«ولاد بديعة» المُنطلِق ببراعة هل قضى على نفسه؟

التفوّق الأدائي «يشفع» للوهج خفوته... ولا يُبرّره

يامن الحجلي وسلافة معمار بشخصيتَي «ياسين» و«سكر» الملطَّخين (لقطة من المسلسل)
يامن الحجلي وسلافة معمار بشخصيتَي «ياسين» و«سكر» الملطَّخين (لقطة من المسلسل)
TT

«ولاد بديعة» المُنطلِق ببراعة هل قضى على نفسه؟

يامن الحجلي وسلافة معمار بشخصيتَي «ياسين» و«سكر» الملطَّخين (لقطة من المسلسل)
يامن الحجلي وسلافة معمار بشخصيتَي «ياسين» و«سكر» الملطَّخين (لقطة من المسلسل)

الانبهار ببدايات المسلسل السوري «ولاد بديعة» تساقط مع تقدُّم حلقاته. خفُتَ إيقاعٌ مُتسارع شكَّل عامل جذب يُجمِّل المتابعة، ليحلَّ مكانه ما يبدو مجرّد إلحاح على ملء الثلاثين حلقة. هذا العمل أمكن أن يكون من الأوائل. قصّته (علي وجيه ويامن الحجلي) شدَّت، وإخراجه مثير بقيادة كاميرا رشا شربتجي البارعة. أبطاله تفوّقوا في الأداء المحترف، وبعضهم قدَّم أجمل أدواره، منهم محمود نصر، ومصطفى المصطفى، ورامز الأسود بشخصية «وفا الشامي» بعد أدوار زجّته في النمطية. 15 حلقة فقط، كانت لتُبقي مرتبته عالية. انقلب على نفسه حين سلَّم أمره للحشو.

محمود نصر يتفوّق بأداء شخصية «مختار الدباغ» المضطرب (لقطة من المسلسل)

قدَّم المسلسل (إنتاج «بنتالنس») نجومه بتألُّق لم يقتصر على الأدوار الرئيسية. واستطاع خَلْق حالة حين جعل من ثيمة مُستهلَكة (حرب إخوة على الميراث)، مسرحاً للمفاجأة الدرامية والحدث المُنتَظر. ذلك كله راح يتبخَّر منذ الدخول في الزمن الثاني للأحداث، كأننا أمام مسلسل آخر. وإنْ استطاعت مَشاهد شدَّ الانتباه، منها رقصة «سكر» (سلافة معمار الوفية للشخصية) على قبر «أبو الهول» (محمد حداقي بأداء متمكّن) بعد قتله، فإنَّ المُسيطر على النصف الثاني هو برودة الحرارة. فعودة «أبو الهول» من الموت سدَّدت صفعة لعمل اختلَّ توازنه تدريجياً، بعدما كاد يصنع الفارق في «كونسبت» الدراما السورية المعاصرة. عودة «مجانية»، لا وظيفة لها في السياق سوى مزيد من تكريس العنف، حين انهال على «سكر» بالضرب الوحشي. سوى ذلك، تقريباً فراغات.

الإضاءة على شراء الشهادات المزوّرة، وزيف مواقع التواصل حين تتيح للمدّعين اعتلاء المنابر، مسائل مهمّة. ومع أهميتها، بدا كأنّ المسلسل يملأ بها ما يستطيع عليه لإطالة عُمر الحكاية. لم تُتح تلك المقاربات شعوراً بأنها «ملتحمة» بأعماق النصّ، بقدر ما تراءت «موظَّفة» للإطالة. منذ تحوّل «ولاد بديعة» من قصة إلى ذريعة لاستمرار الثلاثين حلقة، تفكّك التعلُّق به، وأحاله على العادية، بعدما انطلق بهِمَّة المسلسلات الواثقة من التميُّز والجديرة به.

