فرويد.. فاتح قارة اللاوعي

4 صفعات تلقتها البشرية هزّت أركانها وغيرت مفاهيمها

فرويد.. فاتح قارة اللاوعي
TT

فرويد.. فاتح قارة اللاوعي

فرويد.. فاتح قارة اللاوعي

يعد فرويد (1856 / 1939) أحد الأربعة الذين صفعوا البشرية وهزوا أركان فكرها، خلال القرون الأربعة السابقة.
الصفعة الأولى جاءت من نيكولاس كوبيرنيكوس (1473 / 1543) الذي قلب الفلك القديم رأسا على عقب، وجعل الأرض تغادر مركزها وتدور متخذة لها مكانا في السماء، واهبة إياه للشمس التي أصبحت ثابتة، والتي كانت من قبل تظهر للعيان متحركة شروقا وغروبا. وهو ما خلق للبشرية رجات متعددة الجوانب، أهمها أن الإنسان فقد مركزه في الكون.، كما جعلته يعيش أزمة إدراك حسي رهيب، أدت إلى موجة شك عارمة في الأدوات المعرفية للإنسان، إذ إن ما نراه لم يعد هو الحقيقة.
أما الصفعة الثانية فكانت من إسحاق نيوتن (1642 / 1727)، الذي دمج الأرض بالسماء في قوانين واحدة، فأصبح ما ينطبق على سقوط التفاحة ينطبق على دوران القمر. فالتفاحة يمكنها أن تدور إذا تحققت الشروط المناسبة، وهي المسافة والكتلة، وهذا ما يحدث للقمر الاصطناعي مثلا وهو يدور حول الأرض. وبالمثل نتحدث عن القمر، إذ يمكنه أن يسقط لو توفرت الشروط.، فالسقوط دوران والدوران سقوط. وبهذا المنجز العظيم يكون نيوتن قد ضرب فكرة الكمال العلوي في مقابل الانحطاط السفلي، التي كان يؤمن بها القدماء، فالعالم بنية واحدة لا انشطار فيها.
وأما الصفعة الثالثة فكانت من طرف تشارلز داروين (1809 / 1882)، الذي سعى إلى تذكير الإنسان بجذوره الحيوانية، وهو ما يضرب كبرياء الإنسان في الصميم.
وأما الصفعة الرابعة، وهي التي تهمنا هنا، فكانت من نصيب سيغموند فرويد، المحلل النفسي ذائع الصيت، وذلك باكتشافه قارة جديدة في النفس البشرية هي اللاشعور، ستجعل الإنسان كائنا غريزيا قبل أن يكون كائنا عاقلا، كائنا مفعولا به وليس فاعلا. فما المقصود باللاشعور؟

