النجيفي.. فارس الخيول العربية الذي امتطى «جواد السياسة»

رئيس البرلمان العراقي.. الأوفر حظا لرئاسة الجمهورية في حال آل هذا المنصب إلى العرب السنة

النجيفي.. فارس الخيول العربية الذي امتطى «جواد السياسة»
TT

النجيفي.. فارس الخيول العربية الذي امتطى «جواد السياسة»

النجيفي.. فارس الخيول العربية الذي امتطى «جواد السياسة»

السياسة في العراق ليست فن الممكن. إنها أقرب ما تكون إلى المغامرة التي إما تطيح بصاحبها إلى الأبد طبقا للمثل العراقي الدارج «الطايح رايح».. أو ترفعه إلى مستوى أبعد مما يتخيل.
العراق الذي شهد على مدى أقل قليلا من قرن منذ نشوء الدولة الحديثة على يد الملك المؤسس فيصل الأول، عام 1921. شهد ثلاثة أنماط من العهود. العراق الملكي (1921 ـ 1958) ونجمه بلا منازع نوري السعيد، حتى أن الذاكرة الشعبية العراقية اختزلت ذلك العهد بكل ما فيه من تقلبات وزعامات بـ«عهد نوري السعيد». والعراق الجمهوري الأول (1958 ـ 2003) ونجمه بلا منازع صدام حسين بكل ما له وما عليه. والعهد الجمهوري الثاني (2003 ـ وحتى اليوم) ولا ملامح واضحة لنجم يتفوق على الآخرين أو يختزله رمزا أو مكانة أو إنجازا. لكن ثمة مفارقة لافتة في هذا العهد وهي أنه أنجب نوعين من الزعامات السياسية، النوع الأول هو من يمكن وصف أفراده بأنهم جاءوا على ظهور الدبابات الأميركية التي وإن أتقن البعض ركوبها عند أول دخولها العراق إلا أنه سرعان ما ترجل عنها مرغما لهذا السبب أو ذاك ويمكن أن يكون في مقدمة هؤلاء الدكتور أحمد الجلبي الذي إذا أردنا اختزال عهد المعارضة به فيمكن تسميته بأنه عهد الجلبي. بينما هناك من لم يكن له تاريخ معلن في الأقل في زمن المعارضة وإن كان قد جاء بالتزامن مع الدبابات الأميركية ويمكن أن يكون في مقدمة هؤلاء رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي. ومنهم من كان يهوى ركوب الخيول العربية الأصيلة مربيا وتاجرا وفارسا، على عهد النظام السابق حيث لم يقترب منه النظام ولم يقترب هو من النظام ما عدا ما صدر من قوانين تتعلق بالإقطاعيين وملاك الأراضي، ونقصد بذلك رئيس البرلمان الحالي أسامة النجيفي.
النجيفي الذي ينتمي إلى عائلة موصلية شهيرة لم يجد صعوبة في دخول المعترك السياسي العراقي بعد عام 2003. صحيح أن المصادفة أو العشائرية أو الطائفية قادت الكثيرين إلى دخول هذا المعترك بل إن إرثه العائلي ومواصفاته الشخصية جعلته بعد دورتين برلمانيتين وحقيبة وزارية (تسلم حقيبة الصناعة في الحكومة العراقية الانتقالية عام 2003) أحد أكثر الأرقام صعوبة في المشهد السياسي الراهن في العراق.
النجيفي أصبح رئيسا للبرلمان العراقي عام 2010 بعد أن حصد أعلى أصوات ناخبي محافظة نينوى والآن يبدو أحد أكثر المرشحين الأوفر حظا لمنصب رئيس الجمهورية في حال آل هذا المنصب ذو الرمزية العالية برغم قلة صلاحياته إلى العرب السنة.
يعد النجيفي واحدا من أبرز قيادات القائمة العراقية التي يتزعمها رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي والتي تضم بالإضافة إليه قياديين بارزين مثل الدكتور صالح المطلك زعيم جبهة الحوار الوطني وطارق الهاشمي الذي اتهم بعمليات إرهابية وحكم عليه بالإعدام غيابيا، وهو ما جعله الآن خارج ميدان التأثير في صناعة القرار في هذه القائمة التي وإن تشظت خلال انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة وتحولت إلى مجموعة من الكتل والكيانات إلا إنها لا تزال قائمة وإن كانت أقرب إلى الاتحاد الكونفدرالي حيث تتمتع الكتل والكيانات داخلها باستقلال تام تقريبا. النجيفي أسس كتلة «متحدون» التي حازت مراتب متقدمة إلى حد ما في الانتخابات المحلية الأخيرة حتى أن الكثيرين يعتبرونها الوريث الشرعي للعراقية خصوصا بعد تراجع كتلة الوفاق الوطني بزعامة علاوي والحوار الوطني بزعامة المطلك مع أن الأخير أقر بأن سبب خسارته لأصوات الناخبين في المناطق الغربية يعود إلى طبيعة مواقفه السياسية التي بدت في مراحل معينة أكثر انسجاما مع توجهات الحكومة.
ومع ذلك فإن مواقف النجيفي السياسية تثير الجدل، فقد تصالح مع المالكي لكنه ما زال ندا قويا له. وزار إيران وحضر جنازة والدة قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، الذي يعده مراقبون القائد الفعلي للعراق، ويعتبره تيارات القائمة العراقية رمزا للشر. والآن هو أقوى شخصية في القائمة بعد إقصاء طارق الهاشمي وهبوط أسهم المطلك والعيساوي وربما يكون رئيس الجمهورية المقبل.

