النساء الأربع في مسرحية «معمول» أصواتُ أخريات بعضهنّ يُخبّئ الأسى تحت طبقات الصمت: هيام أبو شديد بشخصية منطوية، متملّكة ووحيدة؛ وندى أبو فرحات بشخصية مُجاهِرة وجريئة؛ وسارة عبدو بدور مُحمَّل بالغبن الاجتماعي، مع سنتيا كرم بشخصية ساخرة على الأوجاع. رباعية تختار الغمز ثم تنقلب عليه لمصلحة البوح المباشر. أشياء تُفهَم من دون الإشارة إليها، وأحزانٌ تطفو على الوجوه أمام الذريعة الأولى.
الكتابة والإخراج لكريم شبلي وسارة عبدو، والعروض تستمرّ حتى 21 يوليو (تموز) الحالي على مسرح «دوار الشمس» في بيروت. يقف شبلي على الخشبة قُبيل العرض الأول ليُخبر حضوراً ملأ المقاعد بأنّ حلوى المعمول تُحضَّر بساعات، وتحضير المسرحية تطلَّب سنة. قال إنه يتحكّم عادة بنبضاته، لكنّ قلبه يباغت الآن وها هو يخفق بسرعة. أُنيرت الأضواء على ديكور يُشكِّل بنصفه الأول صالون تجميل، والثاني غرفة معيشة. حيوات النساء الأربع تدور حول هذا الحيّز المغلق، المنفتح بحدّه الأقصى على شرفة. المُعتمِل في الداخل؛ النزيف؛ روائح العمر الكريهة والندبة؛ تجد لمسة شفاء بمواجهة النفس والآخرين بعد تأجيل.
يحدُث التأثير بفعل حوارات بسيطة ومواقف سرعان ما تصبح مشتركة بين البطلات ومَن صفّقوا لهنّ طويلاً بعد العرض. طبيعة الدور ترفع ممثلة على حساب أخرى، لكنَّ الأربع يُجدن السطوع. يتفرَّدن برسم الأداء الخاص بينما الصوت يُفلِت من اختناقه وتتحرّر أوجاع. الأربع يطوين مراحل الجَلْد الذاتي ويمددن الأيدي للصفحة الجديدة.
يحضُر الرجل بظلاله على أقدار النساء. فالأربع ملوّعات بأشكال عدّة. مرّة هو الفقدان وأخرى هي الأحكام المسبقة. اقتصار حضوره الجسدي على مَشاهد قليلة أدّاها الممثل جوزيف آصاف بشخصية «إنقاذية» تحلُّ في الوقت المناسب على شكل استجابة؛ عوَّضه إفساح المجال لإظهار مساحة الرجل «العريضة» في يوميات المرأة وإن غاب كلياً عن المشهد. إنه جزء من شروط اللعبة وقواعدها. لا تُصوّره المسرحية «عدواً» أو جلّاداً، بل تُوجّه أضواءها نحو وَقْعه على بطلاتها. كيف هنَّ إنْ حضر «رجالهم» أو غابوا؟ وكيف يتعاملن مع المشاعر المُترتّبة على الحضور والغياب؟ الرجال هنا تبعات وأثر. واقع لا مفرّ منه، ومسألة يستحيل إنكارها أو سلخها من ميزان الوجود.
الحالة اللبنانية على مسافة قريبة جداً من مصائر البطلات. فالرصاص الطائش المُنطلق من أسلحة متفلّتة تُكرّس ثقافتها التركيبة العامة، يصنع المنعطف المفصليّ لأحداث كان الظنّ أنها آيلة إلى النهاية السعيدة. تختلط مآسي الشأن اللبناني بضحكات يُطلقها الجمهور، لكنها سرعان ما تُشكّل لحظات صمت مؤثّرة. ليس السرطان هو الصادم إنْ حلَّ على إحدى البطلات وأعاد تشكيلها، بل رحلة هزيمته في بلاد تحكمها عصابة.
وتمتدّ الحالة اللبنانية لتشمل العادات والقاموس اللفظي. فيحضر ذِكْر القدّيسين في الحوارات، ويُمارَس سلوك «التبخير» وربطه بحظّ أفضل. كما تُحمَّل سنتيا كرم لغة امرأة مولودة في طائفة تسبقها لهجة أبنائها إلى إعلان الهوية. ولشدّة إتقانها بإيقاع متسارع، ومهارة شخصية، ترفع المستوى.
بإعلاء فعل «الدعك»، وهو الخَبْز والعَجْن، أي قلْب المادة رأساً على عقب، وإخراجها من شكلها الواحد نحو الأشكال العدّة، عبر اختيار حلوى المعمول المتّخذ وضعيته الأخيرة بالمرور بهذه المراحل؛ يحدُث التوصيف الدرامي لوجوه الحياة وتحولاتها.
تشعر المسرحية بعدم الاكتمال من دون «قضية كبرى» بين مجموعة «قضايا من واقع الحال» تفلشها في فضائها، لتؤكد أنها ليست مجرّد فاصل ترفيهي، يُضحِك ويُسلّي، بل بُعد وقيمة. بطلاتها المُحمَّلات بهَمّ المواجهة الاجتماعية، والمتصدِّيات للضغوط، والمركَّبات وفق حالات نفسية محكومة بما ورثن وبُرمجنَ عليه، ومحاولاتهنَّ التغلُّب البالغ حدَّ إعلان «المحظور»؛ هؤلاء البطلات؛ ومعهنّ كريم شبلي (الرجل)، أدوات تحريك في وجه النمط الراسخ عندما يتعلّق الأمر بصورة الأرملة والمتزوّجة و«المتأخّرة» أمام سنّ الزواج، لإحالة النظرة العامة من الإجحاف إلى الإنصاف.
بإعلاء فعل «الدعك»، وهو الخَبْز والعَجْن، أي قلْب المادة رأساً على عقب، وإخراجها من شكلها الواحد نحو الأشكال العدّة، عبر اختيار حلوى المعمول المتّخذ وضعيته الأخيرة بالمرور بهذه المراحل؛ يحدُث التوصيف الدرامي لوجوه الحياة وتحولاتها. خروج المعمول من الأفران ليصبح مادة للتناوُل، أشبه بتشكُّل النساء تحت النار، وفي الحالة الضاغطة، وضمن الحيّز الضيّق (فرن).
تحلُّ الترسّبات النفسية في صدارة «أولويات المعالجة المسرحية»، فتداعياتها تحكُم العلاقة بين البطلات، وبين الواحدة منهنّ وذاتها. نرى الفوبيا والتعلُّق المرضي وصقيع الأجساد بفعل موت الشعور. النهاية نقطة تحوُّل تعيد التذكير بالواقع الكريه. المحاولة تُبدّل الأقدار، لكنّ مباغتات غير مُتوقَّعة تحدُث في اللحظة الأخيرة لتعيد الأمور إلى النقطة صفر. معمول الحياة بطعم القسوة في بيروت.