فكرة اللاوعي والنظرة الجديدة للإنسان
في تسعينات القرن التاسع عشر، قال فرويد في إحدى رسائله: «أنا لست عالما ولا بحاثا، وإنما أنا فاتح». أجل، لقد فتح فرويد منطقة اللاوعي، وقلب بذلك فكرتنا عن الإنسان رأسا على عقب، فلم يعد الإنسان ذلك الكائن الذي لديه وعي صاف وإليه يعود كل سلوكنا. فهذا الأمر أصبح مع فرويد وهمًا، فالوعي ما هو إلا القشرة الخارجية لحياة عقلية لا واعية قوية. وبتشبيه أكثر دقة نقول، إن الوعي هو مثل رأس الجبل الجليدي الذي يظهر فوق سطح البحر، بينما تظل كتل كبيرة من الجليد غير مرئية تحت الماء، هي اللاوعي. والكتل غير المرئية هي التي تحدد مركز جاذبية الجبل الجليدي، وحركته، ومجراه. لذا فجوهر شخصيتنا هو اللاوعي. فكيف يمكن تعريف هذا اللاشعور؟
يمكن القول إن اللاشعور هو خزان أو مقبرة ندفن فيها كل الرغبات المقموعة والذكريات المؤلمة التي يصعب استحضارها إلا عن طريق التحليل النفسي. فكثير من الأحداث التي وقعت للإنسان في الطفولة المبكرة لا يتذكرها، فمن المؤكد أن يكون المرء قد سقط مرات كثيرة، وجرى تعنيفه، ورأى مشاهد مرعبة، ووضع في مواقف محرجة، لكنها نسيت كلها، فأين هي فعلا؟ هل يمكن القول إنها قد مسحت ولم يعد لها أثر؟ الجواب عند فرويد طبعا بالنفي. إنها قد سجلت في ذاكرة مختلفة عن الذاكرة الواعية. إنها الذاكرة اللاواعية. إذن نصل مع فرويد إلى أن للمرء ذاكرتين: ذاكرة واعية يمكن استرجاعها بيسر، إذ يكفي أن يعود المرء إلى أرشيفه ويجد ما يريد. وذاكرة أخرى لا واعية، أي منسية وغائرة في غياهب النفس، يصعب استحضارها. فإذا ما سألت شخصا يعاني من فوبيا (رهاب) الأماكن العالية عن السر وراء ذلك، فسيكون جوابه: لا أدري. بمعنى أن الحدث المسبب لهذا الرهاب غائر ومنسي، لكنه يفعل أفاعيله في الشخص وهو في غفلة عن ذلك.
وقصد توضيح عالم اللاوعي وأدغاله، سنحكي قصة ذلك الطبيب العسكري الذي يعاني من فوبيا الأماكن المغلقة. كان الرجل يشعر بفزع شديد عندما يركب القطار، خصوصا إذا مر من نفق أو توقف في داخله. أما إذا كان مدعوا إلى حفل أو اجتماع فقد كان يحرص كل الحرص على البقاء قرب الباب، استعدادا للمغادرة في أي لحظة، ناهيك بأنه كان مهتما بقراءة قصص المحبوسين وقصص الذين يدفنون أحياء. وذات يوم، سينادى على الطبيب للالتحاق بساحة المعركة، قصد تقديم العلاجات الأساسية لجرحى الحرب. وبمجرد وصوله وجد الجنود مكدسين في الخندق، فبدأت مخاوفه، ومما عقد الأمر أكثر أنه أعطي فأسا لكي ينقذ نفسه في حال ردم عليه الخندق. فازداد قلقه، ولم يعد يحتمل الوضع، إلى درجة أنه سقط بشلل هيستيري هربا من المسؤولية. وجرى نقله إلى المستشفى، فاكتشف أن شلله ليس عضويا، بل نفسي. وخضع لعلاج عند محلل نفسي ولمدة طويلة. وتمكن الطبيب من جعله يتذكر مجموعة من الأحداث المنسية، انطلاقا من التداعي الحر، وتفكيك بعض الأحلام التي كان يقصها أثناء العلاج. وفي النهاية، وبعد طول عناء من الطبيب والمريض نفسه، جرى التوصل إلى الحدث الأساسي الذي هو الأصل في مخاوفه، والذي نذكره كالآتي: كان في بلد المريض متجر لشيخ عجوز يشتري فيه صاحبه الأغراض القديمة والمستعملة. وكان الأطفال، بمن فيهم صاحب الحالة، يأخذون إليه كل شيء قديم حصلوا عليه مقابل دراهم معدودة تمكنهم من شراء الحلوى. يقول المريض بعد تذكر شاق إنه حين كان في الرابعة من عمره ذهب إلى المتجر لبيع بعض الأغراض، وعندما همّ بالعودة وجد باب الممر المؤدي إلى البيت مغلقا. التفت إلى الجهة الأخرى فرأى كلبا ينبح. ويؤكد صاحب الحالة أنه نسي هذا الحدث تماما. ومع استمرار العلاج، حلم بأنه حصل على منحة للدراسة في اسكوتلندا. وعندما استيقظ تذكر اسما اسكوتلنديا هو اسم صاحب المتجر. وبهذا يكون المريض قد استعاد الحدث المؤلم بجميع تفاصيله، وتمكن من الشفاء من فوبيا الأماكن المغلقة. ومن ثم فالعلاج في التحليل النفسي ما هو إلا استخراج للحدث المؤلم من مستوى اللاشعور إلى مستوى الشعور.
ويسمي فرويد عملية قذف المقموعات في اللاشعور بالكبت الذي هو بمثابة الجدار الفاصل بين عالم الوعي وعالم اللاوعي، الذي يشتغل كآلية وقائية تحمي الإنسان من الألم. لكن المكبوتات بحسب فرويد تحاول الخروج نحو الوعي، وأحيانا بشكل جارف قد يؤدي إلى انفجار جدار الكبت. ولكي لا يحدث هذا الأمر الخطير، يقوم الكبت بمحاولة تنفيس للمكبوت، وكأنه ينشئ فجوات في جداره، تسمح بتدفق المكبوت بالتسلل إلى الوعي لكن بطريقة منضغطة، أي مشوهة. بعبارة أخرى نقول إن عودة المكبوت تكون بطرق ملتوية وبشكل مقنع، وكأنها تلبس زيا تنكريا، وتكون بمثابة طرق للتفريغ. هذه الطرق كثيرة، وقد توقف عندها فرويد، وهي كالآتي:
الحلم: لقد جعل فرويد الحلم طريقا ملكيا للتحليل النفسي. إنه الأرض الصلبة لإثبات اللاوعي، وهو سبيل من سبل العلاج أيضا. فالحلم شيء له معنى وإن بدا غامضا وملغزا. إنه تعبير عن رغبات اللاوعي التي تظهر في وعينا بشكل مشوه ومحرف. فإذا كان الأطفال يحلمون برغباتهم وملذاتهم التي حصلت في يومهم الماضي ولم تتحقق، فإن أحلام الراشد تحتوي على بقايا يوم الحلم، لكن ليس بوضوح كما لدى الأطفال. فهي تكون مشفرة ورمزية صعبة الفهم. ولمزيد من التوضيح، نضرب مثالا بالمراهق الذي يعنفه والده إلى درجة إهدار الكرامة. فالتعنيف يولد كرها، لكن الأمر في هذه الحالة يتمثل في الوالد الذي يجب أن نكنّ له الحب كمطلب اجتماعي. وحسب فرويد، فإن هذا الشاب سيظهر الحب ظاهريا، وسيخفي الكره في اللاشعور. وقد يحلم بأن ملكا قد مات، أو أنه يصارع أسدا، وهذه كلها رموز للسلطة. أو قد يكون الحلم أكثر صراحة، بحيث سيرى أنه يحمل والده إلى القبر، كل ذلك يعني أن الأحلام هي تنفيس للرغبات وبطرق ملتوية.
الحلم ما هو إلا طريقة من طرق أخرى للتفريغ. فهناك مثلا أحلام اليقظة. كأن يحلم طفل يعيش الحرمان أن الصنبور سيفتح فتخرج منه الشوكولاته والحلوى. أو يتيه الشاب في استيهامات ورغبات خيالية، ويرى نفسه راكبا دراجة نارية فاخرة، ويحمل معه فتاة جميلة بشعر يتطاير من شدة السرعة. إن كل هذا يحقق الرغبة غير المتحققة في أرض الواقع. كما أن هناك أيضا طريق الإبدال في التفريغ، المتمثل في العنف والمخدرات والشغب. وهي طرق سلبية مدمرة، لأنها تضر الشخص ومن حوله. وعلى عكس الإبدال توجد طريقة الإعلاء. وهي نوع من السمو بالرغبة المقموعة في اتجاه إيجابي غير مضر، كالصلاة، والرياضة، والفن، والموسيقى، والرقص، والدراسة، والرسم، والتطوع للأعمال الخيرية وغير ذلك. ناهيك بأن المرء قد يفرغ مكبوتاته عن طريق الكتابة على الجدران، وزلات اللسان، وزلات القلم. فهب أن لدينا رجلا جالسا في بيته يتفرج على التلفاز، بينما تقوم زوجته بأعمال البيت على إيقاع موسيقى عالية. همّ الرجل بإشعال سيجارة، لكنه سمع طرقا على الباب في اللحظة نفسها، فقام ليجد أن الطارق هو والده. أخفى السيجارة سريعا احتراما لوالده. وبينما هو يرحب به قال لزوجته: «أغلقي السيجارة»، عوضا عن «أغلقي المذياع أو المسجل». فهذه زلّة لسان، لأن الرغبة في التدخين قد قمعت، فوجدت لنفسها سبيلا ملتويا للتفريغ.
إن أطروحة فرويد متعددة الجوانب وجهازها المفاهيمي متشابك، اقتصرت فيه على المفهوم الجوهري وهو اللاوعي. وإذا ما سلمنا باللاوعي عند فرويد، فسيكون للأمر انعكاسات فلسفية خطيرة تمس قضية الحرية الإنسانية. فالقول بخضوع المرء لمؤثرات لاشعورية تصنع له قراراته، يؤدي إلى ضرب المسؤولية الأخلاقية والقانونية والدينية، إذ كيف يمكن تصور شخص يتحمل تبعات فعل يكون محركه غير مدرك وغير واع؟



ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»
TT

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

بعد تطواف روائي بين تونس في «باب الليل»، وسوريا في «حذاء فلليني»، يعود الروائي المصري وحيد الطويلة في روايته الأحدث: «سنوات النمش»، إلى عالمه الأثير في القرية المصرية، تلك التي عايَن بعض جوانبها في روايات سابقة، مثل «أحمر خفيف» و«الحب بمن حضر»، وفي كل مرة يقدم هذه القرية من منظور مغاير، مكتشفاً جانباً جديداً من قوانينها وجمالياتها، وقواعدها الصارمة ظاهرياً. هذه القواعد والتقاليد نفسها التي لا يتوقف أهل القرية عن انتهاكها سراً، في تواطؤ ضمني مفضوح يعرفه الجميع، لكنهم لا يجرؤون على الإفصاح عنه وإعلانه.

«سنوات النمش» (الصادرة عن «دار المحرر») يشير عنوانها إلى البقع التي تعكِّر البياض، أو اللون الأصلي، فكأن الراوي يرصد السنوات التي كانت مليئة بالبقع في حياته وحياة قريته وناسها، وتدور أحداثها في إحدى قرى الدلتا، شمال القاهرة، عبر راوٍ طفل يسرد الأحداث كلها بعينيه ورؤيته؛ فهو راوٍ مراقِب ومشارِك ومتورِّط؛ إما في الأحداث بشكل مباشر، أو بتعاطفه مع حدث هنا أو هناك، حتى ما وقع قبل ولادته، ويظل يكبر مع الأحداث متابعاً هذه القرية البعيدة عن سيطرة الحكومات المتعاقبة واهتماماتها، أو كما يعتبرها أهلها «على شمال الدنيا»، وأنها ليست موجودة على الخريطة؛ فهي قرية غارقة في الجهل والمرض والخرافة.

زمنياً، يغطي فضاء الرواية المساحة منذ الأربعينات تقريباً، وحتى نهاية القرن العشرين، حين نرى الراوي الطفل وقد صار شيخاً كبيراً يزور المعالم الأثرية في الأقصر مع ابنتيه الشابتين، ويغني مع المغنين الشعبيين. وطوال هذه الفترة ترصد الرواية تحولات هذه القرية منذ العهد الملكي، حين كانت براري لا يسكنها سوى اللصوص وقُطّاع الطرق؛ إذ كانت اللصوصية المهنة الأشهر التي تتباهى بها عائلات القرية، مروراً بثورة يوليو (تموز) وزعامة جمال عبد الناصر، وصولاً لمرحلة الرئيس الأسبق أنور السادات، وانعكاس هذه التحولات السياسية الكبيرة على القرية وقاطنيها.

رواية الطفل للأحداث منحت السرد قدرة كبيرة على الفضح والتعرية، وكشف علاقات الحب الخفية، وما ينتج عنها أحياناً من صراعات، يكون الحب سببها الحقيقي المضمر، الذي يعلمه الجميع، لكن كل أطراف الصراع تدّعي أسباباً أخرى معلنة.

هذه القدرة الطفولية على الفضح منحت السرد قدراً كبيراً من السخرية والكوميديا، فالفضح بطبيعته له سمت كرنفالي ساخر وكوميدي، أقرب إلى المسخرة؛ فمن يبدو في الظاهر وقوراً نرى (بعين الطفل المندهش) باطنه المتهتِّك المحتجب عن الجميع.

قدرة الراوي الطفل على الفضح والتعرية، تطال حتى أخته، كاشفاً عن مدى عشقها للتحكُّم والتسلُّط؛ إذ يمنحها القدر فرصة لممارسة ميولها السلطوية الكامنة فيها، عبر زواجها من ضابط طيب يستجيب لكل طلباتها، فتجد الفرصة سانحة لتمارس أدواره الرسمية في غيابه، فتعطي هي الأوامر للعساكر، وتتواصل مع مديرية الأمن نيابة عنه، كاشفة عن جانبها المتسلِّط الكامن فيها، الذي ما يني يجد نافذة صغيرة لينشط، معلناً وجوده وتمدُّده، حتى إنها تنتظر عودة زوجها الخاضع لسطوتها حباً فيها، لتمارس عليه سطوتها، وتمسك بالميكروفون كأنها ديكتاتور يخطب في شعبه الخاضع، ويكون هو كل جمهورها ورعيتها.

ثمة جانب آخر، تفضحه الحكاية، أو الحكايات التي تترى في تتابع مدهش، وهو الجانب الذكوري المسيطر على هذا العالم القروي البسيط، ممثلاً في استئثار الرجل بالمواريث، ومنع الميراث عن المرأة، فضلاً عن رفض كثير من الرجال أن تتزوج شقيقاتهم، ويكون المعلن أن هذا الرفض بسبب عدم خروج الميراث لرجل غريب، لكن السبب المضمر هو رفض الرجل أن يطأ رجل غريب شقيقته. لكن رغم هذه الذكورية المهيمنة، ثمة تمثيلات على التمرُّد النسوي لكسر هذه القواعد الذكورية المتصلبة، مثل العمة فريال، العزباء التي تصدم الجميع، وتخترق الأعراف والمواضعات الاجتماعية، وتعلن رغبتها في الزواج ثانية، بعد طلاقها من زوجها اللص، ولا تكتفي بإعلان هذه الرغبة التي تنتهك السائد، بل تمعن في التحدي، ولا تكف عن البحث بنفسها عن عريس.

يعتمد الراوي على صيغة الحكي الشعبي الشفاهي؛ فتبدو الرواية كلها وكأنها سلسلة محكيات يرويها الطفل (بعدما كبر) فيستدعي حياته وعلاقاته وما رآه وسمعه في القرية وعنها وعن شخوصها طوال طفولتها، بطريقة أقرب إلى جلسات السمر واستدعاء الذكريات بشكل شفاهي، دون أن يحكمه رابط واضح، فالحكايات تتناسل، دون التزام بتتابع زمني دقيق؛ فقد تأتي حكاية حديثة عن الأب، ثم تتلوها حكاية عن الجد، ثم حكاية عن أحد أصدقاء الطفولة، وحكاية أخرى عن إحدى العمات، فحلقات الحكي تتداخل وتتابع بلا تخطيط مسبق، وتتمثل شفاهية الحكي في أن الراوي قد ينسى بعض الذكريات، وسرعان ما يتذكرها، مثلما يقول في أحد المواضع: «كنت وأبي على الطريق، لا أتذكر إلى أين... لا، لا، تذكرت الآن، كنا في نهاية فقرة من فقرات الشتاء المتقطعة، يغزونا المطر ثم يتوقف ليومين»... هذه الآلية في إعلان النسيان والاستدراك بالتذكر، آلية شفاهية بامتياز. فضلاً عن بدء التذكر بالأجواء والطقس والمطر، وكأن الراوي يعيد تذكر المشهد كاملاً بصرياً، وأنه يحدث الآن أمام عينيه؛ فالحكاية لا تكتمل إلا بتذكُّر تفاصيلها كاملة، بأجوائها، وبتعبيرات الوجوه أحياناً؛ فهو دائماً يرسم مشاهد بصرية مكتملة، ليضع المتلقي الضمني، في قلب الحدث والحكاية.

