من الشعر الأرسطي إلى بؤس البنيوية!

شكري عياد
شكري عياد
TT

من الشعر الأرسطي إلى بؤس البنيوية!

شكري عياد
شكري عياد

في بداية شهر مارس (آذار) 1993، كنت أسكن في فندق جورج الخامس بباريس، عندما فوجئت بقدوم المتفلسف العربي الضخم عبد الرحمن بدوي - رغم تحذيري المسبق من عدم استجابته - مستجيباً لدعوة عاجلة بإجراء حوار تلفازي معه، حيث لم تجرِ معه مقابلة تلفازية من قبل ومن بعد... لوهلة تصورته مستشرقاً ألمانياً! لمَ لا؟ وهو المعجب بالفلسفة الألمانية، ويعدّ هيغل أستاذه الأول. وعن وجوديتها كانت أطروحته للدكتوراه بإشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق.

عبد الرحمان بدوي

بعد تطواف بين جامعات القاهرة وبيروت والكويت وبنغازي وطهران، قضى سنواته الأخيرة بباريس في غرفة صغيرة في فندق متواضع، ومنه كان يشق طريقه اليومي إلى المكتبة الوطنية، التي فتحت له خزائن مخطوطاتها دون سواه، فهو العاكف - خاصة - على إحياء التراث اليوناني حيث عمل على تحقيق ونشر مخطوطات أرسطو؛ العربية واليونانية، ومنها تحقيق كتاب «فن الشعر» لأرسطوطاليس مع الترجمة العربية القديمة وشروح الفارابي وابن سينا وابن رشد، سنة 1953.

بعد مقابلتي إياه بعامين، نقلت إلى د. شكري محمد عياد، في مقابلة تلفازية أخرى، ما قاله إنه كان أسبق منه في ترجمة الكتاب، وإن عياد قد أفاد منه دون ذكر لذلك.

فأجابني: «على ما أذكر، فإن كتاب عبد الرحمن بدوي قد صدر بعد أن انتهيت من رسالتي، حيث قدمتها لكلية الآداب للمناقشة في سبتمبر (أيلول) 1952، وكانت مناقشتها الفعلية في أكتوبر (تشرين الأول) 1953، 13 شهراً بين التاريخين، وخلال هذه المدة ظهر كتاب عبد الرحمن بدوي، الذي أحترمه جداً وأقدّره وأعدّه من أنشط الكتّاب، وقبل صدور كتابه قابلته عدة مرات، وكان يعرف أنني أبحث في كتاب الشعر، وكنت أعرف أنه يعدّ أيضاً كتاباً يجمع فيه هذه النصوص، ولا بأس أن أقول إنه أخفى عني معرفته بنصّ الفارابي، لأنني في كلامي عن الفارابي اعتمدت على نقولٍ عنه في كتبٍ متأخرة، إنما وجد هو له نصاً نشره أحد المستشرقين في تلخيص صغير لكتاب «الشعر».

وحين كررت على عياد: «لكن بدوي يقول إنك قد أخذت منه!»، أوضح: «الكتابان موجودان... لا أنا ولا هو بدأنا بنشر ترجمة (متى بن يونس)، لأن هذه الترجمة نشرها المستشرق البريطاني مارجليوث في القرن التاسع عشر، ونشرها بعد ذلك في الثلاثينات مستشرق ألماني اسمه ياروسلاف تكاتش، وكلانا كان يعرف هذين العملين، وأنا أشرت إليهما محللاً عمل مارجليوث وتكاتش في مقدمة رسالتي، ولا أظن أن عبد الرحمن بدوي قد صنع هذا، كما أنه كتب مقدمة عن قيمة كتاب الشعر الأرسطي، ونشر ترجمته الحديثة، وكتب تعليقات عليها، وهذا ليس من الصعب الحصول عليها من كتب النقد الأدبي القديم، وألحق بها النصوص العربية لـ(متى بن يونس)، ثم تلخيص الفارابي، ثم تلخيص ابن سينا، ثم تلخيص ابن رشد، أما أنا فقد وضعت ترجمة (متى بن يونس) بالتوازي مع ترجمة عربية حديثة حتى يظهر الفرق بين الاثنين، لكن إضافتي الحقيقية كانت دراسة تاريخ الكتاب في الثقافة العربية، بينما درس هو تاريخه في الثقافة الأوروبية في مقدمة الكتاب، ثم أورد النصوص العربية كما هي». وأضاف: «ذكرني هذا الأمر، عندما انتهيت من الدراسة، وعُرِفت في البيئة الجامعية، سمع عنها طه حسين، وطلب أن أذهب إليه، فذهبت إليه ومعي نسخة، فسألني هذا السؤال الصريح: هل عملك أفضل أم عمل عبد الرحمن بدوي؟ فسكتُّ قليلاً ثم استنجدت بكل شجاعتي، ثم قلت له: عملي أفضل، ثم عددت له الأسباب لقولي ذلك، وهذا ليس لأنني أفضل من عبد الرحمن بدوي، بل إنني أعتقد أنه أعلم وأفضل وأذكي مني، إنما أنا أشدّ إخلاصاً وتفانياً للعمل الذي أريد أن أقوم به».

