فرنسا: اليمين المتطرف مشروع عائلي تتوارثه عائلة لوبان

مارين لوبان تسلّمت قيادة «التجمع الوطني» من والدها وسلّمتها لرفيق درب ابنة أختها

تتوقع استطلاعات الرأي أن يتصدّر «التجمع الوطني» التصويت في الدورة الأولى من الانتخابات الفرنسية، الأحد (رويترز)
تتوقع استطلاعات الرأي أن يتصدّر «التجمع الوطني» التصويت في الدورة الأولى من الانتخابات الفرنسية، الأحد (رويترز)
TT

فرنسا: اليمين المتطرف مشروع عائلي تتوارثه عائلة لوبان

تتوقع استطلاعات الرأي أن يتصدّر «التجمع الوطني» التصويت في الدورة الأولى من الانتخابات الفرنسية، الأحد (رويترز)
تتوقع استطلاعات الرأي أن يتصدّر «التجمع الوطني» التصويت في الدورة الأولى من الانتخابات الفرنسية، الأحد (رويترز)

ثمة سؤالان مطروحان بقوة اليوم في فرنسا بشأن الانتخابات التشريعية لاختيار برلمان جديد، التي تعقد دورتها الأولى، الأحد؛ الأول، ما الذي سيحصل ما بين الدورتين الانتخابيتين الأولى والثانية، والفارق الزمني بينهما أسبوع واحد: هل ستدعو «الكتلة الوسطية» التابعة للرئيس إيمانويل ماكرون، منذ مساء الأحد، أي بعد أن تعرف نتائج الجولة الأولى، إلى التصويت لصالح مرشحي «الجبهة الشعبية الجديدة» التي تضم أحزاب اليسار والخضر لقطع الطريق على مرشحي اليمين التطرف؟ والثاني، هل سينجح مرشحو «التجمع الوطني» في الاستفادة من الدينامية السياسية التي يحظون بها بعد النجاح الاستثنائي الذي حققته لوائح الحزب في الانتخابات الأوروبية الأخيرة؟ وتؤكد استطلاعات الرأي حصول الحزب الذي يمثل اليمين المتطرف برئاسة جوردان بارديلا على الأكثرية المطلقة في البرلمان والبالغة 289 نائباً.

السقف الزجاجي

الواقع أن مؤسسات الاستطلاعات، التي تُحاول تحديد توجّهات الناخبين البالغ عددهم 49.5 مليون ناخب، عاجزة عن الإجابة عن هذين التساؤلين لسبب رئيسي؛ عنوانه النظام الانتخابي التشريعي الفرنسي القائم على أساس الدائرة الصغرى، بحيث إن فرنسا ستشهد، في الدورتين الانتخابيتين، 577 معركة انتخابية. لكن الثابت أن نسبة المشاركة التي من شأنها أن تقلب المعادلات تبدو هذه المرة مرتفعةً للغاية، إذ يتوقع أن تصل إلى 66 بالمائة، أي بزيادة 19 نقطة، هي ما كانت عليه في عام 2022. والثابت الآخر أن من بين المجموعات السياسية الثلاث التي تهيمن حالياً على المشهد الانتخابي، يبدو اليمين المتطرف الأكثر أهلية للفوز بالأكثرية أو الاقتراب منها إلى أكبر حد. وفي الحالين، سيكون له الدور الكبير المؤثر للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة، التي أرسى دعمها الجنرال ديغول في خمسينات القرن الماضي.

لافتات انتخابية لـ«التجمع الوطني» في باريس (إ.ب.أ)

وبكلام آخر، فإن «السقف الزجاجي»، وفق التشبيه الفرنسي الذي يعني أن اليمين المتطرف لن يصل يوماً إلى السلطة، إما بسبب طروحاته السياسية والأيديولوجية وتاريخه المثير للشبهات، أو لأن الفرنسيين ليسوا مستعدين بعد لإعطائه مفاتيح السلطة، تشقق.