* مواصفات زعيم

النجيفي يحمل إرثا عائليا يجمع بين السياسة والتجارة. جده محمد النجيفي النائب في البرلمان في العهد الملكي، وكان والده أيضا عضو برلمان في دورات متعاقبة. وبينما شكلت عائلة النجيفي قطيعة مع السياسة بعد العهد الملكي بانصراف أسامة وشقيقه أثيل (النجيفي) محافظ نينوى الحالي إلى العمل التجاري لا سيما تجارة الخيول العربية. فبعد التغيير عام 2003 دخل أسامة المعترك السياسي وكانت بداية صعود نجمه خصومته التقليدية مع الأكراد بشأن عروبة الموصل.
وبينما بدا النجيفي في المرحلة الأولى من عهده بالسياسة حين كان أحد قياديي القائمة العراقية منذ عهد جبهة التوافق، خصما عنيدا للأكراد حتى انتخابات عام 2010 والتي تبلورت بعدها مؤشرات كثيرة لتولي النجيفي منصب رئاسة البرلمان العراقي برغم معارضة التحالف الكردستاني في أول الأمر إلا أن وضوح النجيفي وصراحته لا تجعله خصما لا يؤتمن جانبه.. بل هو رجل سياسة يمكن التعامل معه برغم اختلاف القناعات.
يقول عنه الناطق الرسمي باسم كتلة «متحدون» ظافر العاني في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «أهم ما يميز أبو سيف (أسامة النجيفي) هو الصدق والمباشرة.. فهو واضح في كل شيء وصريح حتى في حال الخصومة، أو التحالف فإنه يعلن خصومته علنا ويعلن تحالفه على رؤوس الأشهاد»، مشيرا إلى أن «صفات مثل هذه أو قسما منها قد لا تكون منسجمة مع الوضع السياسي الراهن في العراق الذي يحتوي على الكثير من المؤامرات والصفقات فضلا عن أن المخفي فيه أكثر مما هو على الطاولة». لكن الأمر عند النجيفي يختلف حيث إنه «يعتبر أننا من دون المصداقية لا نساوي شيئا». وأضاف العاني أن «النجيفي يرى أن المخاتلة لا تنجح دائما وأنها يمكن في مراحل معينة تفقدك احترام الآخرين علما أن الصدق قد يجعله يخسر هنا وهناك لكنه ليس من أصحاب المواقف المتباينة». وبشأن طبيعة العمل داخل الكتلة التي يتزعمها النجيفي وهي «متحدون» يقول العاني «إننا في (متحدون) لدينا منهج في العمل لكننا مع ذلك لا ننكر أن أسامة يتخذ أحيانا قرارات ليس بالتشاور معنا كما أنه لا يقتنع بسهولة وقد تكون له وجهة نظر مختلفة مع وجهة نظرك وبخلاصة إنه رجل صعب المراس جاد وحازم وأمين لمبادئه جدا». وردا على سؤال بشأن مدى انعكاس أرستقراطية النجيفي التي تراه ينظر للآخرين أحيانا من برج عال مثلما يرى بعض السياسيين العراقيين فإن العاني يرى الأمر مختلفا حيث يقول: «إن أرستقراطية أسامة في السلوك لا في التعامل فهو لم يستوردها أو يدعيها بل هي خصلة متوارثة كونه سليل أسرة ثرية وبالتالي فإنه حذر جدا على صعيد التعامل في كل شيء لأنه حريص جدا على المحافظة على إرثه العائلي»، معتبرا أن «هناك سياسيين ليس لديهم ما يخسرونه وبالتالي يمكنهم أن يغامروا في كل شيء طالما سنحت لهم الفرصة بينما النجيفي يحسب حساب الماضي والمستقبل وليس الحاضر فقط».
ويرى العاني أن «النجيفي أعطى وجها مشرقا للعراق في العلاقات العربية والدولية حيث إن مواقفه الواضحة من الأزمة السورية منذ البداية لم تمنعه من الوقوف ضد مبدأ الضربة الأميركية على سوريا وتبنى المبادرة العراقية في زيارتيه إلى تركيا وإيران علما بأن عشيرته (بني خالد) تحمل قسمهم السوري الكثير من ممارسات النظام هناك».