طه حسين

تأثر العياد بأمين الخولي

انضم شكري عياد إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة فؤاد (جامعة القاهرة) مفتوناً بسحر شخصية طه حسين، الذي أحدث دوياً هائلاً بين أروقتها إثر صدور كتابه «في الشعر الجاهلي» 1926 غير أن عياد تأثر بمن درّسه على مقاعد الدراسة الجامعية؛ الشيخ أمين الخولي في البلاغة والتفسير، فمشرفاً على رسالة تلميذه للماجستير في البلاغة العربية «يوم الدين والحساب» سنة 1948، ثم إشرافه على أطروحته للدكتوراه، تاركاً أثره على تلميذه النجيب، بمحاضرته في الجمعية الملكية الجغرافية سنة 1931 عن «البلاغة العربية وأثر الفلسفة فيها»، بالتزامن مع محاضرة طه حسين عن «البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر»، التي ألقاها في نفس العام في مؤتمر المستشرقين بلندن، وقد ذهب إلى أن الأثر الأرسطي يكاد يكون باهتاً أو معدوماً، حاصراً ذلك في تأثر قدامة بن جعفر في كتابه الثابت «نقد الشعر» وكتابه المشكوك فيه «نقد النثر» وتبين مؤخراً أنه لابن وهب... باعتبار ما قام به السريان العرب المسيحيون من ترجمة كتب أرسطو، خاصة كتابيه «فن الشعر» و«فن الخطابة»، بوصفهما كتابين في المنطق، حيث عكف السريان على نقلها لاستخدامها في مجادلاتهم الدينية، خاصة بعد مجيء الإسلام وانتشاره بين مسيحيّي الشرق.

من هنا، قام تراجمتهم، وفي طليعتهم متى بن يونس، بترجمة كتاب «فن الشعر» لأرسطوطاليس، الذي شكك ابن سعيد السيرافي في مناظرتهما أمام الخليفة المقتدر، بأنه لا يحسن الترجمة من اليونانية، رغم وجود روايات عن ترنم متى بأشعار هوميروس بأصلها اليوناني. وربما بسبب تسلل المنطق الأرسطي إلى بغداد العباسية في ذروة انفتاحها الفكري، وجدنا أبا نصر الفارابي يهتم بالفكر اليوناني ويؤلف عن «فلسفة أرسطوطاليس» و«الجمع بين الحكيمين» أي أفلاطون وأرسطو، وهما كتابان عُني بهما أستاذ كرسي الدراسات العربية بجامعة هارفارد العراقي د. محسن مهدي، الذي ألّف كتاباً عنه: «الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية»... وقد شهد ابن صاعد الأندلسي في كتابه «طبقات الأمم» للفارابي بالبراعة في صناعة الفلسفة، والتحقق بفنون الحكمة والاطلاع على أسرار العلوم، ليتقدم أبرع فلاسفة العرب (الكندي وابن سينا وابن رشد) في الاشتغال بكتاب «فن الشعر» وكتاب «الخطابة»، إذ استقاهما في بغداد من أستاذه المباشر متى بن يونس، ورغم ضياع نص ترجمة الفارابي المعنونة بـ«رسالة في قوانين صناعة الشعر» فإنه ترك أثره - ربما قبل ضياعه - على شرح ابن سينا في كتابه «البرهان من كتاب الشفاء»، الموسوم بوضوح نص أرسطو أكثر من التراجمة الأخيرِين، خمن ذلك بنقله المباشر عن الفارابي دون ذكر اسمه!