نادين تحسين بيك وسامر إسماعيل بشخصيتَي «هديل» و«شاهين» (لقطة من المسلسل)

العمل بالدرجة الأولى كاركتيرات أتقن الكاتبان مدَّها بالروح، ورفعت المخرجة مقامها. التفوّق الأدائي «يشفع» للحكاية تراجُع إيقاعها، من دون أن يُبرّر لها. صحيح أنه من غير المُوفَّق حصر الخطّ الدرامي بإشكالية الصراع على المال، وزجِّه بسلوكيات الإخوة الوحشية الحائمة حول المصالح والأنانيات. تعدُّد الخيوط مفيد، لكنَّ جرَّه إلى الاختلال هو المُضرّ. ذلك عدا الشحن المتمادي واستحالة مرور نسمة تبلسم الاختناق، عدا مشهد التطهُّر وانتقال «أبو الوفا» (حضور ممتاز لتيسير إدريس) إلى العالم الآخر. الحب مقتول في مسلسل قائم على القتل بشتّى أشكاله. يمكن تفهُّم أنّ جوَّه قاتم ومساراته وعرة، لكنه أفرط في الوقوف بصفّ الظلمة، وبالغ في إنكار وجود الضوء. حتى «عبير» (روزينا لاذقاني) لم تُبرَّر أحلامها الوردية بعد. قُضي عليها فوراً، ولم يكد يولد الحب حتى جرفته الكراهية. الجميع تقريباً في مغطس الدم الساخن. باستطاعة الحضور العذب لولاء عزام بشخصية «زهور»، مع اللافتة نادين خوري بشخصية والدتها «أم جمعة»، وهافال حمدي بدور زوجها «نظمي» (أداء لامع)، مدَّ السوداوية ببعض اللطافة. الشاب وسام رضا بشخصية «السيكي» (أداء ممتاز ومُبشِّر) هو الناجي الوحيد من المقاربة «الفجّة». رغم ماضيه الأليم، يُشكّل مُتنفَّساً.

إمارات رزق بدور «بديعة» أنجبت أولاداً يمتهنون النهش (لقطة من المسلسل)

المكان المهجور حيث القطارات المُعطَّلة، فضاءٌ لتصفية حسابات لا تُعدّ. هناك تعمّقت مناكفات الطفولة بين الإخوة، أولاد «بديعة»؛ «سكر»، و«ياسين» (يامن الحجلي بأداء لافت جداً) و«شاهين» (سامر إسماعيل بأحد أبرز أدواره)، وشقيقهم «مختار» (محمود نصر المُتقِن تجسيد الاضطراب النفسي)، وتكرَّست الأحقاد الكبيرة. وهناك تُشنَق القطط (نوَّه المسلسل إلى اتّخاذ إجراءات السلامة) لتأكيد الرغبة في التشفّي وإعلان الحدّ الأقصى من القسوة. وهناك تدفن «سكر» جنيناً حلمت به، ويُصاب «مختار» بالعجز عن الإنجاب حين يهشِّم شقيقاه رجولته. مسرح مكشوف على أسوأ الاحتمالات. تعمُّد المسلسل التخلّي التام عن الرحمة مقابل تمجيد العنف، وإنْ أراده إسقاطاً على الواقع السوري بعد الحرب، وما يتخطّى الجغرافية السورية إلى حيث الإنسان يُترك وحيداً في الغابة الكونية، مرمياً للذئاب، مُحالاً على النهش بشتّى أشكاله؛ ينقلب ثقله على صنّاعه ويعمُّ السواد الحالك، فتحلّ كل فضيلة ثانياً، حتى الإبداع.

فادي صبيح بشخصية «عارف الدباغ» بحضور محترف (مواقع التواصل)

ورغم أنه إبداع ظاهر ومؤكد، يبلغ ذرواته بلقطات كوابيس «سكر» (الدموية أيضاً)، وبترك «يحيى» (إبراهيم الشيخ) لمصيره بعد عذابات نفسية قاسية يمارسها «مختار» عقاباً لنذالته، وتصويره على أنه نسخة جديدة عن «بديعة»؛ وبانهيار عالم «جمعة» (مصطفى المصطفى) حين تطهو والدته ديك المراهنات، فيملأ معدته بحلمه المُجهَض... بجانب ذروات أخرى. حقُّ هذا الإبداع الاعتراف به، مع تعقيب يبدأ بـ«ولكن»، فتصبح المعادلة: «ولاد بديعة» لم يمرَّ عابراً... ولكن. المديح يرتطم بما يحول دون التغنّي به.