وتغير هذا اليمين وتطور، حتى بات ينظر إليه على أنه حزب ككل الأحزاب، رغم أن الأحزاب الماكرونية والرئيس ماكرون شخصياً، وكذلك رئيس حكومته غابرييل أتال، جعلوه خارج «القوس الجمهوري»، والمقصود به الأحزاب المؤهلة لحكم فرنسا والملتزمة بالمبادئ والقيم الجمهورية.

تصدّر اليمين المتطرف

ورغم هشاشة الأرقام والنسب التي توفرها مؤسسات استطلاع الرأي، فإنه من المفيد التوقف عندها لأنها تعكس بأمانة نسبية توجهات الرأي العام المعلنة. وتفيد هذه الاستطلاعات بأن «التجمع الوطني» سيحتل المرتبة الأولى، بحيث سيحصل على 35 بالمائة من الأصوات، الأحد، وتتبعه «الجبهة الشعبية الجديدة» (حوالي 30 بالمائة)، فيما يحل «ائتلاف الوسط» في المرتبة الثالثة متخلفاً عن تحالف اليسار والخضر بفارق قد يصل إلى 10 نقاط.

وإذا صدقت استطلاعات الرأي المتواترة، فإن اليمين المتطرف الفرنسي قد يكون، للمرة الأولى، على أبواب السلطة مجدداً، منذ 84 عاماً، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانهيار نظام المارشال بيتان المتعاون مع ألمانيا النازية. لكن الفارق كبير للغاية بين سياق تسلقه سلم السلطة منتصف القرن الماضي، وبين السياق الراهن، حيث تشكل الانتخابات التشريعية التي تجرى جولتها الأولى، الأحد، رافعته الديموقراطية.

حلّة جديدة

وحتى يصل اليمين المتطرف إلى السلطة، أو يقترب منها إلى أقصى حدود، عبر العملية الانتخابية، في ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي وفي الدولة الوحيدة داخله المتمتعة بمقعد دائم في مجلس الأمن الدولي، وبحق النقض وبالسلاح النووي، كان عليه أن يتغير، ويتطبع، وأن تتحول صورته في أذهان الفرنسيين. فالحزب انطلق بداية في عام 1972، باسم «الجبهة الوطنية»، وكانت حاضنته الآيديولوجية والسياسية منظمة يمينية متطرفة اسمها «النظام الجديد»؛ وهي مزيج من مناصري المارشال بيتان والفلسفة النازية وتأثير الفاشستية الموسولينية في إيطاليا.

لوبان وبارديلا عقب عقدهما مؤتمراً صحافياً في باريس، 24 يونيو (رويترز)

وسريعاً جداً، وجد الحزب في جان ماري لوبان قائده الملهم. فهذا الرجل البالغ من العمر حالياً 96 عاماً له تاريخ حافل في ميدان التطرف، وقد برز اسمه خلال حرب التحرير الجزائرية، حيث شارك ضابطاً في صفوف الجيش الفرنسي. وتفيد وثائق أرشيفية وشهادات موثقة بأنه مارس التعذيب ضد أعضاء ومناصرين لـ«جبهة التحرير الجزائرية».

توريث زعامة «الجبهة الوطنية»

خلال رئاسته لـ«الجبهة الوطنية» طوال 39 عاماً حتى عام 2011، مارس لوبان الزعامة المطلقة. فكان الآمر الناهي الذي جزَّ رؤوس من حاولوا الانفصال عنه، أو منافسته على رئاسة الحزب، بحيث تخلى عن أقرب المقربين إليه مثل برونو غولنيش وبرونو ميغريه وكثيرين آخرين. وخلال حياته السياسية، انتُخب تباعاً نائباً في البرلمانين الفرنسي والأوروبي، ومسؤولاً محلياً وإقليمياً.

جان ماري لوبان، الأب المؤسس، في صورة تعود لعام 2019، أورث حزب «الجبهة الوطنية» لابنته مارين وأسس لتراث عائلي لم يتغير بعده (رويترز)

وخاض لوبان غمار الانتخابات الرئاسية 5 مرات. بيد أن أهم ما حققه في حياته السياسية أنه نجح في التأهل للجولة الثانية والنهائية من انتخابات عام 2002، حين حل في المرتبة الثانية في الجولة الأولى متقدماً على ليونيل جوسبان، المرشح الاشتراكي ورئيس الحكومة وقتها، إلا أنه في الجولة الثانية لم ينجح في تخطي عتبة الـ20 بالمائة، فيما حصل منافسه، الرئيس جاك شيراك، على 80 بالمائة بفضل التعبئة الشعبية ضد وصول رئيس يميني متطرف إلى قصر الإليزيه.

