بعد قضائها شهرها الأول على متن محطة الفضاء الصينية «تيان غونغ»، لا تزال أسماك الزرد أو (الأسماك المخططة) الأربعة التي أرسلتها بكين إلى الفضاء تتمتع بصحة جيدة.
كان الهدف من المهمة «الفضائية»، التي تم إرسال هذه الأسماك إليها، هو اختبار تطور الفقاريات في حالة الجاذبية الصغرى، أي كيفية تعاملها وتعايشها مع قوى الجاذبية الضعيفة. ويبدو أن كل شيء يسير على ما يرام مع هذا السرب السمكي الفضائي الصغير حسب المسؤولين الصينيين. ومع ذلك، عندما حطت أسماك الزرد رحالها داخل محطة «تيان غونغ» في 25 أبريل (نيسان) 2024، بدت هذه المخلوقات البحرية مشوشة وشديدة الارتباك في البداية، حسبما ذكر المراقبون المكلفون بمتابعتها.
ففي تقاريرهم العلمية، أوضح رواد الفضاء الصينيون؛ يي غوانغفو، ولي كونغ، ولي غوانغسو، أنهم شاهدوها وهي تسبح على ظهورها، أو باتجاه الخلف، أو حتى في شكل دوائر، وبدت كما لو أنها غير قادرة على إيجاد طريقها للسباحة في الفضاء، قبل أن تستقر الأمور بشكل طبيعي.
لم تختر الصين هذا النوع من الأسماك مصادفة. ذلك أن الدورة الإنجابية لأسماك الزرد قصيرة، وكذلك مرحلة نموها، كما تسمح شفافية بيضها للعلماء بدراسة نموها بسهولة أكبر. علاوة على ذلك، فإن تركيبها الجيني يتقارب في العديد من النقاط مع تركيب البشر الجيني، مما يسمح باستخدام بعض استنتاجات التجربة لصالح الجنس البشري. ومن غير المتوقع أن تعود أسماك الزرد هذه إلى الأرض على الإطلاق، ذلك أن الهدف من بقائها في الفضاء هو بناء نظام بيئي حقيقي حولها يسمح للعلماء بدراسة ليس فقط تأثيرات الجاذبية الصغرى عليها، ولكن أيضاً عواقب التعرض للإشعاع الكوني.
يحرص رواد الفضاء الصينيون على أخذ عينات المياه التي تسبح فيها هذه الأسماك على فترات منتظمة، وكذلك على إطعامها في أوقات محددة. كما تسمح سلسلة من الكاميرات المثبتة بمراقبتها باستمرار من جانب الباحثين على الأرض.
هذه الأسماك الأربع ليست أول أسماك يتم دفعها إلى مدار الأرض. ففي عام 2012، وكجزء من مشروع بحثي، أرسلت اليابان أسماك «الزرد» و«ميداكا»، التي تعيش تقليدياً في حقول الأرز إلى محطة الفضاء الدولية. وأظهرت الدراسات التي أجريت عليها آنذاك انخفاضاً في كثافة عظام هذه الأسماك خلال عشرة أيام فقط، وقد لوحظت هذه الظاهرة نفسها بالفعل لدى البشر الذين سافروا إلى الفضاء. لكن أول سمكة ذهبت إلى الفضاء كانت بلا شك سمكة «موميكوج»، التي أرسلت إلى المدار عام 1973 ضمن مهمة «سكاي لاب 3» الأميركية، كما تم إرسال أسماك أخرى من هذا النوع إلى الفضاء عام 1975 مع مهمة «أبولو-سويوز» الأميركية-السوفياتية. ثم جاء دور سمك الزرد في عام 1976 خلال مهمة «ساليوت 5» برعاية الاتحاد السوفياتي. وبالتالي فإن المهمة الصينية هي جزء من سلسلة متصلة منطقية ومتماسكة تماماً، لوضع اللبنات العلمية لنظام غذائي فضائي معتمد لرواد الفضاء المستقبليين.
لكن الصين ليست وحدها من يجري تجاربه «السمكية» في الفضاء. ذلك أن الغرب يعد عدته العلمية كذلك، ولكن بطرق وأساليب مبتكرة ترتكز على إرسال بيوض الأسماك بدلاً من الأسماك نفسها.
ويجري فريق فرنسي منذ سنوات تجارب على بيض سمك «القاروص». وانتهت بالفعل تجربة على 200 بيضة لهذا النوع، بعد فحصها بعناية واحدة واحدة للتأكد من سلامتها قبل أن يتم الإغلاق عليها بإحكام داخل عبوة صغيرة خاصة ذات شكل نصف بيضاوي مملوءة بدقة بمياه البحر حتى حافتها.
وخلال التجربة الأرضية عانى البيض الثمين لمدة دقيقتين كاملتين، من اهتزازات شديدة تماثل انفجار محركات صاروخ الإطلاق الحامل للكبسولات الفضائية، أعقبتها ثماني دقائق أخرى من الاهتزاز الأكثر حدة تعادل صعوده إلى السماء.
صحيح أن هذه البيوض السمكية لم تغادر فعلياً الأرض. ولكن المحاكاة المعملية المصممة لإعادة خلق الاهتزاز الشديد أثناء الإقلاع النموذجي، أثبتت للباحثين الفرنسيين أن البيض يمكنه النجاة من «محنة الانطلاق» بشكل جيد. ويعد هذا الاكتشاف حاسماً في تقدم برنامج «حضانة القمر»، وهو برنامج يهدف إلى تحديد ما إذا كان بإمكان رواد الفضاء تربية الأسماك بنجاح داخل مزرعة قمرية مستقبلية.