حكاية القرية، أو مجموع الحكايات الصغيرة التي تشكل عبر تضافرها حكايتها ككل (بما فيها من علاقات حب وصراعات عائلية، وثارات وفقر وحفاء، وطموحات وانكسارات للشخوص الأفراد من آحاد الناس) لا تنفصل عن حكايات أكبر، فحكايتها محض دائرة صغرى، تحتويها دوائر أكبر، منها حكاية الوطن وتحولاته السياسية، من ملكية، إلى نظام جمهوري وأحلام القومية العربية، وتعلّق الأب بزعامة عبد الناصر، ثم مرحلة الانفتاح، وهناك أيضاً دائرة الحروب، بدءاً من الاحتلال الإنجليزي وآثاره الممثلة في بعض الطرق والكباري التي شُيّدت في ظل حكم الاحتلال، ثم حرب فلسطين، ونكسة 67، وصولاً إلى حرب أكتوبر (تشرين الأول) 73؛ فهذه دائرة أخرى تلقي بظلال تحولاتها على دائرة حكاية القرية. ثمة دائرة عربية لا تنفصل عن الدوائر الأصغر، تتجلى أحيان عبر سفر أحد أقارب الطفل الراوي إلى الشام وإقامته في لبنان فترة طويلة، ثم فراره منها قبل الحرب الأهلية، وعودته إلى قريته/ وقوقعته؛ إذ تنكمش أحلام أبناء القرية، في استعارة لانكماش الأحلام العربية الكبرى تحت وطأة الحروب والنزاعات الطائفية والقومية، وعودة كل شخص للانزواء والتقوقع في قريته/ طائفته/ قوميته، حتى لو لم يكن متناغماً معها، بعد تبدُّد حلم اندماج الجميع في كلٍّ جامع.

ثمة ملمح آخر يتصل بكسر تخييلية الحكاية، وإيجاد صلة بها بالوقع المعيش؛ فالرواية رغم كونها بالأساس عملاً تخييلياً، فإنها المؤلف يتعمد (كعادته) خلق وشائج تربطها بالواقع السياسي والثقافي والفني، كما فعل في «جنازة جديدة لعماد حمدي» التي جعل اسم بطلها على اسم النجم السينمائي الشهير، أو «حذاء فلليني» التي تحيل للمخرج الإيطالي الشهير، فإنه (هنا) في «سنوات النمش» يجعل اسم أحد أبطال الرواية «القذافي»، وهو شخصية نرجسية بامتياز في روايته، ويعاني جنون عظمة واضحاً، ويجعل اسم شقيقه «العكش»، في إشارة للاسم الذي أطلقه المصريون على إعلامي شهير، إضافة إلى حيلة أخرى؛ فقد أراد والد الراوي إنشاء مدرسة في القرية، واشترطت عليه الدولة وجود 30 طالباً لإطلاقها، فلم يجد سوى 23 طفلاً، فاضطر لتزوير شهادة ميلاد لطفل متخيَّل باسم وهمي، فجعل اسم هذا الطفل غير الموجود «خيري شلبي». وبالطبع لا يخفى أن هذه ليست مصادفة، بل أقرب إلى تحية لاسم الروائي الكبير الراحل خيري شلبي، ابن قرية بالمحافظة نفسها، كما أن الإحالات لأسماء واقعية شهيرة توجِّه القارئ إلى أن العمل الروائي المتخيَّل غير منقطع الصلة بالعالم والواقع من حوله؛ فهو تمثيل لهما، وترتبط به بدرجة ما، رغم اعتماد المنطق السردي على الاسترسال الحكائي، الذي يفيد من تقنيات الحكي التراثية في «ألف ليلة وليلة»؛ حيث امتزاج الواقعي بالغرائبي، وتناسل الحكايات من بعضها، مشكلة في النهاية من هذه الطبقات الحكائية حكاية كبرى، أشبه بجدارية ضخمة، تؤرخ لقرية مصرية «على شمال السما» ظلّت عقودا رازحة تحت وطأة الفقر والجهل والمرض.