تجدر الإشارة إلى أن لوبان واجه العشرات من المحاكمات خلال حياته السياسية الطويلة بتهم مختلفة، منها العنصرية ومعاداة السامية ومعاداة الأجانب والترويج للكراهية وتمجيد جرائم الحرب، وقد حُكم عليه ما لا يقل عن 25 مرة.

في عام 2011، وعند وصوله إلى سن الـ83، تخلى لوبان الأب عن الرئاسة الفعلية لـ«الجبهة الوطنية». ولأن الصفة الأولى المكونة لحزبه أنه «عائلي»، في الصميم، فقد دعم ترشيح ابنته مارين ضد رفاقه القدامى الذين وقفوا إلى جانبه ودعموه لعقود، وبذلك حصلت على ثلثي أصوات أعضاء الحزب الذي أسبغ على لوبان الأب صفة «رئيس الشرف».

جوردان بارديلا ومارين لوبان خلال إطلاق حملة «التجمع الوطني» للانتخابات الأوروبية في مرسيليا (رويترز)

ولأن مارين الابنة وعت باكراً أن الاستمرار على نهج ولدها سيفضي بها إلى طريق مسدود، فقد سعت، منذ اليوم الأول لانتخابها وبمعاونة جيل جديد من الحزبيين والمقربين منها، إلى تغيير صورة الحزب واجتذاب الشباب إليه وتجذيره في المشهد السياسي والجغرافي الفرنسي. وبرز ذلك بقوة في اختيارها لرئاسته الشاب جوردان بارديلا، البالغ من العمر 28 عاماً، الذي لم يسبق له أن تسلم وظيفة إدارية، كما أنه لم يكمل دراسته الجامعية.

قضية عائلية

رغم المهارة السياسية التي أظهرها بارديلا، والصورة التي يعكسها، وهو الذي يطرح نفسه رئيساً للحكومة القادمة، والإيجابية التي يحظى بها في أوساط لم تعتد التهليل لـ«الجبهة الوطنية» وبعدها لـ«التجمع الوطني»، فإن وصوله إلى رئاسة حزبه لم يأت فقط بفضل براعته أو انتظامه، بل الفضل في ذلك يعود للروابط العائلية.

جوردان بارديلا، رئيس حزب «التجمع الوطني» يتأهب لتسلم منصب رئيس الحكومة في حال فوزه المرجح في الانتخابات البرلمانية القريبة (أ.ف.ب)

مارين لوبان ورثت الرئاسة من والدها، وتخلت عنها لأنها تريد أن تكرس نفسها للتحضير للانتخابات الرئاسية المقبلة. ولذلك، فإنها اكتفت، في البرلمان المحلول، برئاسة مجموعة حزبها النيابية وأوكلت لبارديلا أيضاً قيادة لائحة الحزب في الانتخابات الأوروبية.

بارديلا، منذ أربع سنوات، رفيق درب نولين أوليفيه التي هي ابنة ماري - كارولين لوبان، الشقيقة الكبرى لمارين وحفيدة جان - ماري لوبان. ولاكتمال الصورة، تتعين الإشارة إلى أن ماريون مارشال، رئيسة لائحة الحزب اليميني الأكثر تطرفاً «إعادة السيطرة» الذي يرأسه إريك زيمور، هي أيضاً حفيدة جان ماري لوبان، ما يُبيّن أن اليمين المتطرف الفرنسي هو أولاً «مشروع عائلي».

ماريون مارشال، حفيدة جان ماري لوبان عادت إلى الحضن العائلي بعد استقالتها من حزب إريك تيمور واسمها يطرح وزيرة مستقبلية (أ.ف.ب)

وبعد خلافها مع زيمور، انفصلت عنه وعادت إلى أحضان الحزب العائلي. وثمة من يطرح اسمها وزيرةً في الحكومة المقبلة، في حال حصل حزب «التجمع الوطني» على الأكثرية المطلقة في البرلمان.

ما يعيشه الحزب المذكور لا مثيل له، بهذا المستوى، لدى الأحزاب الأخرى. الجنرال ديغول لم يورث خليفة عائلية له، وسار من جاؤوا بعده على هديه. وينسحب هذا الواقع على الأحزاب التي لا توريث فيها يمنياً كان أو يساراً، بعكس الحال مع عائلة لوبان التي تهمين، لا بل احتكرت، منذ عقود، آيديولوجيا اليمين المتطرف رغم مساعي تلطيف صورته، وهي اليوم الأقرب للهيمنة على السلطة.


مقالات ذات صلة

بريجيت ماكرون تزور صديقاً قديماً في الصين: الباندا العملاق «يوان منغ» (صور)

يوميات الشرق سيدة فرنسا الأولى بريجيت ماكرون تحضر حفل تسمية الباندا المولود في حديقة حيوان بوفال بفرنسا عام 2017 (أ.ب)

بريجيت ماكرون تزور صديقاً قديماً في الصين: الباندا العملاق «يوان منغ» (صور)

التقت سيدة فرنسا الأولى بريجيت ماكرون بصديق قديم، وهو باندا عملاق ولد في فرنسا، وذلك أمس (الجمعة) في ختام زيارة إلى الصين مع الرئيس إيمانويل ماكرون.

«الشرق الأوسط» (بكين- باريس)
المشرق العربي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره السوري أحمد الشرع يتصافحان بعد انتهاء مؤتمرهما الصحافي المشترك في قصر الإليزيه يوم 7 مايو الماضي (أرشيفية - أ.ف.ب)

فرنسا تنظر بإيجابية إلى التحولات الجارية في سوريا

بعد عام على سقوط بشار الأسد، تنظر فرنسا بإيجابية للتطورات الحاصلة في دمشق، وتعتبر أن سوريا مستقرة ضرورة للتوازن الإقليمي والدولي.

ميشال أبونجم (باريس)
أوروبا المستشار الألماني فريدريش ميرتس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتحدثان في برلين بألمانيا يوم 23 يوليو 2025 (إ.ب.أ)

ماكرون وميرتس قلقان من النهج الأميركي للسلام في أوكرانيا

كشفت مجلة «شبيغل» الألمانية أن الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني عبّرا عن تشككهما في الاتجاه الذي تسلكه أميركا للتفاوض على السلام بين أوكرانيا وروسيا.

«الشرق الأوسط» (برلين)
أوروبا ماكرون مستقبلاً شي في قصر الإليزيه (أرشيفية - أ.ب)

ماكرون يزور الصين بينما توازن أوروبا بين المنافسة والاعتماد على بكين

سيبدأ ماكرون رحلته بزيارة قصر المدينة المحرمة في بكين غدا الأربعاء وسيلتقي مع الرئيس شي جينبينغ يوم الخميس في العاصمة الصينية قبل أن يجتمعان مرة أخرى الجمعة.

«الشرق الأوسط» (باريس)
أوروبا إيمانويل ماكرون مرحباً بزيلينسكي عند مدخل قصر الإليزيه (إ.ب.أ)

قمة ماكرون - زيلينسكي تطلق مروحة اتصالات أوروبية

مشاورات مكثفة وموسعة جذبتها القمة بين الرئيسين الفرنسي إيمانويل ماكرون والأوكراني فولوديمير زيلنسكي في باريس.

ميشال أبونجم (باريس)

البابا: لن نقف مكتوفي الأيدي أمام انتهاكات حقوق الإنسان

البابا ليو الرابع عشر يتحدث في الفاتيكان (أ.ب)
البابا ليو الرابع عشر يتحدث في الفاتيكان (أ.ب)
TT

البابا: لن نقف مكتوفي الأيدي أمام انتهاكات حقوق الإنسان

البابا ليو الرابع عشر يتحدث في الفاتيكان (أ.ب)
البابا ليو الرابع عشر يتحدث في الفاتيكان (أ.ب)

أكد البابا ليو الرابع عشر أمام سفراء جدد، اليوم (السبت)، أن الفاتيكان لن يقف مكتوف الأيدي أمام انتهاكات حقوق الإنسان في أنحاء العالم.

وهذه من أوضح التصريحات التي تكشف حتى الآن عن فلسفة البابا الأميركي، الذي انتُخب على رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم في مايو (أيار) عقب وفاة البابا فرنسيس.

وقال البابا أمام مجموعة السفراء الـ13: «أود أن أؤكد مجدداً أن الكرسي الرسولي لن يقف مكتوف الأيدي أمام التفاوتات الجسيمة، والظلم وانتهاكات حقوق الإنسان الأساسية في مجتمعنا العالمي الذي يزداد انقساماً وعرضة للصراعات».

و«الكرسي الرسولي» هو الهيئة الحاكمة للكنيسة التي يقودها البابا، ويمتلك سلطة روحية على 1.4 مليار كاثوليكي.

وأكد البابا أن «دبلوماسية الكرسي الرسولي تتجه باستمرار نحو خدمة خير البشرية، لا سيما من خلال مناشدة الضمائر، والإصغاء لأصوات الفقراء، أو الذين يعيشون في أوضاع هشّة، أو الذين يُدفعون إلى هامش المجتمع».

وبتركيزه على عدم المساواة، يبني ليو على أولويات سلفه البابا فرنسيس، الذي دافع عن حقوق المهاجرين وغيرهم من الفئات المستضعفة خلال حبريته.

وانتقد ليو، الذي أمضى قرابة 20 عاماً مبشّراً في البيرو، معاملة المهاجرين «غير المحترمة» في الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترمب.

والسفراء الجدد المعتمدون الذين استقبلهم الفاتيكان السبت، من أوزبكستان ومولدوفا والبحرين وسريلانكا وباكستان وليبيريا وتايلاند وليسوتو وجنوب أفريقيا وفيجي وميكرونيزيا ولاتفيا وفنلندا.


استراتيجية الأمن القومي الأميركي و«المعجزة» الأوروبية المنشودة

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)
TT

استراتيجية الأمن القومي الأميركي و«المعجزة» الأوروبية المنشودة

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)

لم يكن مفاجئاً مضمون استراتيجية إدارة الرئيس دونالد ترمب للأمن القومي الأميركي التي تُصوّر الحلفاء الأوروبيين بوصفهم ضعفاء، وتسعى إلى إعادة تأكيد هيمنة الولايات المتحدة في النصف الغربي من الكرة الأرضية.

ستثير الوثيقة التي صدرت الجمعة 5 ديسمبر (كانون الأول) 2025 عن البيت الأبيض استياء الحلفاء التقليديين لواشنطن في أوروبا، لما تتضمّنه من انتقادات لاذعة لسياسات قادة «القارة العجوز» في شأنَي الهجرة، وحرية التعبير، إذ تُشير إلى أنهم يواجهون «احتمال امّحاء حضاريّ»، وتشكّك في مدى موثوقيتهم بأنهم شركاء للولايات المتحدة على المدى الطويل.

وتُجدّد الوثيقة، بلغة لا تخلو من البرودة، والنبرة التصادمية، تأكيد فلسفة ترمب القائمة على مبدأ «أميركا أولاً» الذي يعني عملياً عدم التدخل في الخارج، وتُعيد تقييم عقود من الشراكات الاستراتيجية، وتضع المصالح الأميركية فوق كل اعتبار.

هذه أول استراتيجية للأمن القومي -وهي وثيقة يُلزم القانون الإدارة بإصدارها- منذ عودة الرئيس الجمهوري إلى السلطة في 20 يناير (كانون الثاني) 2025. وتمثل سطورها قطيعة واضحة مع النهج الذي اعتمدته إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، والتي سعت إلى إعادة تنشيط التحالفات بعد أن كانت قد تزعزعت خلال الولاية الأولى لترمب، وإلى كبح جماح روسيا الناهضة اقتصادياً بفضل صادراتها من النفط، والغاز.

*دور متراجع

سعى ترمب منذ عودته إلى البيت الأبيض إلى التوسّط لإنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية المستمرة منذ نحو أربع سنوات في أوكرانيا، وهو هدف تؤكد الاستراتيجية الجديدة أنه يدخل ضمن المصالح الحيوية لواشنطن الراغبة في تحسين علاقاتها مع موسكو بعد سنوات من التعامل مع روسيا بوصفها دولة منبوذة دولياً، وبالتالي يغدو إنهاء الحرب مصلحة أميركية أساسية من أجل «إعادة إرساء الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا».

إطفائي يتعامل مع نيران أشعلها هجوم جوي روسي على العاصمة الأوكرانية كييف (أ.ف.ب)

وتنتقد الوثيقة حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين الذين وجدوا أنفسهم هذا العام الذي يطوي أيامه الأخيرة أمام قساوة إصرار ترمب على التخلص من أعباء الحرب الروسية-الأوكرانية، بينما يواجهون تحديات اقتصادية داخلية، إضافة إلى أزمة وجودية، و«حضارية»، وفق واشنطن.

الواقع أنه ليس مستغرباً أن يضمر «حجم» أوروبا في التفكير الاستراتيجي للولايات المتحدة. فالتاريخ يُظهر أن الاستراتيجية الكبرى الأميركية التي كانت في الغالب تتمحور على أوروبا لا بد أن تعكس تراجع خطر هيمنة قوة واحدة على القارة القديمة منذ مطلع الألفية، وظهور مراكز أخرى للنفوذ الجيوسياسي، والرهانات الجيواقتصادية. وهذا ما دفع الولايات المتحدة إلى إعطاء مناطق أخرى من العالم أهمية متزايدة. فبينما ركّز الرئيس جورج بوش الابن على الشرق الأوسط، أعلن كل رئيس جاء بعده -حتى وإن لم يُنفَّذ الأمر بشكل كامل- سياسات تهدف إلى «التحوّل نحو آسيا». وفي عهد ترمب، أضيفت أميركا اللاتينية إلى آسيا، وما قاله الرجل عن بنما، وما يفعله حيال فنزويلا، وبدرجة أقل نحو كولومبيا خير دليل على ذلك.

*جيل أميركي مختلف

تُظهر التحوّلات الديموغرافية في الولايات المتحدة أنّ «جيل الحرب الباردة»، الذي كان يميل تلقائياً بشيء من الحنين إلى «الأطلسية»، والجسور الثقافية الممتدة إلى الجزر البريطانية، واليابسة الأوروبية، يقترب من «التقاعد»، ويحلّ محلّه جيلٌ أصغر سناً، وأكثر تنوّعاً من الناحية العرقية، ويعيد النظر في الدور الأميركي على مستوى العالم. ونظراً للحذر العميق الذي يعتمل في نفس ترمب حيال حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والاتحاد الأوروبي، كان طبيعياً أن يعمد في ولايته الثانية إلى إنزال أوروبا درجات في سلّم الأولويات، ومعها «الناتو» الذي أُنشئ عام 1949 للوقوف في وجه الاتحاد السوفياتي، ومنعه من مدّ نفوذه إلى أوروبا الغربية. فالتفاهم مع موسكو بشأن أوروبا ومناطق أخرى من الكوكب أفضل من إنفاق الأموال على حماية أوروبا «الاتكالية».

مبنى بيرلايمونت حيث مقر المفوضية الأوروبية في العاصمة البلجيكية بروكسل (أ.ف.ب)

خالف هذا التوجه تمسّك جميع الرؤساء الذين تولّوا الحكم في واشنطن بعد الحرب الباردة بالموقع الرئيس لأوروبا في الاستراتيجية الأميركية. فقد كانت أوروبا تُعدّ سوقاً رئيسة للبضائع، والخدمات الأميركية (خصوصاً الدفاعية)، وكان يمكن للحلفاء الأوروبيين أن يشكّلوا قوة مضاعِفة للنفوذ الأميركي في مناطق أخرى من العالم. وفي المقابل، كانت روسيا تهديداً لأمن أوروبا، وللنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، بما يشمل منطقة المحيط الهادئ، حيث تعمل موسكو على تعزيز مصالحها الخاصة، وتتماهى في مواقفها مع الصين.