* من المعاهدة إلى قاسم سليماني

في رحلته الأولى إلى الولايات المتحدة على أثر انتخابه رئيسا للبرلمان العراقي أواخر عام 2010 رفض بروتوكولا خضع له قبله الرئيس جلال طالباني ورئيس الوزراء نوري المالكي وهو وضع إكليل من الزهور على قبر الجندي الأميركي الذي بقي من وجهة نظر النجيفي محتلا لا محررا للعراق. لكنه عندما زار إيران مؤخرا لم يتردد في حضور مجلس عزاء والدة الجنرال قاسم سليماني أحد أكثر زعماء إيران عداء من قبل قادة القائمة العراقية والكثير من القادة السنة. محمد الخالدي مقرر البرلمان العراقي القيادي في كتلة متحدون التي يتزعمها النجيفي وقريبه يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «مواقف النجيفي حيال أي قضية من القضايا لا تخضع للمزاج بل هي مواقف ثابتة وهو ما ينعكس في مواقفه الدولية سواء في زيارته إلى أميركا أو إيران أو إلى أي بلد آخر لأنه يمثل العراق وأن أي حالة أو موقف يتعامل معه من هذه الزاوية». ويضيف الخالدي أن «النجيفي نجح منذ دخوله البرلمان في الدورة الأولى بعد أن حقق نتائج كبيرة في الموصل ومما يحسب له أنه كان أحد خمسة نواب من بين نواب البرلمان العراقي ممن رفضوا الاتفاقية مع الولايات المتحدة». وبشأن رؤيته للنجيفي كرئيس للبرلمان يقول الخالدي إنه «نجح في إدارة جلسات البرلمان فهو مواظب على العمل والدوام وجاد جدا وقادر على إدارة دفة الأمور في أحلك المواقف والظروف برغم كل الملابسات التي حصلت وتحصل داخل البرلمان لكنه قادر دائما على تحقيق إنجاز في أي عمل يوكل له حتى إنه برز كقائد عراقي وعالمي يحسب له حساب عند الدول والحكومات».