يحلم سيريل برزيبيلا، الباحث في تربية الأحياء المائية لدى «معهد الأبحاث الفرنسي لاستغلال البحار»، الذي يقود البحث، بتصميم مزرعة أسماك قمرية تستخدم المياه الموجودة بالفعل على سطحه للمساعدة في إطعام سكان القرية القمرية المستقبلية المقرر إنشاؤها من جانب «وكالة الفضاء الأوروبية» بالتعاون مع «ناسا» الأميركية. ويعد مشروع «حضانة القمر» مجرد واحد من نحو 300 فكرة قيد التقييم حالياً من قبل «وكالة الفضاء الأوروبية». ويأمل برزيبيلا أن يقدم لسكان القمر طعاماً طازجاً وشهياً وغنياً بالبروتين، وليس مجرد عبوات من اليرقات المجففة المجمدة. يقول برزيبيلا: «لقد اقترحت فكرة إرسال البيض وليس الأسماك، لأن البيض والأجنة قوية جداً». وتشير تجاربه حتى الآن إلى أنه على حق. ومع ذلك، فقد أشارت الأبحاث التي أجراها فريقه أيضاً إلى أنه ليست كل الأسماك صالحة للاستخدام في الفضاء بشكل متساوٍ.
لبدء بحثه حول الأسماك «الفضائية» المثالية للعيش على القمر، قام برزيبيلا وزملاؤه بتقليص قائمة تضم مئات الأنواع إلى حفنة قليلة فقط تتمتع بمواصفات خاصة: تستهلك كمية متواضعة من الأكسجين، وتنتج كمية صغيرة من ثاني أكسيد الكربون، وتحتاج إلى قليل من الوقت لفقس البيض، وتمتلك القدرة على مقاومة الجسيمات المشحونة، إذ تتعرض أشكال الحياة للإشعاع أثناء السفر إلى الفضاء. وقد وجد ضالته في نوعين مثاليين: «القاروص الأوروبي» و«سمك النعّاب».
يتم هز العبوات التي تحتوي على البيض باستخدام قطعة قياسية من معدات المختبر تسمى «الهزاز المداري». ثم تم تعريض البيض لاهتزازات أقوى بكثير باستخدام آلة مختلفة تهزهم في تسلسل خاص، مصمم لمحاكاة إطلاق صاروخ «سويوز» الروسي. ويجادل الفريق بأنه لا توجد رحلة فضائية من شأنها أن تسبب اهتزازاً أكثر تطرفاً من ذلك.
وبعد رجّ بيض المجموعتين، فقس 76 في المائة من بيض القاروص، وهي نتيجة لم تكن بعيدة عن معدل النجاح البالغ 82 في المائة لعينات المراقبة غير المهزوزة. ومقارنة بالقاروص، كان أداء «النعّاب» أفضل: فقد فقس 95 في المائة من البيض المهزوز مقابل 92 في المائة من نظيره الموجود في المجموعة غير المهزوزة. يقول برزيبيلا بسعادة: «لقد كان الأمر جنونياً تماماً. فقد كانت البيئة صعبة للغاية بالنسبة لهذا البيض». ويرجح برزيبيلا أن بيض الأسماك، بعد أن تطور ليصمد أمام محن البيئات المائية، حيث يتحمل التيارات القوية والأمواج والاصطدامات بالأسطح الصلبة، أصبح جاهزاً بشكل طبيعي للرحلات الفضائية.
إلى جانب القيمة الغذائية التي توفرها شرائح الأسماك المستزرعة على القمر، يشير برزيبيلا إلى أنه ستكون هناك فوائد أخرى لرواد الفضاء، «فمن وجهة النظر النفسية، من الأفضل أن يكون لديك ما يذكرك بالأرض، مثل الحديقة وحوض الأسماك».
ويتفق مع هذا الرأي لوك روبرسون، الباحث في مركز كيندي للفضاء التابع لوكالة «ناسا» الأميركية في فلوريدا، الذي يضيف «أن تصميم أنظمة قائمة بذاتها ومكتفية ذاتياً لإنتاج الغذاء خارج الأرض سيكون أمراً بالغ الأهمية لبرامج استكشاف الفضاء المستقبلية». ويشير روبرسون أيضاً إلى أن القاروص يعد خياراً مثيراً للاهتمام، لأن هذا النوع يتحمل مستويات متفاوتة من الملوحة، وبالتالي يمكن تربية القاروص بمياه الصرف الصحي الناتجة من أنظمة القاعدة القمرية الأخرى.
ومع ذلك، فثمة خيار أكثر ملاءمة للمأكولات البحرية القمرية. إذ يبحث روبرسون وزملاؤه في إيجابيات وسلبيات أنواع مختلفة مرشحة لتربية الأحياء المائية خارج الكوكب. واتضح له أن اللافقاريات مثل بلح البحر والروبيان، قد تكون رهاناً أفضل من القاروص؛ «فالأنواع الفقارية تتطلب مساحات كبيرة، ولا توفر السعرات الحرارية المثلى للكتلة الجسدية»، حسب اعتقاده.