هل تتمكن البشرية يوماً من هزيمة زهرة الخشخاش؟

روائي هندي يروي حكاية تجارة الأفيون متتبعاً خيوطها الخفية

هل تتمكن البشرية يوماً من هزيمة زهرة الخشخاش؟
TT

هل تتمكن البشرية يوماً من هزيمة زهرة الخشخاش؟

هل تتمكن البشرية يوماً من هزيمة زهرة الخشخاش؟

اشتهر أميتاف غوش، الروائي الهندي، بثلاثيته «طائر أبو منجل» التي ظهر الجزء الأوّل منها «بحر الخشخاش» في 2008، قبل أن يستكملها في «نهر الدّخان» عام 2011، ويختمها بـ«فيضان النار» في 2015. وقد حاز هذا العمل نجاحاً تجاريّاً مرموقاً، وأشاد به النقّاد لصوته المتحرر من المزاج الغربيّ وعمق أبحاثه في تاريخ منطقة المحيط الهندي خلال ثلاثينات القرن التاسع عشر الميلادي، فيما يتم الإعداد لتحويله إلى مسلسل تلفزيونيّ ضخم. لكن تتويج هذه الثلاثية جاء على شكل نصّ تاريخيّ غير خيالي أطلق عليه اسم «الدّخان والرّماد: تاريخ الأفيون الخفي». ويسجّل خلاصة المعارف التي حصلّها غوش من خلال تحضيره لعمله الروائي، ويسرد فيه، عبر مزيج من الشخصيّ والعام والأرشيف، حكاية تجارة الأفيون بين الهند والصين وبريطانيا، متتبعاً خيوطها الخفيّة التي حكمت حياة ملايين الأشخاص، ولا تزال امتداداتها موجودة إلى اليوم في أصول بعض أكبر الشركات والعائلات والمؤسسات في العالم، لا سيّما الولايات المتحدة.

عرف الأطباء والعشابون خصائص مسكنات الأفيون منذ أزمنة قديمة، وكان عقاراً مفضلاً لدى العديد من السلالات الحاكمة في التاريخ، لكن استخدامه لم ينتشر على نطاق واسع حتى القرن التاسع عشر، عندما تم تبسيط عمليات الزراعة والتصنيع الشاقة والمتطلبة، حيث يستغرق تحويل عصارة الخشخاش إلى أفيون قابل للاستخدام ما يقرب من عام كامل.

على أن غوش يبدأ سرديته عن الأفيون من الشاي، إذ بحلول القرن الثامن عشر، أصبحت إنجلترا تعد هذه النبتة التي عرفها الصينيون منذ أكثر من ألف عام بمثابة مشروب قوميّ للبلاد، لدرجة أن الرسوم الجمركيّة التي كانت تحصلها السلطات على الواردات منه شكلت ما يقرب من عشر إيرادات المملكة خلال معظم فترة الثورة الصناعيّة، ومكنّتها من تمويل حروبها الاستعمارية العديدة. ومع ذلك فإن إمدادات الشاي من الشرق تسببت لبريطانيا بضغوط كبيرة من جهتين: الأولى ضرورة استمرارية الشحنات بالتقاطر إلى لندن دون انقطاع، أما الثانية فكانت العجز التجاري الفادح مع الصين التي كانت تصدّر للمملكة الشاي دون أن تحتاج إلى استيراد شيء منها بالمقابل. وللتعامل مع مسألة الإمدادات، فرض البرلمان قانوناً يتطلب من «شركة الهند الشرقية» الاحتكارية الاحتفاظ بإمدادات تكفي لمدة عام على الأقل في المخزون، فيما تفتق العقل الاستعماري البريطاني عن فكرة حل مشكلة عجز الميزان التجاري من خلال تصدير الأفيون إلى الصين من مستعمرتها الهنديّة.

ينسف غوش في «الدخان والرماد» الزعم البريطاني بأن الأفيون كان بمثابة مخدر محلي تقليدي في الهند وسمة عريقة للحياة فيها، وينفي بشكل حاسم إمكان نشوء صناعة بهذه الضخامة في شبه القارة عن طريق الصدفة، وهو يورد ما يشير إلى أن زراعة زهرة الخشخاش - التي يصنع منها الأفيون - لم تكن من تقاليد البلاد قبل أن يؤسس البريطانيون «دولة مخدرات» حقيقية في ستينات القرن الثامن عشر لأغراض التصدير إلى الصين.

تدريجيّاً، وفق غوش، أصبحت إدارة تجارة الأفيون بمراحلها من الزراعة إلى التصنيع إلى التصدير محور حياة عدة ملايين الأشخاص في كل شرقيّ آسيا، فغير أكثر من مليون أسرة فلاحيّة تفرّغت بالكليّة لزراعة زهرة خشخاش الأفيون الأبيض، كانت هناك بيروقراطيّة متطورة ومنظومة أمنية تدير عمليات جمع المحصول ونقله كمادة خام إلى المصانع الضخمة، قبل تسليمها جاهزة للتصدير إلى تجار يتولون نقلها باتجاه الصين.

