أدرجت مصادر حقوقية سورية تعميم وزارة الداخلية في دمشق، بوقف التعذيب المعنوي أو الجسدي للموقوفين ضمن سلسلة التغييرات الأمنية، منذ سبتمبر (أيلول) الماضي، بينها إلغاء المحاكم الميدانية العسكرية، وما تبعها مطلع العام الحالي من تغييرات في الأجهزة الأمنية.
وقالت المصادر لـ«الشرق الأوسط»، إن دمشق تعمل على شد مفاصل أجهزتها الأمنية وإعادة توصيف وتحديد مهامها، بهدف تمتينها وتدعيم مركزيتها، وفي الوقت ذاته توجه رسائل إلى الأطراف العربية والدولية بـ«الاستجابة لمطالب مكافحة تهريب المخدرات والاتجار بالبشر ووقف الانتهاكات».
ولفتت المصادر إلى أن التعميم الذي نشرت نصه وزارة الداخلية السورية على معرفاتها بوسائل التواصل الاجتماعي، خلت من الإشارة إلى المعتقلين لأسباب سياسية تتعلق بحرية الرأي، والانتهاكات التي يتعرضون لها هم وعائلاتهم وكل من يتصل بهم. مع الإشارة إلى أن الاعتقالات الخاصة بحرية التعبير في السنوات الأخيرة، أغلبها جرى استناداً إلى قانون الجرائم الإلكترونية.
وحسب تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن الأشهر الستة الأخيرة شهدت مقتل نحو 29 شخصاً تحت التعذيب في السجون السورية، كما تم اعتقال 534 مدنياً بينهم 8 أطفال و21 سيدة. وذلك، رغم إصدار محكمة العدل الدولية قراراً في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، يطالب النظام السوري باتخاذ جميع الإجراءات لمنع أعمال التعذيب وغيرها من الانتهاكات، ويعد القرار ملزماً قانوناً لسوريا وجاء استجابة لدعوى رفعتها هولندا وكندا أمام محكمة العدل الدولية للنظر في اتهام بانتهاك «اتفاقية مناهضة التعذيب» الدولية.
وعقب اجتماع عقده وزير الداخلية محمد الرحمون مع مديري إدارات الأمن الجنائي ومكافحة المخدرات والاتجار بالأشخاص ورؤساء فروع الأمن الجنائي ومكافحة المخدرات في المحافظات، أصدر الأحد الماضي، تعميماً إلى جميع وحدات الشرطة بالتعاون مع الجهاز القضائي للتقيد بالمدد القانونية للتوقيف والتحقيق، وعدم اللجوء إلى تمديده إلا في حالة الجرائم الجنائية الكبيرة.
ونص التعميم على ضرورة توخي الدقة في التعامل مع المعلومات التي ترد من المخبرين وأصحاب السوابق والأشخاص المقبوض عليهم عند التحقيق: «كيلا يوضع مواطنون أبرياء في دائرة الاتهام».
كذلك طالبهم بإبلاغ ذويهم بمكان وجودهم لدى الجهة التي قبضت عليهم، و«تجنب اللجوء إلى التعذيب الجسدي أو المعنوي لانتزاع الاعتراف القسري، (الإكراه، التهديد، الإهانة والإساءة بالكلام... وغيرها»، لكونها تتنافى مع (المادة 53) من الدستور». قرار الوزير طالب بقصر استخدام «إذاعة البحث» على من تتوفر ضده أدلة وعدم إذاعة البحث عن الأشخاص إلّا من خلال المفتاح الخماسي والرقم الوطني.
ونوه التعميم إلى «متابعة وضبط شبكات تهريب المهاجرين التي تستغل حاجة المواطنين للسفر بشكل غير مشروع خارج البلاد»، وتكثيف الجهود في مواجهة بعض الجرائم التي ارتفعت معدلاتها في الآونة الأخيرة، لا سيما سرقة الكابلات الكهربائية والهاتفية.
كما شدد التعميم على ضرورة تكثيف الدوريات، لا سيما في الأماكن المحتملة لعبور شحنات المخدرات باتجاه المناطق الحدودية والمناطق التي يحتمل فيها ترويج المواد المخدرة وتعاطيها داخل البلاد.
يشار إلى أن جهاز المخابرات العامة (أمن الدولة)، يتبع إدارياً وزارة الداخلية، إلا أنه عملياً يتمتع بسلطات تفوق سلطات الوزير كما أن معظم ضباط الأمن يأتون من ملاك وزارة الدفاع. ويضم جهاز أمن الدولة عدداً كبيراً من الأفرع في دمشق والمحافظات، أشهرها فرع الاتصالات بدمشق ويعرف بفرغ (الخطيب) سيئ الصيت، وقد اختفى في أفرعه آلاف السوريين في السنوات الأولى من الاحتجاجات وفق منظمات حقوقية، ونسبة كبيرة منهم اعتقلوا بطرق تعسفية وجرى إنكار وجودهم فيها، بينهم قتلى تم التعرف عليهم من خلال صور «قيصر».
