج رشيد مشهراوي على إنتاجه يدور حول الحياة في غزة المستهدفة.

* The Damned ‫★★★‬ - فيلم رعب يختلف عن سينما هذا النوع يدور حول قرية تعيش لعنة اختياراتها عندما تفيق حائرة على سفينة جانحة.

* Wallace & Gromit: Vengeance Most Fowl ‫★★★★‬ - ينتمي إلى سلسلة «والاس وغروميت» الكرتونية الممتعة. فن التنفيذ بالدمى المتحركة مع فن الحكاية يتكاملان.

* 2073 ‫★★★‬ - نظرة داكنة أخرى على مستقبل الحياة على الأرض حيث السماء ترصد كل نفسٍ، والرافضون للتحوّلات مختبئون تحت الأرض.

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز