جوردان بارديلا.... الورقة الرابحة لليمين الفرنسي المتطرّف

احترف السياسة باكراً وتبنّى استراتيجيات انتهازية للوصول إلى دوائر النفوذ

جوردان بارديلا.... الورقة الرابحة لليمين الفرنسي المتطرّف
TT

جوردان بارديلا.... الورقة الرابحة لليمين الفرنسي المتطرّف

جوردان بارديلا.... الورقة الرابحة لليمين الفرنسي المتطرّف

فوز حزب «التجمع الوطني» الفرنسي في الانتخابات الأوروبية، التي أجريت أخيراً، باللائحة التي قادها رئيسه جوردان بارديلا لم يكن يحمل أي مفاجأة. والسبب هو أنه منذ أشهر عدة توقّعت كل معاهد الإحصاء ومؤسسات استطلاع الرأي في فرنسا فوز المرشح الشاب، الذي أصبح في ظرف أشهر قليلة، على الرغم من قلة خبرته من أكثر الشخصيات السياسية الفرنسية شعبية، ونجماً من نجوم أبرز منصّات التواصل الاجتماعي، وخاصة منصة «تيك توك».

ولد جوردان بارديلا يوم 13 من شهر سبتمبر (أيلول) عام 1995 في ضاحية درانسي بشمال شرقي العاصمة الفرنسية باريس. وهناك عاش مع والدته ذات الأصول الإيطالية، التي كانت عاملة بسيطة في مدرسة ابتدائية. أما والده فصاحب شركة لتوزيع آلات بيع المشروبات وهو يتحدّر من أصول إيطالية وجزائرية؛ إذ إن أمه – أي جدّة جوردان - راجان مادا ابنة مهاجر جزائري من منطقة القبائل بشمال الجزائر إلى الشرق من الجزائر العاصمة.

النشأة والمسيرة

عاش جوردان بارديلا معظم الوقت مع والدته وجدته بعد طلاق والديه. ولقد تلقى تعليمه في المدارس الخاصّة وحاول الالتحاق بالمعهد العالي للعلوم السياسية «سيانس بو» المرموق بعد حصوله على البكالوريا، غير أنه فشل في مسابقة الدخول مرتين. ومن ثم، أوقف دراسته الجامعية في تخصّص الجغرافيا بعد سنة فقط، ليتفرّغ بصفة نهائية للسياسة من دون أن يحصل على أي شهادة جامعية. والواقع أن رئيس حزب «التجمع الوطني» - الذي هو عملياً الوريث السياسي لحزب «الجبهة الوطنية» اليميني المتطرف - قد بدأ نشاطه السياسي وهو لا يزال في سن السادسة عشرة. وفي أعقاب التحاقه بصفوف الحزب، تسلّق سلم المسؤوليات بسرعة فائقة؛ إذ اختير بارديلا مساعد نائب في البرلمان عام 2015، ثم عُيّن ناطقاً باسم الحزب بين العامين 2017 و2019.

الصعود السريع

المحطة التالية لجوردان بارديلا تمثلت بدخوله معترك الانتخابات الأوروبية لأول مرة في العام 2019، وفي حينه ما كان يتعدى عمره الثالثة والعشرين. ويومذاك، فاز بمقعد نيابي في البرلمان الأوروبي ليصبح أصغر نائب في تاريخ البرلمان الأوروبي. وبعد ذلك اختير ليكون نائب رئيسة «التجمع الوطني» مارين لوبان عام 2022، بعدما اضطرت إلى الانسحاب بسبب مشاركتها في الانتخابات الرئاسية، وبعد فشلها الذريع في تلك الانتخابات واتهامها بالتورّط في قضية اختلاس أموال عامة؛ الأمر الذي كان من شأنه جعلها غير مؤهلة للترشح. وفي السنة ذاتها، واصل السياسي الشاب الطموح صعوده الصاروخي مع اختياره رئيساً للحزب خلفاً لمارين لوبان التي هي ابنة السياسي المخضرم جان ماري لوبان مؤسس حزب «الجبهة الوطنية» وعميده.

الورقة الرابحة لليمين المتطرف

تقارير صحافية عدة أكدّت أن قرار اختيار جوردان بارديلا رئيساً لـ«التجمع الوطني» كان نابعاً من مارين لوبان نفسها. ذلك أن الرئيسة السابقة للحزب اليميني المتطرف معجبة جداً بطموح هذا الشاب وذكائه، حتى أنها لم تتردّد في وصفه بـ«الحيوان السياسي» حين سألها أحد الصحافيين عن رأيها فيه.

وأيضاً، في مناسبات عدة ظهرت لوبان وهي تعامل «تلميذها» كالأم الحنون؛ إذ شوهدت، مثلاً، في تحقيق تلفزيوني وهي تنصحه بتناول السكّريات قبل انطلاق المؤتمر لشحن الطاقة، أو وهي تمازحه بينما يتمرّن على الخطاب الذي سيلقيه.

بل أنها، حسب شهادة الصحافي بيار ستيفان فور في كتابه «البديل الكبير... أو الوجه الخفي لبارديلا»، كانت قد سجلّته في هاتفها الجوال تحت اسم «الليث الصغير» ثم «الأسد» بعد فوزه في انتخابات العام 2019. وأضاف المصدر نفسه القول إن العلاقة التي تجمع بين الاثنين هي بمثابة «علبة سوداء» فيها، بالتأكيد، شيء من العاطفة، لكنها تظل مسألة «مصلحة سياسية مشتركة» قبل كل شيء. وتابع المصدر أن كلاً من لوبان وبارديلا يحتاج إلى الآخر... وكلاهما يكمل الأخر. فهو نجح في الوصول إلى شرائح ناخبين كانت هي قد فشلت في الوصول إليها كالناخبين الشباب وأبناء الطبقة المتوسطة وسكان الضواحي... وفي الوقت عينه، تظل هي زعيمة الحزب ولا يمر قرار إلا بموافقتها. ولكن النقطة الأهم، على الإطلاق، هي أن مارين لوبان أيقنت أن «تلميذها الشاطر» صار الورقة الرابحة التي قد توصلها إلى حلم حياتها... ألا وهو قصر «الإليزيه» مقر الرئاسة الفرنسية.

مرحلة الرعاية والتأهيل!

بناءً على ما سبق؛ وجدت مارين لوبان أنه كان من الضروري الاهتمام ببارديلا؛ كونه ورقتها الحزبية الرابحة. وبالفعل، خُصصت دورات تدريبية للقيادي الشاب منذ عام 2018 ولمدة أربع سنوات، ولا سيما في مجالات التواصل السياسي والتعامل مع وسائل الإعلام. وهنا نقرأ في مقال نشرته صحيفة «الليبراسيون» ما يلي: «لقد تلّقى جوردان بارديلا تدريباً منتظماً في كيفية الحصول على الابتسامة المثالية، وكيف التكلم أو مراوغة الصحافيين لدى الرد عن أسئلتهم. ثم أنه كان يحضر أسبوعيّاً بمساعدة فريق خاص كلّ الأسئلة التي يمكن أن تُطرح عليه وأفضل الأجوبة الممكنة ويحفظها عن ظهر قلب. ويمكن أن نقول إنه ببساطة (منتج تسويق سياسي) جرى تحضيره وتدريبه والدعاية له كي يحقق الفوز». ولم ينس كاتب المقال أن ينقلّ أيضاَ عبارة باسكال أومو، خبير العلاقات السياسية الذي أوكلت إليه مهمة تدريب بارديلا؛ إذ قال: «كانت مهمتي أن أجعل منه فاشياً لطيفاً».

نجم الـ«تيك توك»

من جهة ثانية، فإن الوجه الجديد لبارديلا، الذي يجسّد اليمين المتطرف يختلف تماماً عما تعود عليه الفرنسيون. ذلك أن الرجل؛ أولاً ليس من عائلة لوبان وإن كان «رفيق» الحفيدة نولوين. وهو أيضاً بحكم شبابه بعيد كل البعد عن حقبة «الشيطنة» التي عرفها الحزب مع مؤسّسه جان ماري لوبان، المعروف بمواقفه العنصرية المتطرفة. فقد انضم بارديلا إلى الحزب وهو لا يزال في السادسة عشرة من العمر، أي في ذروة المنعطف الذي تبنّاه حزب «الجبهة الوطنية» ابتداءً من عام 2015... أولاً بتغيير الاسم إلى «التجمع الوطني» والتخلّص من جان ماري لوبان، الذي صار عبئاً ثقيلاً عليه، ثم انتهاج طريق أكثر سلاسة ومرونة.

وعلى الرغم من أن وصول مارين، ابنة لوبان المؤسس، فتح للحزب وتياره السياسي آفاقاً جديدة، فإن ماضيها العائلي ظل يعرقل مسيرة الفوز، إلى أن أخذت الأمور تتغير أخيراً مع الشعبية المتصاعدة للسياسي الشاب.

مما لا شك فيه أن بارديلا يتمتع بـ«كاريزما» لافتة، وهو شاب وسيم ومهذّب، يجيب عن أسئلة الصحافيين بهدوء ومن دون أي عصبية إلى درجة تذكّر بنجوم «سينما الخمسينات» في أناقته الكلاسيكية. وللعلم، دخل بارديلا في قائمة «الشخصيات الخمسين الأكثر شعبية في فرنسا»، حسب الدراسة السنوية التي تنشرها مجلة «جي دي دي»، مع أنه الشخصية السياسية الوحيدة في هذه القائمة. وبالتوازي مع هذا الواقع، يحظى القيادي الشاب بشعبية واسعة في منصات التواصل الاجتماعي، وبالأخص «تيك توك»، حيث يتابعه أكثر من مليون و300 شخص معظمهم من الشباب، ولعل في ذلك ما يفسر ارتفاع نسبة الناخبين من الشباب خلال الاستحقاق الانتخابي الأخير... وهي سابقة في تاريخ اليمين المتطرف.

بارديلا... ليس «كوزيت»!

استطراداً، في عدد خاص بمجلة «لوبوان» بعنوان «جوردان بارديلا الحقيقي»، كتب أحد صحافييها ما يلي: «منذ البداية قدّم التجمع الوطني نجمه الساطع جوردان بارديلا على أنه شاب عصّامي من أصول بسيطة، كوّن نفسه بنفسه، إلا أن الحقيقة مختلفة تماماً. فوالده الذي كان يقيم عنده في نهاية كل أسبوع صاحب شركة مزدهرة، ويسكن أحياء الضواحي الراقية ويصطحب ابنه في عطلة الصيف إلى مدينة ميامي الأميركية».

وواصل الصحافي: «بارديلا لم يكن (كوزيت) (الشخصية الروائية في مسلسل الصور المتحركة المقتبس يابانياً عن رواية «البؤساء» الشهيرة)، كما يريد أن يقدم نفسه للناخبين. وهو وإن كان يعيش في الضواحي فإنه كان بعيداً عن الأحياء الفقيرة التي يقطنها المهاجرون، الذين لم يختلط بهم، ولم يجرّب العمل في الإدارة ولا في قطاع الصناعة، كما لم يعرف البطالة؛ لأنه فضّل احتراف السياسة ورواتب كوادرها المرتفعة».

طموح وانتهازية...

وحقاً، حين وصل بارديلا إلى حزب «التجمع الوطني» تبّنى استراتيجية انتهازية تتمثل بالاقتراب من دوائر النفوذ للحصول على امتيازات، وبالأخص من عائلة لوبان.

في البداية، كان قريباً من فريديرك شاتيون، زعيم مجموعة اتحاد الدفاع (الغود) وهي منظمة راديكالية تُعرف بميولها النازية والعنصرية ودعواتها للعنف، حيث واعد لمدة سنتين ابنته كيريدوان شاتيون، المنخرطة في صفوف المنظمة نفسها. ومن ثم يقول أورليان لوغران، أحد أصدقائه السابقين لصحيفة «نوفل أوبزرفاتور» في لقاء معه: «كل شيء بدأ بالنسبة لجوردان حين شاهدته مارين لوبان وهو يتأبطّ ذراع كيريدوان ابنة صديق الطفولة فريديك... وقتها أحسّت بأنه شخص جدير بالثقة وسمحت له بالدخول في دائرة الحاشية المقرّبة».

بعدها، طموح السياسي الشاب دفعه إلى محاولة الاقتراب أكثر، وهو ما نجح فيه فعلاً حين أصبح عضواً في عائلة لوبان، مع دخوله حياة ومن ثم مصادقته نولوين أولفييه (حفيدة جان ماري لوبان وإبنة ماري كارولين أخت مارين وفيليب أولفييه العضو البارز في الحزب ومستشار مارين). في المقابل، قصّة صعود بارديلا هي أيضاً قصّة خيانات، أهمها قضية تخلّيه عن صديقه فلوريان فيليبو، العضو السابق في المكتب السياسي الذي كان يمثل «الجناح اليساري» في الحزب. إذ حمل بارديلا معه مشاريع إصلاحية للضواحي تستهدف مجال التربية والسكن والشغل، لكن عندما أقدمت مارين لوبان على عزل فيليبو بسبب خلافات داخلية، كان بارديلا أول من يتخلّى عن صديقه. وجدت مارين لوبان أنه كان من الضروري الاهتمام ببارديلا كونه ورقتها الحزبية الرابحة. وبالفعل خصّصت له دورات تدريبية منذ عام 2018 لمدة 4 سنوات


مقالات ذات صلة

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)
حصاد الأسبوع الرئيس عبد المجيد تبّون (رويترز)

فوز منتظر للرئيس عبد المجيد تبّون في انتخابات الرئاسة الجزائرية

يتوجه الجزائريون اليوم إلى مراكز الاقتراع لاختيار رئيس جديد. وهذه هي ثاني استحقاقات رئاسية بعد الحراك الذي طال سنتين تقريباً، وشهد خروج ملايين الجزائريين إلى

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع  تأتي رئاسة تراوري في فترةٍ تواجه خلالها بوركينا فاسو تحديات أمنية وإقليمية بعدما فقدت السيطرة على نحو 40 في المائة من مساحتها، للجماعات المسلّحة

إبراهيم تراوري... رئيس بوركينا فاسو وقائد حربها الشرسة ضد «الإرهاب»

رغم تعهّد النقيب إبراهيم تراوري، رئيس بوركينا فاسو، بألا يبقى في السلطة، فإنه مدّد فترة الحكم الانتقالي خمس سنوات إضافية، راهناً إجراء الانتخابات التي كان من

فتحية الدخاخني (القاهرة)

الأردن... رئيس لا يجامل في مواجهة مجلس نواب برؤوس حامية

تشكيلة الحكومة الأردنية الجديدة بحضور الملك عبدالله الثاني (وكالة الأنباء الأردنية بترا)
تشكيلة الحكومة الأردنية الجديدة بحضور الملك عبدالله الثاني (وكالة الأنباء الأردنية بترا)
TT

الأردن... رئيس لا يجامل في مواجهة مجلس نواب برؤوس حامية

تشكيلة الحكومة الأردنية الجديدة بحضور الملك عبدالله الثاني (وكالة الأنباء الأردنية بترا)
تشكيلة الحكومة الأردنية الجديدة بحضور الملك عبدالله الثاني (وكالة الأنباء الأردنية بترا)

لم يُفسّر أحد «قلة اكتراث» الشارع الأردني أمام حدثين مهمين على المستوى المحلي: إذ بعد نتائج الانتخابات النيابية التي أُجريت في العاشر من سبتمبر (أيلول) الحالي وجاءت نتائجها بعكس جميع التوقعات الرسمية، تشكلت حكومة جديدة مُشبعة بمفارقات عدة، بدءاً من اختيار الرئيس، وليس انتهاءً بخريطة التشكيل سياسياً وديموغرافياً وجغرافياً. وحقاً، لم ينشغل أحد سوى الإعلام ونخبه السياسية ببث تحليلات متناقضة بين التبشير ونقص التفاؤل بالمرحلة. إذ يُعتقد وسط النخب أن جبهة المواجهة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية مقبلة، لا سيما وأن اختيار الفريق الوزاري سبق انعقاد مجلس الأمة ليصادر معه طموحات النواب الحزبيين بأن يكون لهم تأثير في اختيار الوزراء من بوابة «المشاورات» - التي درجت أحياناً ويعتبرها البعض «شكلية»، - الأمر الذي قلّص مساحات نفوذ الأحزاب الطامحة أمام منتسبيها والرأي العام.

اختيار جعفر حسّان رئيساً للحكومة الأردنية الجديدة كان مفاجأة لم تتوقعها الأوساط السياسية؛ كونه «رجل ظل مؤثراً» في صناعة القرارات السياسية والاقتصادية خلف الكواليس، وذلك من خلال خدمته في فترتين مديراً للمكتب الخاص للعاهل الأردني (الفترة الأولى من 2014 - 2018، والفترة الثانية من عام (2021 - 2024)، بل، حتى وهو وزير في 6 حكومات، عُرف عنه زهده الإعلامي.

المقربون من حسّان يصفونه بأنه حاد الطباع، وإن خفتت هذه الصفة إبّان خدمته الأخيرة بالقصر الملكي. وهو منتظم بالعمل لساعات طويلة لدرجة يرهق معها مَن حوله، ثم أنه محسوب على نخب الاقتصاد أكثر من نخب السياسة، وقريب من تيار ينتمي إلى فكرة الإصلاحات الشاملة في البلاد، وهو التيار الذي أثّر بحسّان خلال فترته الثانية في خدمة الملك عبد الله الثاني.

أشبه بـ«تعديل موسّع»

لم تأتِ حكومة جعفر حسّان التي أدت اليمين الدستورية يوم 18 سبتمبر (أيلول) الحالي بأسماء من خارج صندوق الخيارات التقليدية؛ ما دفع بعض النقاد إلى اعتبار التشكيل أشبه بـ«تعديل موسع» على حكومة بشر الخصاونة، التي استقالت غداة إعلان النتائج النهائية لانتخابات أعضاء مجلس النواب في الجريدة الرسمية. ويأتي ذلك انسجاماً من أعراف أردنية تتعلق بمشاورات مراكز القرار المدنية والأمنية، وحسابات الجغرافيا والمحاصصة.

ولقد تحصّنت حكومة حسّان في تشكيلتها الجديدة بخبرات بيروقراطية وخبرات نيابية ونقابيّة سابقة تأهباً لـ«المواجهة المرتقبة» مع مجلس النواب الذي سيتعامل مع استحقاقين دستوريين في مطلع عهده، هما: مناقشة البيان الحكومي والتصويت على الثقة، واستحقاق مناقشة وإقرار قانون الموازنة العامة المُثقل بأرقام العجز وارتفاع سقوف خدمة المديونية الخارجية والداخلية. وكذلك سيتعامل مع مطالبات نيابية موسمية تُطالب بإلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل، ومطالب اقتصادية لم يعد بإمكان الحكومات الاستجابة لها في ظل تنامي أرقام المديونية العامة وعجز الموازنة. وفضلاً عن هذا وذاك، فإن الرئيس الجديد المعروف عنه اقتصاده في المجاملة سيواجه بنواب عُرف عنهم الإسراف في المطالبات الخدمية.

من جهة ثانية، جاء احتفاظ حسّان بحقائب لعدد من الأصدقاء المقربين منه - وهو واقع استقرت عليه الأعراف السياسية في البلاد من حيث الاستعانة بالمعارف والثقات في اختيار الوزراء - فإنه لم يستطع تجاوز أسماء خلال الـ48 ساعة الماضية التي سبقت إعلان تشكيلة فريقه الوزاري، ولقد خصّ في تشكيلته ثلاثة أحزاب فقط من التي نجحت في الانتخابات الأخيرة.

قراءات أولية يصعب التنبؤ بنتائجها

استدعى جعفر حسّان من الخبرات النيابية السابقة كلاً من: المحامي عبد المنعم العودات، رئيس مجلس النواب الأسبق ورئيس اللجنة القانونية لدورات عدة، ليكون وزيراً للشؤون السياسية والبرلمانية، وخالد البكار، النائب السابق لدورات عدة وعضو مجلس الأعيان وزيراً للعمل، وخير أبو صعيليك، النائب السابق لدورات عدة ورئيس لجنة الاقتصاد والاستثمار في مجلس النواب لدورات عدة وزير دولة لتطوير القطاع العام. كذلك استعان حسّان بمصطفى الرواشدة، عضو مجلس الأعيان وأول نقيب لنقابة المعلمين (المُعطل عملها بموجب قرار قضائي) في البلاد وزيراً للثقافة، والنائب السابق يزن شديفات وزيراً للشباب.

جرى استدعاء هؤلاء في مواجهة مجلس النواب الجديد، بكتله الحزبية الوازنة التي تتقدّمها كتلة حزب «جبهة العمل الإسلامي»، كتلة «المعارضة الحرجة» الممثلة بـ31 مقعداً، إلا أن ما ينقصهم في خبرة العمل الحكومي، قد يعوّضه الوزير العائد والمحسوب على تيار البيروقراط الرسمي المهندس وليد المصري الذي عيّن وزيراً للإدارة المحلية. وكان المصري قد خدم رئيساً لبلدية إربد الكبرى، ثاني أكبر بلديات المملكة، ثم وزيراً في حكومات متعاقبة، ولقد نجح في تفريق جبهات المعارضة النيابية في ملفات عدة أيام مشاركته في حكومات عبد الله النسور، وهاني الملقي وعمر الرزاز خلال السنوات بين 2013 و2019.

وبين الخطوات المهمة كان الإبقاء على أيمن الصفدي، الوزير الأكثر شعبية في الحكومة السابقة بسبب تصريحاته القاسية تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة وموقفه المعادي لحكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية، نائباً للرئيس ووزيراً للخارجية، وأيضاً الاستعانة بعضو مجلس الأعيان محمد المومني صاحب لقب «أطول وزراء الإعلام بقاءً»؛ إذ عمل وزيراً خلال السنوات (2013 - 2018) مسجلاً حضوراً لافتاً في عدد من الأحداث الأمنية والسياسية التي عاشتها البلاد، ومعروف عنه دقة تصريحاته، ودبلوماسيته العالية في الإجابة عن أسئلة الصحافيين.

الأحزاب في البرلمان

وكما سبقت الإشارة، جاءت تشكيلة حكومة الرئيس حسّان كـ«أمر واقع» وفق موعد تكليفه، لتتجاوز فكرة المشاورات النيابية الحزبية غير المُلزمة؛ الأمر الذي ترك ظلالاً على فرص تشكيل حكومة «توافقات حزبية». وهذا ما يؤيده مناصرو فكرة منع «حرق المراحل»؛ إذ من المبكّر الذهاب لهذا الخيار في ظل غياب غالبية حزبية مؤثرة نيابياً. وبين المفارقات الرقمية والمحاصصات التقليدية ما يلي:

أولاً- توزّعت جغرافيا اختيار الفريق الحكومي تبعاً للتقاليد المحلية، فحظي شمال المملكة بحصة وازنة من الحقائب، وتمثل الجنوب بخمس حقائب وزارية، وكان للوسط حصة أعلى في الحقائب مما كان له في الحكومة السابقة، وذلك لصالح محافظتي العاصمة والبلقاء، في حين بقيت أرقام «كوتات» الشركس والمسيحيين من دون ارتفاع. وتَسقط هذه الحسابات إلا من جلسات النميمة السياسية في البلاد، بيد أنها لن تؤثر في ارتفاع منسوب النقاش المجتمعي بسبب ابتعاد الأردنيين عن سجالات المحاصصة والجهوية إذا كان أداء الفريق الوزاري جاداً في حل الأزمات الاقتصادية المتراكمة.

ثانياً - انخفض عدد النساء في الحكومة الجديدة إلى 5 سيدات، ولقد توزّعن على وزارات السياحة التي أسندت إلى لينا عناب، والتخطيط والتعاون الدولي لزينة طوقان، والتنمية الاجتماعية لوفاء بني مصطفى، والنقل لوسام التهتموني. وبقيت نانسي نمروقة في الحكومة الجديدة، لكن كوزيرة الدولة للشؤون الخارجية بعدما كانت تشغل حقيبة وزارة الدولة للشؤون القانونية في الحكومة السابقة. وفي المقابل، خرجت من الحكومة وزيرة الاستثمار خلود السقّاف، ووزيرة العمل ناديا الروابدة، ووزيرة الثقافة هيفاء النجار.

ثالثاً - أبقت الحكومة الجديدة على وزراء الخارجية أيمن الصفدي، والتربية والتعليم والتعليم العالي عزمي محافظة، ووزير الداخلية مازن الفراية، ووزير الأشغال ماهر أبو السمن، ووزير المياه رائد أبو السعود، والزراعة خالد حنيفات، والطاقة صالح الخرابشة، والأوقاف محمد الخلايلة، والصحة فراس الهواري، والبيئة خالد الردايدة، إضافة إلى الوزيرات الخمس. في حين انتقلت وزارة الإدارة المحلية من الوزير المخضرم توفيق كريشان إلى وليد المصري، والاتصال الحكومي من مهند مبيّضين إلى محمد المومني، ووزارة المالية من محمد العسعس لأمينها العام عبد الحكيم الشبلي، ووزارة الدولة للشؤون القانونية من نانسي نمروقة إلى فياض القضاة رئيس ديوان التشريع والرأي، ووزارة الدولة لشؤون رئاسة الوزراء من إبراهيم الجازي إلى عبد الله العدوان، ووزارة الدولة من وجيه عزايزة إلى أحمد العبادي، ووزارة الدولة للشؤون الاقتصادية من ناصر شريدة إلى مهند شحادة، ووزارة الاقتصاد الرقمي والريادة من أحمد الهناندة إلى سامي سميرات، والشؤون البرلمانية من حديثة الخريشا إلى عبد المنعم العودات، والعمل من ناديا الروابدة إلى خالد البكار، ووزارة الثقافة من هيفاء النجار إلى مصطفى الرواشدة، ووزارة الصناعة والتجارة من يوسف الشمالي إلى يعرب القضاة.

هذا، وبدلاً من وزير العدل أحمد زيادات دخل الفريق الحكومي بسام التلهوني - وهو الذي غادر ومعه وزير الداخلية السابق سمير مبيضين بتعديل طارئ من حكومة بشر الخصاونة بسبب مخالفتهما شروط وقواعد السلامة العامة المتبعة أثناء انتشار فيروس «كوفيد - 19» -، كما عاد إلى الحكومة وزيراً للاستثمار مثنّى الغرايبة بعد مغادرة خلود السقاف، وللعلم سبق للغرايبة العمل في حكومة عمر الرزاز (2018 - 2020)، وكان قبلها حراكياً نشطاً خلال سنوات الربيع الأردني. ولقد عادت السفيرة الأردنية لدى اليابان لينا عناب إلى موقعها وزيرة للسياحة بدلاً من مكرم القيسي، ويذكر أنها كانت قد استقالت من حكومة الرزاز، ومعها وزير التربية والتعليم عزمي محافظة، بعد فاجعة وفاة 22 طالباً وطالبة في البحر الميت بسبب الظروف الجوية ومخالفة تعليمات الرحلات المدرسية شتاء عام 2019.

جبهات حكومية مزدحمة المعارك

بناءً على ما سبق؛ من المتوقع أن يكون لحزب «جبهة العمل الإسلامي» (الذراع السياسية لجماعة «الإخوان المسلمين» غير المرخّصة في البلاد) فرصة لتحقيق مزيد من الشعبية من خلال مقاعده الـ31 في مجلس النواب العشرين؛ إذ يعتقد أن نواب الحزب سيسعون لتسجيل المواقف مسلحين بملَكة الخطابة ومتجهّزين بقراءات سابقة وتحضير جيد لجداول أعمال الجلسات النيابية الرقابية والتشريعية.

وبالفعل، بدأ استثمار الحزب مبكّراً في حصد الإعجاب الشعبي من خلال مطالباته بمواقف تصعيدية ضد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ودعوته إلى النزول للشارع بهتافات «تزايد» على الموقف الرسمي الذي حظي باحترام النخب السياسية بعد تقدّمه على عدد من المواقف العربية والدولية، ويتوقع أن يواصل نواب الحركة الإسلامية حصد المزيد من الشعبية على حساب موقع الحكومة المحاصرة بمحدّدات لا يمكن تجاوزها. ومن ثم، يتوقّع مراقبون أن تكون «عقدة المواجهة» المنتظرة بين نواب الحركة الإسلامية والحكومة هي مسألة نقابة المعلمين التي جمّد القضاء أعمالها منذ عام 2018، وجرى توقيف نقيبها وأعضاء من مجلسها، وهذا النقيب هو اليوم نائب فاز عن مقاعد الدائرة الحزبية المخصصة للأحزاب، وهو شخصية شاغبت كثيراً في ملف نقابة المعلمين وتعرّضت للتوقيف مرات عدة.

الإسلاميون... ومفاجأة الرسميين

> جاءت نتائج الانتخابات الأخيرة «صادمة» لمراكز القرار السياسي في الأردن، وبالأخص بعد الكشف عن «زيف» بعض الدراسات والاستطلاعات التي أجرتها مؤسسات مجتمع مدني روّجت لقراءات داخلية تتعارض مع الواقع الذي ظهرت عليه النتائج النهائية. وكانت هذه قد أشارت إلى «محدودية» أصوات الحركة الإسلامية، وتنامي فرص أحزاب محسوبة على الخط الرسمي. لكن نتيجة كتلة حزب «جبهة العمل الإسلامي» جاءت بما لم يتوقعه أحد في أعقاب حصول مرشحيها على أكثر من 450 ألف صوت من أصل 1.65 مليون من المقترعين. ومقابل ذلك، جاءت نتائج أحزاب «الميثاق» 93680 ألف صوت، و«إرادة» 75121، والحزب الوطني الإسلامي 87519، و«تقدم» 61199، وهذه النتائج على مستوى الدائرة العامة المخصصة للأحزاب. من ناحية أخرى، بعيداً عن التلاوم بين «عرّابي العملية الانتخابية»، فإن قانون الانتخاب الذي أجريت بموجبه الانتخابات الأخيرة صعد بالجميع على الشجرة، فأمام حقيقة النتائج، فإن أي تعديل على القانون سيكون بمثابة «رِدة» على برنامج التحديث السياسي. وإذا بقي القانون على حاله، فإنه من المقرّر ارتفاع أرقام المقاعد الحزبية في البرلمان المقبل بنسبة 50 في المائة؛ وهو ما سيعني زيادة ضمنية لمقاعد الإسلاميين في المجلس المقبل، وهذا تحدٍ أمام «الدولة العميقة» التي تبحث عن تعدّدية متقاربة الأثر والدور والتنظيم. والحقيقة أن الإسلاميين كانوا مُدركين لحقيقة أرقامهم. فأي قانون انتخاب بصوتين: واحد لدائرة محلية حدودها الإدارية ضيقة وواحد آخر للدائرة العامة (الوطنية) المخصّصة للأحزاب... يعني مضاعفة حصصهم في عدد المقاعد. وهذا مع الوضع في الحسبان أن «مطبخ» إدارة العملية الانتخابية لدى الحركة الإسلامية، ابتعد تماماً عن مزاحمة مرشحيه في الدوائر المحلية، وركّز على «خزّانه التصويتي» في معاقله التاريخية. وهكذا حصل في الدوائر المحلية على 14 مقعداً في عشر دوائر محلية ترشّحوا عنها، وفي الدائرة العامة حصل على 17 مقعداً، مستفيداً من أصوات مجّانية حصل عليها من المحافظات ودوائر البدو المُغلقة ذات الصبغة العشائرية التي كانت تُحسب تاريخياً على المؤسسة الرسمية.