*التحديات الثقيلة

جاء في وثيقة الاستراتيجية الأميركية أن «الركود الاقتصادي في أوروبا يقل أهمية عن الاحتمال الحقيقي والأكثر حدّة لحصول امّحاء حضاريّ».

وترى واشنطن أن أوروبا تضعف بسبب سياسات الهجرة التي تعتمدها، وتراجع معدلات الولادة، و«قمع حرية التعبير، وكبح المعارضة السياسية»، فضلاً عن «فقدان الهويات الوطنية، والثقة بالنفس».

تضيف الوثيقة: «إذا استمرت الاتجاهات الحالية، فإن القارّة ستكون مختلفة تماماً في غضون 20 عاماً أو أقل. بالتالي، ليس من الواضح إطلاقاً ما إذا كانت بعض الدول الأوروبية ستملك اقتصادات وجيوشاً قوية بما يكفي لتبقى من الحلفاء الموثوقين (...). نحن نريد لأوروبا أن تبقى أوروبية، وأن تستعيد ثقتها الحضارية بنفسها».

إذا سلمنا بصحة هذا التصوّر، فإننا نستنتج فوراً أن على أوروبا أن تصدّ أو تلطّف تداعيات الخروج الأميركي المرجَّح من معمعة الحرب الروسية–الأوكرانية. فالقارة لا تملك القوة الكافية لرفد كييف بما يمكّنها من مواصلة الحرب، ومجاراة القوة العسكرية الروسية. ولا فائدة من رفع الإنفاق العسكري في دول أوروبية عديدة لإقامة توازن مستحيل مع القوة الروسية، في موازاة استنزاف اقتصادات متعثرة تعاني عجزاً هائلاً بـ«قيادة» ألمانيا التي يبلغ دينها العام 2.55 تريليون يورو، وهو ما يعادل نحو 62.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وفرنسا (3.416 تريليون يورو، أي ما يعادل 115.8في المائة من الناتج المحلي).

لا شك في أنه يحق للاتحاد الأوروبي أن يشغل مقعداً إلى طاولة المفاوضات الجارية على قدم وساق بين واشنطن وموسكو لإنهاء الحرب في أوكرانيا التي تكتفي –رغم محاولات التجميل– بدور المتلقي. فالحرب مسرحها أوروبي، و«أهل الدار» معنيون بما يجري على أرضهم.

*التواصل أجدى من القطيعة

لن يتحقق المطلب الأوروبي إلا بإقامة خطوط اتصال بين بروكسل وموسكو، فبغير ذلك لا انخراط لأوروبا في صَوغ القرارات التي ستُتّخذ لإنهاء حرب أوكرانيا مع ما لذلك من انعكاسات على الأمن الأوروبي. وإن لم يحصل هذا الأمر فسيجد الأوروبيون أنفسهم يكتفون بردّ الفعل على تطوّرات تقودها واشنطن وموسكو، وبدرجة أقل كييف.

جنود من المشاة خلال تدريب عسكري فرنسي - بلجيكي مشترك في منطقة مفتوحة قرب بلدة سيسون بشمال شرقي فرنسا (أ.ف.ب)

أوروبا كبيرة، وغنية رغم العثرات الحالية، ومتقدمة تكنولوجياً. وهي تحتاج بالفعل إلى برنامج إعادة تسليح قوي يقنع موسكو -التي لا تريد حرباً مع أوروبا كما قال فلاديمير بوتين لكنها مستعدة لها– بالتفاوض الجدّي.

أما الورقة الثانية للإقناع فتكون بكسر الجمود بشأن الأصول الروسية المجمدة والمحتجَزة بموجب العقوبات التي أقرها الاتحاد الأوروبي على دفعات بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. فموسكو ستَنشد حلاً لتحرير أصولها الأوروبية التي تقدَّر قيمتها بـ210 مليارات دولار. أما الرأي الأوروبي القائل بضرورة استخدام هذه الأصول لدعم أوكرانيا، فمؤداه إطالة عمر الحرب، ووضع القارة في حالة مواجهة مع روسيا هي في غنى عنها.

ثمة من يقول إن الكرملين لا يفهم سوى لغة القوة، والبيت الأبيض لا يفهم سوى لغة الأعمال، وعلى أوروبا أن تتقن اللغتين. وثمة من يردّ على ذلك بالقول إن ما ورد عن البيت الأبيض صحيح، في حين أن ما ورد عن الكرملين مضلِّل.

ولعلّ الحقيقة أن كل هذه المعادلة لا ضرورة لها، وليس على أوروبا أن تتقن لغتين، بل عليها أن تُحسن إنجاب قادة حقيقيين يعرفون التاريخ ليضعوا رؤى لمستقبل يقيهم شرّ «الامّحاء الحضاري»، و«تلاشي الهويات»، فهل تتحقق «المعجزة»؟...


«الطاقة الذرية»: الدرع الواقية لمحطة تشرنوبل النووية تضررت

يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)
يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)
TT

«الطاقة الذرية»: الدرع الواقية لمحطة تشرنوبل النووية تضررت

يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)
يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)

أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة أمس (الجمعة)، أن الدرع الواقية في محطة تشرنوبل النووية بأوكرانيا، التي تم بناؤها لاحتواء المواد المشعة الناجمة عن كارثة 1986، لم تعد بإمكانها أداء وظيفتها الرئيسية للسلامة، بعد تعرضها لأضرار بسبب طائرة مسيرة، وهو ما اتهمت أوكرانيا روسيا بالمسؤولية عنه، بحسب «رويترز».

وقالت الوكالة إن عملية تفتيش الأسبوع الماضي لهيكل العزل الفولاذي الذي اكتمل في عام 2019، وجدت أن تأثير الطائرة المسيرة في فبراير (شباط)، أي بعد 3 سنوات من الصراع الروسي في أوكرانيا، أدى إلى تدهور الهيكل.

وقال رافائيل غروسي المدير العام للوكالة في بيان، إن «بعثة التفتيش أكدت أن (هيكل الحماية) فقد وظائف الأمان الأساسية، بما في ذلك القدرة على الاحتواء، ولكنها خلصت أيضاً إلى أنه لم يكن هناك أي ضرر دائم في هياكله الحاملة أو أنظمة المراقبة».

وأضاف غروسي أنه تم بالفعل إجراء إصلاحات «ولكن لا يزال الترميم الشامل ضرورياً لمنع مزيد من التدهور، وضمان السلامة النووية على المدى الطويل».

وذكرت الأمم المتحدة في 14 فبراير، أن السلطات الأوكرانية قالت إن طائرة مسيرة مزودة برأس حربي شديد الانفجار ضربت المحطة، وتسببت في نشوب حريق، وألحقت أضراراً بالكسوة الواقية حول المفاعل رقم 4 الذي دُمر في كارثة عام 1986.

وقالت السلطات الأوكرانية إن الطائرة المسيرة كانت روسية، ونفت موسكو أن تكون قد هاجمت المحطة.

وقالت الأمم المتحدة في فبراير، إن مستويات الإشعاع ظلت طبيعية ومستقرة، ولم ترد تقارير عن تسرب إشعاعي.

وتسبب انفجار تشرنوبل عام 1986 في انتشار الإشعاع بجميع أنحاء أوروبا، ودفع السلطات السوفياتية إلى حشد أعداد هائلة من الأفراد والمعدات للتعامل مع الحادث. وتم إغلاق آخر مفاعل يعمل بالمحطة في عام 2000.

واحتلت روسيا المحطة والمنطقة المحيطة بها لأكثر من شهر في الأسابيع الأولى من غزوها لأوكرانيا في فبراير 2022، حيث حاولت قواتها في البداية التقدم نحو العاصمة الأوكرانية كييف.

وكانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد أجرت التفتيش في الوقت نفسه الذي أجرت فيه مسحاً على مستوى البلاد للأضرار التي لحقت بمحطات الكهرباء الفرعية، بسبب الحرب التي دامت نحو 4 سنوات بين أوكرانيا وروسيا.