مترجمو العصر العباسي والباعث الديني

كان باعث المتكلمين العرب في العصر العباسي المتأثرين بفكر أرسطو، خاصة في كتابه «فن الخطابة»، باعثاً دينياً - كما هو الشأن مع السريان - لكن من جهة الإعجاز القرآني، بعدما ثار الجدل حوله مع نشأة الفكر المعتزلي، وهو ما جعل د. أمين الخولي في محاضرته المومأ إليها سنة 1931 يذهب إلى أن الإعجاز القرآني أثّر تأثيراً كبيراً في التأليف البلاغي لدى الرماني والخطابي، ليتجلى ذلك في مداولات المعتزلة حول مسألة الحسن والقبح العقليين، وقد أصبحت المقدمة المنطقية مدخلاً أساساً للبحث في علوم البلاغة للاستدلال على الإعجاز القرآني، وأصبحت الفلسفة لذلك متصلة بالبلاغة العربية.

فهل لذلك - يا ترى - يكمن توجه شكري عياد للاهتمام بكتاب «أرسطوطاليس في الشعر - نقل أبي بشر متى بن يونس القنائي من السرياني إلى العربي - حققه مع ترجمة حديثة ودراسة لتأثيره في البلاغة العربية»، الصادر سنة 1967، وقد أشاع أستاذاه طه حسين وأمين الخولي - كما بيّنا - أن البيان العربي منذ نشأته كان خاضعاً للتأثير الأرسطي، وأن الفلسفة اليونانية أثّرت في نشأة البلاغة العربية، حتى أصبحت مجرد أصداء لما أخذوه من كتابي أرسطو «فن الشعر» و«فن الخطابة»، في حين أن البيان العربي وقضاياه البلاغية قد تشكّلا قبل أن يعرف العرب كتابي أرسطو، إلا أن عياد لا ينفي قط تأثر البلاغيين العرب بالمنطق الأرسطي، كما وضح لدى عبد القاهر الجرجاني بنظرية النظم ووحدة الكلام في كتابيه «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة»، وحازم القرطاجني في كتابه «منهاج البلغاء» بوصف البلاغة علماً كلياً لعلوم الإنسان واللسان، والسكاكي في كتابه «مفتاح العلوم» الذي امتاز بتبويب البلاغة... لخّصه القزويني بعده في القرن الثامن الهجري في كتابه «الإيضاح في علوم البلاغة» الذي قرأناه على أستاذنا د. عياد في كلية الآداب جامعة الملك سعود، وقد تألقت تعريفات القزويني بالدقة المنطقية.

محاولة إنشاء علم جديد في الثقافة العربية

وقتذاك في منتصف السبعينات الميلادية، لاحظ عياد الفوضى البلاغية التي شاعت بين شباب الأدب والشعر، محاولين تحطيم كل بلاغة مأثورة بحثاً عن بلاغة جديدة، لذلك أقنع قسم اللغة العربية بتدريس مادة علم الأسلوب، محاولاً إنشاء علم جديد في الثقافة العربية، مستمداً من تراثها اللغوي والأدبي، على ضوء الدراسات اللغوية والنقدية في أوروبا وأميركا... ومؤلفاً في ذلك كتاباً رائداً، حين كان يرأس كرسي الأدب والبلاغة بجامعة الملك سعود لسنوات طوال.

غير أنه وجد نفسه محاصراً بالبنيوية في تحليل النصوص تحليلاً غامضاً مجرداً، لتعمل التفكيكية من بعدها على تحطيم كل الحدود التي تجعل للنص وجوداً متميزاً، مرجئة فهمه! وهو ما كشف عنه ليونارد جاكسون في كتابه «بؤس البنيوية» أن ما بدأته البنيوية بوصفها استراتيجية بحث عقلاني في أواخر العشرينات، انطوى على عيب أساسي، نشأ عما دعاه بـ«البؤس المنطقي» في نموذج اللغة الأساسي، وهو قصور في تفسير وقائع اللغة ذاتها، فما بالك بوقائع الأدب والمجتمع.