مصطفى المصطفى في أحد أجمل أدواره (لقطة من المسلسل)

المال «وسخ الدنيا» كما يُسمّيه «ياسين» كلما ادّعى الترفُّع؛ يُظهر المعادن على حقيقتها، فتتراءى صدئة، لا تساوي فرنكاً في سوق الصرف. الدفاتر القديمة مفتوحة بالكامل، ولا شيء يُمنَح بلا مقابل. حتى أفعال الخير، تريد بها «سكر» تكفيراً عن ماضٍ مُلطَّخ. ليس العطاء إلا تعويضاً عن التمادي في الأخذ. الدمُّ ولَّد دماً، وجَرَفَ النهر الأحمر كل ما عداه، حتى التلذُّذ بالمُشاهدة. يعيد التاريخ نفسه حين يتكرّر سيناريو «عارف» (فادي صبيح بدور رائع) و«بديعة» (إمارات رزق مفاجأة الموسم الرمضاني) في زيجات أولادهما المُطعَّمة بالحرام وسوء النوايا. حتى «شاهين» يعجز عن تغيير جلده، وإن تزوّج ابنة الزواة؛ ولا ينجو «مختار» من نفسه وإنْ تزوَّج «هديل» (نادين تحسين بيك بأداء منضبط). أولاد «بديعة» تطاردهم خطيئة المكان والظروف والأهل، ولا يعُد مهماً إن ارتدوا ربطة عنق أو امتهنوا كاراً آخر غير الدبَّاغة.

ولاء عزام... حضور عذب بشخصية «زهور» (لقطة من المسلسل)

ليقول المسلسل إنّ ماضي المرء يُنغّص مستقبله، أجَّج قتامته وكثَّف شطحاته. يظلّ ذلك مُبرّراً لتجسيده واقعاً لا يقلّ فظاعة، واختزاله أصنافاً بشرية تتساوى بالوحشية. إفلاته سياقه، وظنّه أنّ سخونة الحدث مستمدَّة فقط من العنف، كادا يقضيان عليه، لولا عين رشا شربتجي، وبراعة الأداء أمام كاميرتها.


مقالات ذات صلة

سامر البرقاوي لـ«الشرق الأوسط»: هاجسي فكريّ قبل أن يكون إنتاجياً

يوميات الشرق وحدها الثقة بمَن يعمل معهم تُخفّف الحِمْل (صور المخرج)

سامر البرقاوي لـ«الشرق الأوسط»: هاجسي فكريّ قبل أن يكون إنتاجياً

ينظر المخرج السوري سامر البرقاوي إلى ما قدَّم برضا، ولا يفسح المجال لغصّة من نوع «ماذا لو أنجرتُ بغير هذا الشكل في الماضي؟»... يطرح أسئلة المستقبل.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق تعبُ مصطفى المصطفى تجاه أن يكون الدور حقيقياً تسبَّب في نجاحه (صور الفنان)

مصطفى المصطفى: ننجح حين نؤدّي الدور لا وجهات نظرنا

اكتسبت الشخصية خصوصية حين وضعها النصّ في معترك صراع الديوك. بمهارة، حضن الديك ومنحه الدفء. صوَّره مخلوقاً له وجوده، ومنحه حيّزاً خاصاً ضمن المشهد.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق كاميرا السوري أحمد الحرك تألّقت في «تاج» وتحلم برونالدو

كاميرا السوري أحمد الحرك تألّقت في «تاج» وتحلم برونالدو

بين الوجوه ما يُنجِح الصورة من المحاولة الأولى، وبينها غير المهيّأ للتصوير. يتدخّل أحمد الحرك لالتقاط الإحساس الصحيح والملامح المطلوبة.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق الفنان المصري دياب حمل السلاح من أجل «مليحة» (الشرق الأوسط)

دياب: لن أجامل أحداً في اختيار أدواري

أكد الفنان المصري دياب أنه وافق على مسلسل «مليحة» ليكون بطولته الأولى في الدراما التلفزيونية من دون قراءة السيناريو، وذكر أنه تعلّم حمل السلاح من أجل الدور.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق استلهمت الكثير من نجمي العمل بسام كوسا وتيم حسن (إنستغرام)

فايا يونان لـ«الشرق الأوسط»: الشهرة بمثابة عوارض جانبية لا تؤثر عليّ

تابعت فايا يونان دورها على الشاشة الصغيرة في مسلسل «تاج» طيلة شهر رمضان. فكانت تنتظر موعد عرضه كغيرها من مشاهديه.

