السياسة في العراق ليست فن الممكن. إنها أقرب ما تكون إلى المغامرة التي إما تطيح بصاحبها إلى الأبد طبقا للمثل العراقي الدارج «الطايح رايح».. أو ترفعه إلى مستوى أبعد مما يتخيل.
العراق الذي شهد على مدى أقل قليلا من قرن منذ نشوء الدولة الحديثة على يد الملك المؤسس فيصل الأول، عام 1921. شهد ثلاثة أنماط من العهود. العراق الملكي (1921 ـ 1958) ونجمه بلا منازع نوري السعيد، حتى أن الذاكرة الشعبية العراقية اختزلت ذلك العهد بكل ما فيه من تقلبات وزعامات بـ«عهد نوري السعيد». والعراق الجمهوري الأول (1958 ـ 2003) ونجمه بلا منازع صدام حسين بكل ما له وما عليه. والعهد الجمهوري الثاني (2003 ـ وحتى اليوم) ولا ملامح واضحة لنجم يتفوق على الآخرين أو يختزله رمزا أو مكانة أو إنجازا. لكن ثمة مفارقة لافتة في هذا العهد وهي أنه أنجب نوعين من الزعامات السياسية، النوع الأول هو من يمكن وصف أفراده بأنهم جاءوا على ظهور الدبابات الأميركية التي وإن أتقن البعض ركوبها عند أول دخولها العراق إلا أنه سرعان ما ترجل عنها مرغما لهذا السبب أو ذاك ويمكن أن يكون في مقدمة هؤلاء الدكتور أحمد الجلبي الذي إذا أردنا اختزال عهد المعارضة به فيمكن تسميته بأنه عهد الجلبي. بينما هناك من لم يكن له تاريخ معلن في الأقل في زمن المعارضة وإن كان قد جاء بالتزامن مع الدبابات الأميركية ويمكن أن يكون في مقدمة هؤلاء رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي. ومنهم من كان يهوى ركوب الخيول العربية الأصيلة مربيا وتاجرا وفارسا، على عهد النظام السابق حيث لم يقترب منه النظام ولم يقترب هو من النظام ما عدا ما صدر من قوانين تتعلق بالإقطاعيين وملاك الأراضي، ونقصد بذلك رئيس البرلمان الحالي أسامة النجيفي.
النجيفي الذي ينتمي إلى عائلة موصلية شهيرة لم يجد صعوبة في دخول المعترك السياسي العراقي بعد عام 2003. صحيح أن المصادفة أو العشائرية أو الطائفية قادت الكثيرين إلى دخول هذا المعترك بل إن إرثه العائلي ومواصفاته الشخصية جعلته بعد دورتين برلمانيتين وحقيبة وزارية (تسلم حقيبة الصناعة في الحكومة العراقية الانتقالية عام 2003) أحد أكثر الأرقام صعوبة في المشهد السياسي الراهن في العراق.
النجيفي أصبح رئيسا للبرلمان العراقي عام 2010 بعد أن حصد أعلى أصوات ناخبي محافظة نينوى والآن يبدو أحد أكثر المرشحين الأوفر حظا لمنصب رئيس الجمهورية في حال آل هذا المنصب ذو الرمزية العالية برغم قلة صلاحياته إلى العرب السنة.
يعد النجيفي واحدا من أبرز قيادات القائمة العراقية التي يتزعمها رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي والتي تضم بالإضافة إليه قياديين بارزين مثل الدكتور صالح المطلك زعيم جبهة الحوار الوطني وطارق الهاشمي الذي اتهم بعمليات إرهابية وحكم عليه بالإعدام غيابيا، وهو ما جعله الآن خارج ميدان التأثير في صناعة القرار في هذه القائمة التي وإن تشظت خلال انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة وتحولت إلى مجموعة من الكتل والكيانات إلا إنها لا تزال قائمة وإن كانت أقرب إلى الاتحاد الكونفدرالي حيث تتمتع الكتل والكيانات داخلها باستقلال تام تقريبا. النجيفي أسس كتلة «متحدون» التي حازت مراتب متقدمة إلى حد ما في الانتخابات المحلية الأخيرة حتى أن الكثيرين يعتبرونها الوريث الشرعي للعراقية خصوصا بعد تراجع كتلة الوفاق الوطني بزعامة علاوي والحوار الوطني بزعامة المطلك مع أن الأخير أقر بأن سبب خسارته لأصوات الناخبين في المناطق الغربية يعود إلى طبيعة مواقفه السياسية التي بدت في مراحل معينة أكثر انسجاما مع توجهات الحكومة.
ومع ذلك فإن مواقف النجيفي السياسية تثير الجدل، فقد تصالح مع المالكي لكنه ما زال ندا قويا له. وزار إيران وحضر جنازة والدة قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، الذي يعده مراقبون القائد الفعلي للعراق، ويعتبره تيارات القائمة العراقية رمزا للشر. والآن هو أقوى شخصية في القائمة بعد إقصاء طارق الهاشمي وهبوط أسهم المطلك والعيساوي وربما يكون رئيس الجمهورية المقبل.