وفي السنوات الأخيرة تحول فرع (الخطيب) إلى كابوس يقض مضاجع العاملين في مجال الصرافة وصاغة الذهب في جميع المحافظات السورية الواقعة في مناطق سلطة دمشق، من خلال لجان أمنية ترسل إلى المحافظات، وذلك رغم وجود أفرع لجهاز أمن الدولة فيها؛ حيث يتولى ملاحقة تصريف العملة ويفرض إتاوات باهظة ضمن ما صار يعرف بـ(التسوية) التي تمت قوننتها، مؤخراً، لتجنب تحويل أفراد الأمن إلى القضاء المختص.
ورجحت المصادر الحقوقية في دمشق أن تكون توصية وزارة الداخلية بـ«تجنب اللجوء إلى التعذيب الجسدي أو المعنوي لانتزاع الاعتراف القسري لكونه يتنافى مع (المادة 53) من الدستور»، صدرت على خلفية قلق دمشق من تزايد الدعاوى الموجهة ضدها دولياً، بتهم انتهاك حقوق الإنسان ومقتل المعتقلين تحت التعذيب، لا سيما وقد أثيرت مؤخراً قضية الطبيب الأميركي من أصل سوري، مجد كم ألماز، الذي اختفى في سوريا عام 2017، وأعلن الأسبوع الماضي عن وفاته تحت التعذيب في السجون السورية، ومطالبات عائلته بمحاسبة المسؤولين عن مقتله.
وقد ترافقت إثارة هذه القضية مع إصدار محكمة في باريس يوم الجمعة الماضي، حكماً غيابياً بالسجن المؤبد بارتكاب جرائم حرب، على 3 من أبرز الشخصيات الأمنية السورية، هم؛ علي مملوك مستشار الرئيس السوري لشؤون الأمن الوطني، وجميل حسن المدير الأسبق لإدارة المخابرات الجوية السورية، وعبد السلام محمود. وركزت المحاكمة الفرنسية على دورهم في «اعتقال وتعذيب وقتل المواطن الفرنسي من أصول سورية مازن الدباغ وابنه باتريك عام 2013 في دمشق». في قضية عُدّت الأولى من نوعها في أوروبا.
في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، عدّ رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، أن التعميم الأخير، قرار شكلي كما في التعاميم السابقة التي صدرت عن مجلس الوزراء، مثل تعميم رقم 1 - 3039 المرتبط بمتطلبات الموافقة الأمنية، والذي حدد مدة لا تزيد على 48 ساعة للبت فيها، وإعلان سبب القرار في حالة الرفض وإفساح مجال للمدنيين للمراجعة. كذلك التعاميم المتعددة المرتبط بإذاعة البحث بناء على الاسم الثلاثي والرقم الوطني والبيانات التفصيلية الأخرى، وجميعها لم تلتزم بها الأجهزة الأمنية.
عبد الغني، نوه بأن «التعاميم تصدر عن وزارة الداخلية بينما عمليات الاعتقال التعسفية في الأصل تقوم بها الأجهزة الأمنية، وليس لوزارة الداخلية أي سلطة عليها، بما فيها الأمن السياسي الذي يتبع لها شكلياً». وعبر عن قناعته بأن التعميم الحالي مرتبط أكثر بقوائم المطلوبين في جرائم المخدرات، التي بدأت تتحول لظاهرة ابتزاز واستدراج المدنيين عشوائياً، بناء على تقارير كيدية، لافتاً إلى تقرير سابق للشبكة السورية حول مرسوم العفو الأخير «أوضحنا فيه اكتظاظ السجون المركزية بمحتجزين بتهم المخدرات، وكذلك شبكات الاتجار بالبشر (المهربين) التي يرتبط معظمها بالفرقة الرابعة وتعمل بصلاحيات تمنحها لها الأجهزة الأمنية».
ولفت الحقوقي السوري إلى تقرير للشبكة، مطلع الشهر الحالي «سجلنا فيه وفاة المحامي ثامر الطلاع في فرع الأمن الجنائي بمدينة الحسكة بسبب التعذيب. ولم نلحظ أي تغيير في سلوك الأجهزة الشرطية أو الأمنية في التعامل مع المعتقلين والمحتجزين».
في نهاية مداخلته، لفت عبد الغني إلى أن وزير الداخلية محمد الرحمون، يعد من الشخصيات الأمنية البارزة في التخطيط وإدارة الملف الأمني الداخلي في سوريا، وقد أدرج على لائحة عقوبات وزارة الخزانة الأميركية مطلع عام 2017، كما أضيف إلى قوائم العقوبات الصادرة عن المملكة المتحدة عام 2019، بسبب ارتباطه المباشر ببرنامج الأسلحة الكيماوية السورية، لكونه جزءاً من سلسلة إصدار الأوامر المتعلقة بالهجوم بالأسلحة الكيماوية على عدة مناطق في محافظة ريف دمشق، وبشكل خاص مجزرة الغوطة عام 2013، التي قتل فيها 1127 شخصاً مسجلين بالأسماء والتفاصيل في قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان. كما وضِع اللواء محمد خالد الرحمون مطلع مارس (آذار) 2019 على قائمة العقوبات الأوروبية، في قائمة ضمت سبعة وزراء في حكومة النظام السوري.