فيفيان حداد (بيروت)

علماء يُثبتون قدرة خلايا القلب على التَّجدد

قصور القلب يؤثر على نحو 30 مليون شخص عالمياً (جامعة أريزونا)
قصور القلب يؤثر على نحو 30 مليون شخص عالمياً (جامعة أريزونا)
TT

علماء يُثبتون قدرة خلايا القلب على التَّجدد

قصور القلب يؤثر على نحو 30 مليون شخص عالمياً (جامعة أريزونا)
قصور القلب يؤثر على نحو 30 مليون شخص عالمياً (جامعة أريزونا)

أثبتَ فريق بحثي دولي بقيادة علماء من جامعة أريزونا الأميركية قدرة خلايا عضلة القلب على التّجدد لدى بعض مرضى قصور القلب الذين يعتمدون على القلوب الاصطناعية.

وأوضح الباحثون أن دراستهم تُغيّر المفهوم السائد منذ عقود بأن خلايا القلب لا تستطيع التّجدد، ونُشرت النتائج، الجمعة، في دورية (Circulation).

وقُصور القلب، أو فشل القلب، هو حالة مُزمنة يعجز فيها القلب عن ضخ الدم بكفاءة كافية لتلبية احتياجات الجسم من الأكسجين والمغذيات. يحدث ذلك نتيجة ضعفٍ أو تصلُّبٍ في عضلة القلب، مما يؤدي إلى تراجع وظيفتها. يُصنّف قُصور القلب واحداً من أبرز تحدّيات الطّب الحديث، إذ يؤثر على نحو 30 مليون شخصٍ عالمياً، بما في ذلك نحو 7 ملايين بالغٍ في الولايات المتحدة، وفقاً للمراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها.

وعلى الرغم من أن الأدوية والعلاجات المُتاحة تُساعد في تخفيف الأعراض وإبطاء تقدّم المرض، فإن العلاجات المتاحة للحالات المتقدمة تقتصر على زراعة القلب أو استخدام مضخّات اصطناعية مثل جهاز دعم البطين الأيسر لتقوية ضخِّ الدم.

وتشير الأبحاث إلى أن قدرة خلايا عضلة القلب على التّجدد بعد الأزمات القلبية تُعد محدودة للغاية، على عكس أنسجة أخرى في الجسم مثل الجلد أو الكبد. وعند تعرض القلب لضررٍ، تتعرض الخلايا للتلف ويُستبدل بها غالباً نسيجٌ ليفي غير قادرٍ على الانقباض أو المساهمة في ضخِّ الدم.

ويرجع ذلك إلى أن خلايا القلب العضلية تتوقف عن الانقسام الطبيعي بعد الولادة، وتُكرِّس وظيفتها لضخِّ الدم بشكل مستمر، مما يُضعف قدرتها على التّجدد.

لكن الدراسة أظهرت أن نحو 25 في المائة من المرضى الذين يعتمدون على القلوب الاصطناعية تمكّنوا من تجديد خلايا عضلة القلب بمعدل يفوق 6 أضعاف المعدل الطبيعي للقلوب السليمة.

وفسَّر الباحثون ذلك بأن الأجهزة الاصطناعية مثل جهاز دعم البطين الأيسر، تُخفّف العبء عن القلب وتمنحه «راحة» من ضخِّ الدّم، مما يُتيح للأنسجة القلبية فرصة للتّجدد.

وقال الدكتور هشام صادق، الباحث الرئيسي للدراسة ورئيس أقسام القلب في جامعة أريزونا، إن هذه النتائج تُقدّم أقوى دليلٍ حتى الآن على أن عضلة القلب البشرية قادرة على التّجدد.

وأضاف عبر موقع الجامعة أن «عدم قدرة القلب على الراحة المستمرة بعد الولادة هو العامل الأساسي الذي يُفقد خلايا القلب هذه القدرة الطبيعية».

وأشار الفريق إلى أن هذه النتائج تُمثّل خطوةً كبيرة نحو فهمٍ أعمقَ لقدرة القلب البشري على التّجدد، مما يفتح الباب لتطوير علاجات جذرية تستهدف تعزيز هذه القدرة بدلاً من الاكتفاء بإبطاء تقدم المرض. كما يهدف الباحثون إلى تحديد العوامل التي تُمكّن ربع المرضى فقط، من تجديد خلايا القلب بمعدلات مرتفعة، لتحسين هذه القدرة لدى المزيد من المرضى.