* مواصفات زعيم
النجيفي يحمل إرثا عائليا يجمع بين السياسة والتجارة. جده محمد النجيفي النائب في البرلمان في العهد الملكي، وكان والده أيضا عضو برلمان في دورات متعاقبة. وبينما شكلت عائلة النجيفي قطيعة مع السياسة بعد العهد الملكي بانصراف أسامة وشقيقه أثيل (النجيفي) محافظ نينوى الحالي إلى العمل التجاري لا سيما تجارة الخيول العربية. فبعد التغيير عام 2003 دخل أسامة المعترك السياسي وكانت بداية صعود نجمه خصومته التقليدية مع الأكراد بشأن عروبة الموصل.
وبينما بدا النجيفي في المرحلة الأولى من عهده بالسياسة حين كان أحد قياديي القائمة العراقية منذ عهد جبهة التوافق، خصما عنيدا للأكراد حتى انتخابات عام 2010 والتي تبلورت بعدها مؤشرات كثيرة لتولي النجيفي منصب رئاسة البرلمان العراقي برغم معارضة التحالف الكردستاني في أول الأمر إلا أن وضوح النجيفي وصراحته لا تجعله خصما لا يؤتمن جانبه.. بل هو رجل سياسة يمكن التعامل معه برغم اختلاف القناعات.
يقول عنه الناطق الرسمي باسم كتلة «متحدون» ظافر العاني في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «أهم ما يميز أبو سيف (أسامة النجيفي) هو الصدق والمباشرة.. فهو واضح في كل شيء وصريح حتى في حال الخصومة، أو التحالف فإنه يعلن خصومته علنا ويعلن تحالفه على رؤوس الأشهاد»، مشيرا إلى أن «صفات مثل هذه أو قسما منها قد لا تكون منسجمة مع الوضع السياسي الراهن في العراق الذي يحتوي على الكثير من المؤامرات والصفقات فضلا عن أن المخفي فيه أكثر مما هو على الطاولة». لكن الأمر عند النجيفي يختلف حيث إنه «يعتبر أننا من دون المصداقية لا نساوي شيئا». وأضاف العاني أن «النجيفي يرى أن المخاتلة لا تنجح دائما وأنها يمكن في مراحل معينة تفقدك احترام الآخرين علما أن الصدق قد يجعله يخسر هنا وهناك لكنه ليس من أصحاب المواقف المتباينة». وبشأن طبيعة العمل داخل الكتلة التي يتزعمها النجيفي وهي «متحدون» يقول العاني «إننا في (متحدون) لدينا منهج في العمل لكننا مع ذلك لا ننكر أن أسامة يتخذ أحيانا قرارات ليس بالتشاور معنا كما أنه لا يقتنع بسهولة وقد تكون له وجهة نظر مختلفة مع وجهة نظرك وبخلاصة إنه رجل صعب المراس جاد وحازم وأمين لمبادئه جدا». وردا على سؤال بشأن مدى انعكاس أرستقراطية النجيفي التي تراه ينظر للآخرين أحيانا من برج عال مثلما يرى بعض السياسيين العراقيين فإن العاني يرى الأمر مختلفا حيث يقول: «إن أرستقراطية أسامة في السلوك لا في التعامل فهو لم يستوردها أو يدعيها بل هي خصلة متوارثة كونه سليل أسرة ثرية وبالتالي فإنه حذر جدا على صعيد التعامل في كل شيء لأنه حريص جدا على المحافظة على إرثه العائلي»، معتبرا أن «هناك سياسيين ليس لديهم ما يخسرونه وبالتالي يمكنهم أن يغامروا في كل شيء طالما سنحت لهم الفرصة بينما النجيفي يحسب حساب الماضي والمستقبل وليس الحاضر فقط».
ويرى العاني أن «النجيفي أعطى وجها مشرقا للعراق في العلاقات العربية والدولية حيث إن مواقفه الواضحة من الأزمة السورية منذ البداية لم تمنعه من الوقوف ضد مبدأ الضربة الأميركية على سوريا وتبنى المبادرة العراقية في زيارتيه إلى تركيا وإيران علما بأن عشيرته (بني خالد) تحمل قسمهم السوري الكثير من ممارسات النظام هناك».