هكذا يتساءل جاكسون بوصف التأويل الأدبي والنقد التقويمي ممارستين اجتماعيتين، ويواصل: «إذا ما عرّفنا النقد بأنه تأويل عام ومترابط للأعمال الفنية المعقدة على نحو يجد قبولاً لدى كل من الفنان والجمهور، فإن من الطبيعي أن نتنبأ بأننا لن نعرف لوقت قادم أي نظريات مرضية تتناول هذا النشاط»، مؤكداً أن معظم الخطابات حول الأدب ليست نظرية أدبية أو بحثاً أدبياً، وإنما هو ضرب من التأويل والتقييم.

الموقف من البنيوية

هذا هو ما أصبح شغل د. شكري عياد الشاغل، كما بيّن ذلك في بحثه المتضمن كتابه «اتجاهات البحث الأسلوبي» المترجمة أبحاثه، حينما وصف مناهج البحث النقدي الجديدة بأشبه بطلاسم كهنوتية، من المحرم فهم قارئ الأدب لها! داعياً ألا يخدعه «ناقد ناقص الخبرة متعالٍ متعالم في استخدامه الأجوف لمصطلحات غامضة يزدردها دون فهم وإدراك ووعي، ما يخيف القارئ ويرهبه، فيبتعد كلياً عن النقد متهماً نفسه بالجهل، مفتقداً الاتصال بالنص الأدبي موضوع النقد».

وفي العدد الثاني من مجلة «فصول» سنة 1981، وضّح موقفه النقدي المخدوم بترسانة هائلة من القراءات المتعمقة في الإجراءات النقدية الجديدة، هذه التي سوّق لها «وكلاء» عرب على غير هدى، خاصة في دول المغرب العربي، ما قضى على تاريخ الذوق في النقد العربي... موضحاً في مقاله البحثي المعنون «موقف من البنيوية» أن البنيوية حاولت أن تقنن الأدب كنظام عقلي مجرد، ولكنها اصطدمت بالأدب كإنتاج يعبر عن حالة نفسية لإنسان العصر، وبينما نرى انتصارات الكمبيوتر تتوالى في ميدان العلوم الطبيعية، ودور الإنسان ينكمش في تشكيل الحياة، نرى الأدب الحديث والبنيوية ممثلين لهذا الأدب الحديث ومدافعين عنه، يقدمان للإنسان صورة جديدة من حلم العالم الآخر، ويفشلان كل الفشل في الوصول إلى أي قانون عام.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»
TT

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته، وشجاعته، وطارت شهرته، حتى صارت تفاصيل حياته مجالا للبحث والاهتمام.

يعيدنا وزير خارجية ليبيا السابق، في روايته الجديدة «القائد العاشق المقاتل»، الصادرة عن «دار الرواد للنشر والتوزيع» إلى فترة تاريخية، كان لا يزال للفروسية فيها دور بارز في قيادة المعارك، وللشهامة قيمة أخلاقية. تحكي الرواية سيرة مقاتل ليست ككل السير، حيث تختلط السياسة بالحب، والتاريخ بالمزاج الشخصي، والحكمة بالجسارة، والقتال بعشق الشرق وشغف المعرفة.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي، فبفضل شخصيته المتوثبة والكاريزما التي تمتع بها، وحبه للثقافات، أصبح صديقاً للعرب، يلبس على شاكلتهم، يتكلم لغتهم، يستمتع بشعرهم، يأنس لمجالسهم. وحين أنهى مهمته العسكرية عاد إليهم دبلوماسياً نشطاً، وسائحاً هائماً.

«القائد الشيطان»

تقول الرواية: «عشق أميديو السلاح كما عشق المرأة»، وتلك عبارة مفتاح، إذ تنسج الرواية خيوطها، بهذا الجانب الرومانسي للقائد المقدام الذي تقترن بطولاته بغرام دائم، وعشق لا ينقطع. ويتنقل القارئ بين الأحداث السياسية وشراسة الأطماع الاستعمارية، وحكايات أميديو مع عشيقاته اللواتي شغلن الجزء الذي لم تملأه الحروب من يومياته.

«القائد الشيطان»، هذا هو لقبه، الذي استحقه عن جدارة. فبعد أن خاض أميديو الحرب الأهليّة الإسبانيّة إلى جانب قوات الملكيّين قادته ظروف الحرب إلى ليبيا. وأضافت لتكتيكاته الفريدة في مقارعة أعدائه، حيث واجه البريطانيين، وحارب المقاومة الليبية، عاش قصة حب حارقة مع ممرضته الليبية اليهودية التي أنسته كل ما عداها، تعرف إليها أثناء علاجه في مستشفى في طرابلس، من إصابة تعرض لها. نعيش مع العقيد أميديو لحظات تحرّقه وعشقه لريزا بـ«قوامها الممشوق ووجهها الأبيض الوضاء وعينيها الواسعتين وهي تقدم له حبات الدواء وتصير صباح الشفاء والسعادة». ثم بعد ذلك، نكابد معه فراق ريزا، واختفاءها تحت وطأة تهديد النازيين لها ولعائلتها ولملتها، ومنع العقيد من الزواج بها بسبب القوانين العنصرية التي فرقت بينهما.

الحبيبة ريزا

ريزا هي كما غيرها من اليهود الذين «اضطروا إلى الهرب خارج العاصمة الليبية، وتغيير أسمائهم، وأماكن إقامتهم». لكن مهمة الضابط المغامر الذي يمتطي صهوة جواده، ويتقدم الفرسان، ويهاجم كما لو أنه نسي الموت، لا تتوقف هنا، بل نراه ينتقل إلى إثيوبيا وإريتريا، حيث يطور هناك أساليبه القتالية، وتتجلى مشاعره العشقية، حين يعيش قصة حب جديدة مع خديجة الإثيوبية، التي «بثت فيه عشقاً لم يعرفه أبداً». ابنة شيخ القبيلة مختار، صاحبة الجمال الخمري التي تحفظ الشعر العربي، تتسلل إلى خيمته كل ليلة، تجالسه، تحادثه بهمس، عن الفروسية، وصفات الخيل، وشجاعة المحاربين. يصف الكاتب خديجة «الطويلة الرشيقة، بلباسها الملون، وعطرها الفواح» بأنها «استولت على كل شيء فيه». أما هي، فقد افتتنت بفارسها بجنون. معها «نسي حبيبته الطرابلسية ريزا، التي صارت إلى المجهول في ليبيا يخنق حبل الفاشية العنصري يهودها، أما حبيبته الإيطالية بياتريس جوندولفو، ومشروع زواجه القديم منها، فقد طوتها عيون خديجة وقوامها وصوتها وشَعرها وشِعرها، وعطرها».

خديجة تشد أزره

على هذا النحو الآسر، يجعلنا شلقم نعيش مناخات الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من اضطرابات، وتوترات وقلق، مع العقيد الذي يخوض غمار معاركه، مستعيناً على ذلك بنساء كنّ له الظهر والسند. غير أن خديجة هذه بقيت شيئاً آخر. و«لأول مرة يتمنى الفارس الصنديد، مدمن القتال، «أن تفارق الحرب عقول البشر إلى الأبد. وهو يطارح خديجة حديث الحب».

جاءته الأوامر من روما أن يستسلم، لكنه رفض، مع علمه أن الوضع قد أصبح ميئوساً منه. جهزت له خديجة فرساناً أشداء، وقالت له: «قاتل ولا تستسلم يا حبيبي، لقد خلقك الله لتكون الفارس الذي يفر من أمامه العتاة».

بين جبهات الحروب الشرسة، وجبهات الحب العاصفة، ينقلنا الكاتب، وهو يبدع في رسم علاقة أميديو مع عشيقاته، وتوصيف علاقته مع كل منهن، وكأن كل واحدة أنارت له جانباً مختلفاً من شخصيته، وأضافت لفضوله معارف جديدة، وفتحت أبواباً للضوء. فقد كان أميديو يتمتع بشخصية مغامرة وجذابة، مما جعله محبوباً بين النساء. يقول لخديجة وقد أنهكه القتال: «لم تعد لي القدرة على الاستمرار في محاربة البريطانيين. رجالي قتل بعضهم وجُرح معظمهم، لم يبق لي منهم سوى ثلاثين نفراً، أنت كل ما لدي من هذه الدنيا، ولكن الله غالب».

المرحلة اليمنية

ولما كانت العودة إلى إيطاليا شائكة بسبب تمرده على الأوامر، والوضع المتأزم هناك، يمم وجهه صوب اليمن، وقد صار اسمه أحمد عبد الله الرضائي. وصل إلى ميناء الحديدة، بعد مغامرات كادت تودي به وبرفيق الرحلة. طلب اللجوء السياسي، شك اليمنيون في أمره، وأخضعوه شهراً للسجن والاستجواب. محادثاته المتناسلة مع سجانيه وصلت إلى قصر إمام اليمن يحيى حميد الدين الذي طلب رؤيته. وكان صيته قد سبقه، ما سيجعل العلاقة الوطيدة سريعة مع الإمام وسيكلفه تدريب كتائب جيشه وشرطته.