* عين على الرئاسة الأولى

لم يبق في طموح أسامة النجيفي ما لم يتحقق سوى منصب رئيس الجمهورية. ومع أن الرئاسة الأولى في العراق رمزية إلى حد كبير كون نظام الحكم في العراق برلمانيا وليس رئاسيا فإن هذا المنصب وطبقا لمبدأ المحاصصة أو التوافق الوطني لا يزال ويمكن أن يبقى لفترة قادمة موضع نزاع بين العرب (السنة) تحديدا والأكراد بعد أن بات أمر رئاسة الوزراء محسوما للشيعة (العرب). وحيث إن طارق الهاشمي الذي كان يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية وواحدا من أقوى المرشحين لمنصب الرئيس لولا اتهامه بالإرهاب فإنه لم يعد من بين القادة السنة الكبار الآن ممن تنطبق عليهم شروط الترشيح لهذا المنصب مستقبلا سوى أسامة النجيفي وصالح المطلك.
النائب عن ائتلاف دولة القانون علي الشلاه الذي يعد أحد أبرز خصوم النجيفي داخل البرلمان يقول عنه في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إن «لدى النجيفي طموح كبير جدا لكنه للأسف لا يستطيع أن يتبنى موقفا وسطا بل هو بنى شعبيته أول الأمر على عداء مع الأكراد ثم الآن ومن خلال الانتخابات الأخيرة فقد الكثير من شعبيته وهو ما جعله الآن يسعى لتغيير خطابه ليكون أكثر اعتدالا بسبب أن هناك مزايدين في الوسط السني»، مشيرا إلى أن «الحاجة تقوم على زعيم سني وسطي مقبول يمكن أن يتعامل مع سياسي شيعي ويمكن لهذه الثنائية أن تنجح بين المالكي والنجيفي في حال لا تحدث تقلبات في المواقف من قبله». الشلاه يعترف أن «من إيجابيات النجيفي أنه حاسم في مواقفه وحازم لكنه يحرج نفسه أحيانا فيضطر إلى رمي الكرة في ملعب الآخرين وبالتالي فإنه أمام مهمة صعبة في كيفية الحفاظ على نفس وزنه في الانتخابات القادمة وهو في نفس المشكلة التي يعانيها المطلك (صالح) أمام جمهوره». الشلاه يرى أن «أمرا واحدا بقي للنجيفي وهو أن يعمل على تشريع المزيد من القوانين خلال ما تبقى من الدورة البرلمانية الحالية حتى تحسب إنجازات له من الناحية المهنية».
من زاوية أخرى أكثر قربا يقول المستشار في البرلمان حسين فوزي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إن «النجيفي شخصية عفيفة ونزيه فالرجل شبع من طفولته وشبع قبله أهله وهو من الأدب والدماثة يحترم الضعيف أكثر من القوي». ويرى فوزي أن «النجيفي يمتلك من المواصفات ما يؤهله أن يكون رجل دولة بارزا ومشروع رئيس جمهورية حين يتحالف الشيعة والسنة لبناء الدولة الديمقراطية الاتحادية»، معتبرا أن «فرصة النجيفي في رئاسة الجمهورية ليس في الدورة المقبلة التي تبدو محسومة للأكراد ثانية إلا أن الدورة ما بعد القادمة سوف تكون مرحلة مختلفة». وينتهي فوزي إلى خلاصة أن «النجيفي يدير جلسات البرلمان بشكل ينسجم مع المعايير المهنية والديمقراطية لكنه ولكون لكل شخص نواقصه فإن تصريحاته أحيانا لا تنسجم مع طبيعة مهامه».



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.