* من المعاهدة إلى قاسم سليماني
في رحلته الأولى إلى الولايات المتحدة على أثر انتخابه رئيسا للبرلمان العراقي أواخر عام 2010 رفض بروتوكولا خضع له قبله الرئيس جلال طالباني ورئيس الوزراء نوري المالكي وهو وضع إكليل من الزهور على قبر الجندي الأميركي الذي بقي من وجهة نظر النجيفي محتلا لا محررا للعراق. لكنه عندما زار إيران مؤخرا لم يتردد في حضور مجلس عزاء والدة الجنرال قاسم سليماني أحد أكثر زعماء إيران عداء من قبل قادة القائمة العراقية والكثير من القادة السنة. محمد الخالدي مقرر البرلمان العراقي القيادي في كتلة متحدون التي يتزعمها النجيفي وقريبه يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «مواقف النجيفي حيال أي قضية من القضايا لا تخضع للمزاج بل هي مواقف ثابتة وهو ما ينعكس في مواقفه الدولية سواء في زيارته إلى أميركا أو إيران أو إلى أي بلد آخر لأنه يمثل العراق وأن أي حالة أو موقف يتعامل معه من هذه الزاوية». ويضيف الخالدي أن «النجيفي نجح منذ دخوله البرلمان في الدورة الأولى بعد أن حقق نتائج كبيرة في الموصل ومما يحسب له أنه كان أحد خمسة نواب من بين نواب البرلمان العراقي ممن رفضوا الاتفاقية مع الولايات المتحدة». وبشأن رؤيته للنجيفي كرئيس للبرلمان يقول الخالدي إنه «نجح في إدارة جلسات البرلمان فهو مواظب على العمل والدوام وجاد جدا وقادر على إدارة دفة الأمور في أحلك المواقف والظروف برغم كل الملابسات التي حصلت وتحصل داخل البرلمان لكنه قادر دائما على تحقيق إنجاز في أي عمل يوكل له حتى إنه برز كقائد عراقي وعالمي يحسب له حساب عند الدول والحكومات».
* عين على الرئاسة الأولى
لم يبق في طموح أسامة النجيفي ما لم يتحقق سوى منصب رئيس الجمهورية. ومع أن الرئاسة الأولى في العراق رمزية إلى حد كبير كون نظام الحكم في العراق برلمانيا وليس رئاسيا فإن هذا المنصب وطبقا لمبدأ المحاصصة أو التوافق الوطني لا يزال ويمكن أن يبقى لفترة قادمة موضع نزاع بين العرب (السنة) تحديدا والأكراد بعد أن بات أمر رئاسة الوزراء محسوما للشيعة (العرب). وحيث إن طارق الهاشمي الذي كان يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية وواحدا من أقوى المرشحين لمنصب الرئيس لولا اتهامه بالإرهاب فإنه لم يعد من بين القادة السنة الكبار الآن ممن تنطبق عليهم شروط الترشيح لهذا المنصب مستقبلا سوى أسامة النجيفي وصالح المطلك.
النائب عن ائتلاف دولة القانون علي الشلاه الذي يعد أحد أبرز خصوم النجيفي داخل البرلمان يقول عنه في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إن «لدى النجيفي طموح كبير جدا لكنه للأسف لا يستطيع أن يتبنى موقفا وسطا بل هو بنى شعبيته أول الأمر على عداء مع الأكراد ثم الآن ومن خلال الانتخابات الأخيرة فقد الكثير من شعبيته وهو ما جعله الآن يسعى لتغيير خطابه ليكون أكثر اعتدالا بسبب أن هناك مزايدين في الوسط السني»، مشيرا إلى أن «الحاجة تقوم على زعيم سني وسطي مقبول يمكن أن يتعامل مع سياسي شيعي ويمكن لهذه الثنائية أن تنجح بين المالكي والنجيفي في حال لا تحدث تقلبات في المواقف من قبله». الشلاه يعترف أن «من إيجابيات النجيفي أنه حاسم في مواقفه وحازم لكنه يحرج نفسه أحيانا فيضطر إلى رمي الكرة في ملعب الآخرين وبالتالي فإنه أمام مهمة صعبة في كيفية الحفاظ على نفس وزنه في الانتخابات القادمة وهو في نفس المشكلة التي يعانيها المطلك (صالح) أمام جمهوره». الشلاه يرى أن «أمرا واحدا بقي للنجيفي وهو أن يعمل على تشريع المزيد من القوانين خلال ما تبقى من الدورة البرلمانية الحالية حتى تحسب إنجازات له من الناحية المهنية».
من زاوية أخرى أكثر قربا يقول المستشار في البرلمان حسين فوزي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إن «النجيفي شخصية عفيفة ونزيه فالرجل شبع من طفولته وشبع قبله أهله وهو من الأدب والدماثة يحترم الضعيف أكثر من القوي». ويرى فوزي أن «النجيفي يمتلك من المواصفات ما يؤهله أن يكون رجل دولة بارزا ومشروع رئيس جمهورية حين يتحالف الشيعة والسنة لبناء الدولة الديمقراطية الاتحادية»، معتبرا أن «فرصة النجيفي في رئاسة الجمهورية ليس في الدورة المقبلة التي تبدو محسومة للأكراد ثانية إلا أن الدورة ما بعد القادمة سوف تكون مرحلة مختلفة». وينتهي فوزي إلى خلاصة أن «النجيفي يدير جلسات البرلمان بشكل ينسجم مع المعايير المهنية والديمقراطية لكنه ولكون لكل شخص نواقصه فإن تصريحاته أحيانا لا تنسجم مع طبيعة مهامه».