المرحلة اليمنية من حياة أميديو، تفتح الباب أمام شلقم ليرسم لنا صورة بانورامية عن الحياة الاجتماعية، والأجواء السياسية في تلك المرحلة، في هذه المنطقة العربية. «سيلف أميديو حول خاصرته قطعة من القماش، ويضع الخنجر المقوس وسط حزامه. جلسة مع خلان سيتعرف عليهم، يخزنون القات معاً، ويسهرون الليالي في مطارحات شعرية إلى أن يدركهم الصباح، ويخرجون ليروا مباني المدينة الشاهقة المزخرفة بألوان، تضيف الانشراح إلى الأرواح». وفي اليمن أيضاً سيلتقي بياتريس.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي بل شخصية متوثبة وكاريزمية

صفحة حب جديدة

بياتريس الحبيبة الجديدة. هذه المرة هي مصرية، مسيحية وفارسة تعشق الخيول، تعزف على آلة البزق وتهرّب الأسلحة، حين يلزم الأمر. امرأة جذابة يلفها الغموض «عندها عصارة العصارة، ولها القدرة على قراءة ما سمعت، فهي مثقفة ودارسة متبحرة في عالم النفس، ولها القدرة على قراءة ما في فناجين الرؤوس».

لكن تلك الحياة الرغدة بعجائبيتها ومحنها، سرعان ما تنقلب في اليمن، وتطيح بالإمام، ويحلّ الجدري، وينفضّ الجمع، ولا يبقى لـ«القائد الشيطان» سوى الهرب.

بأسلوبه الرشيق والمشوق، يقصّ شلقم من خلال روايته، حكاية هذا القائد الإيطالي الذي تحول إلى أسطورة، وشبهه البعض بلورانس العرب، لتشابه بين سيرتيهما، مستفيداً من سيرته التي كتبها العقيد بنفسه، ومصادر أخرى، مضيفاً إليها حبكته ونكهته المستقاة من «ألف ليلة وليلة» التي يؤتى على ذكرها مرات عدة في النص. وقد عاش أميديو من العمر قرناً كاملاً وسنة، تمكن خلالها من الانتقال إلى حياة دبلوماسية، لا تقل أهمية عن حياته العسكرية. عين سفيراً لدى عدد من الدول العربية بينها الأردن الذي عشقته زوجته بياتريس التي ارتبط بها بعد تجواله ومغامراته العشقية. وعين الرجل سفيراً لدى المغرب، ويكتب له أن يشهد حادثة انقلاب الصخيرات الشهيرة، التي نقرأ تفاصيلها في الرواية كما عاشها أميديو، وكأننا في قلب الحدث.

التاريخ يعيد نفسه

مفاصل تاريخية كثيرة، عن فترة مفصلية من عمر العرب، والتدخلات الأجنبية على أرضهم، بحيث يبدو وجودهم السياسي هامشياً، في ما يطغى حضورهم الاجتماعي في الرواية، كل ذلك مشدود إلى أوتار عواطف جياشة، ومشاعر فياضة، تلهم القائد المقدام.

وفي الجزء الأخير من الكتاب، يتاح لنا أن نعيش مع أميديو، وقد استقر به الحال أخيراً متقاعداً يستعيد ذكرياته ويتأمل مشواره بهدوء ودعة. وتشاء الظروف أن يلتقي بالضباط والقادة الذين كان يقاتل في مواجهتهم، حيث يتحول أعداء الأمس وقد انتهت الحرب، إلى أصدقاء اليوم، يتبادلون الذكريات والاعترافات، وكأنما كل ذاك الدم الذي سال، كان عبثاً، أو كأنهم كانوا جزءاً من آلة تغيرت أدوارهم ورؤاهم، بمجرد تفكيكها.

الرواية تعيدني ثمانين سنة إلى الوراء، ولعالم غير الذي نعيشه اليوم، لكن بقليل من التدقيق، تشعر أن النزاعات في أعماقها لا تزال هي نفسها، والمآلات تبدو متشابهة وتستحق المقارنة والعبرة والتأمل.