خشي الحكام الصينيون من آثار الأفيون على مواطنيهم الذين تفشى فيهم الإدمان، ففرضوا حظراً جزئياً على استيراده عبر الحدود والموانئ منذ عام 1729، وذهب ممثل للإمبراطور إلى مركز تجارة الأفيون وأجبر التجار البريطانيين والأميركيين على تسليم مخزونهم من المخدّر الذي تجاوز حينها ألف طن وقام بإحراقه في احتفالية كبيرة شهدها الآلاف من المواطنين. إلا أن البريطانيين نقلوا منتجهم من المصانع في شرقي وشمال الهند إلى كلكتا، حيث كان يباع بالمزاد العلني إلى تجار من القطاع الخاص يتولون تهريبه عبر القوارب إلى جنوب الصين، حيث يشتريه منهم هناك المهربون المحليّون. وقد تسببت هذه التجارة تالياً في حربين بين الصين وبريطانيا، أولاهما في 1840 - 1842 وكان من نتائجها أن أصبحت هونغ كونغ مستعمرة بريطانيّة ورأس جسر لتوزيع الأفيون عبر الصين، واضطر الإمبراطور الصيني وقتها تحت الضغط العسكري لتوقيع اتفاقية مع لندن تفتح أبواب أسواق بلاده للتجار الأوروبيين والأمريكيين، والحرب الثانية في 1856 – 1860، انضمت فيها فرنسا إلى بريطانيا واضطرت في أثرها الصين إلى الخضوع مجدداً وتوقيع اتفاقيّة تمنح كلاً من بريطانيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة امتيازات تجاريّة عبر خمسة موانئ رئيسية شملت رفع القيود عن تجارة الأفيون وحريّة إقامة رعاياها في بكين، وكذلك حريّة التبشير بالدين المسيحيّ في أرجاء البلاد. وبعد تردد الإمبراطور في التصديق على الاتفاقية اندفعت القوات البريطانية والفرنسية عبر الأراضي الصينية، فنفذت مذابح بشعة وقضت على المقاومة بالقوة الغاشمة، ودخلت طلائعها بكين في عام 1860 ونهبت المقر الصيفي للإمبراطور وأضرمت فيه النار، لتفتح الباب على مصراعيه لنشر تعاطي الأفيون بين الصينيين الذين ارتفع عدد المدمنين من بينهم إلى 120 مليوناً سنة 1878، بعد أن كان عددهم أقل من مليوني مدمن عام 1850، ولتبقى هذه الآفة مستشرية في طول البلاد وعرضها حتى مطلع القرن العشرين عندما قُضي على تعاطيه نهائياً في عهد الزعيم الشيوعيّ ماو تسي تونغ.

ينعكس الحجم الهائل لتجارة الأفيون في عدد المؤلفين والأدباء البريطانيين المشهورين الذين يرد ذكرهم في نص غوش - الذي كان أسلافه بدورهم قد استقروا في شابرا الهنديّة للعمل في حسابات الأفيون المكتوبة باللغة البنغاليّة -. فهناك روديارد كيبلينغ الذي شُوهد متجولاً في أحد مصانع هذا المخدّر، وجورج أورويل (إريك بلير) المولود في بيهار بالهند عندما كان والده نائباً لوكيل تجارة الأفيون في الإقليم، وأيضاً تشارلز ديكنز الذي كتب في تأييدها. لقد جمع العديد من الأوروبيين والأمريكيين ثروات طائلة من خلال العمل بهذه التجارة في الصين لسنوات قليلة قبل أن يعودوا إلى بلادهم لإنفاقها دون خجل محملين وزر إدمان الصينيين على ميلهم للشهوات وفسادهم الفطري. وفي «الدّخان والرّماد» تفاصيل ملفتة حول تشابك عوائد تجارة الأفيون مع الفنون في هندسة المعمار وصناعة الأثاث وتنسيق الحدائق وحتى اللوحات الفنية، لكن الأكثر إثارةً ربما تكون تلك الارتباطات السلالية لأباطرة تجارة الأفيون من الأمريكيين – يطلق عليهم في الوثائق التاريخيّة اسم «بوسطن براهمينز» - الذين كان من أحفادهم شخصيات معروفة أمثال جون موراي فوربس وفرانكلين دي روزفلت.

مأساة الشعبين الصيني والهندي التي أطلقها الوحش الاستعماري الغربيّ على شكل تجارة الأفيون ربما تكون قد تقلصت الآن بفضل نضالات الشعبين وتراكم إنجازاتهما - مع أن أكبر مصانع إنتاج الأفيون في العالم ما زالت إلى يومنا في الهند كما يقول غوش -. ومع ذلك، فإن الإرث الأكثر ديمومةً لمغامرة الغرب المشؤومة تلك ما زال شاخصاً حتى وقتنا الراهن كوباء عالمي في إدمان المواد الأفيونية، التي بأشكالها المختلفة أودت مثلاً بحياة أكثر من نصف مليون أميركي في العقد الماضي وحده. لقد أطلقت «بوسطن براهمينز» و«شركة الهند الشرقية» جنيّاً مجرماً لم يتمكنوا مطلقاً من إعادته إلى قمقمه، إذ اعتقدوا أن بإمكانهم إبقاء الأفيون تجارة لاستغلال الشرقيين «الكسالى الذين يميلون بشكل طبيعي إلى الرذيلة»، لكنهم انتهوا أن جلبوا الكارثة معهم إلى بلادهم. ونتساءل اليوم مع غوش ما إذا كانت البشرية ستتمكن يوماً من هزيمة هذه الزهرة المتطلبة القاتلة!

«الدّخان والرّماد»: تاريخ الأفيون الخفي

Smoke And Ashes: A Journey Through Hidden Histories

المؤلف: أميتاف غوش

الناشر: موراي، 2024 أميتاف غوش: زراعة الخشخاش لم تكن من تقاليد الهند قبل أن يؤسس البريطانيون «دولة مخدرات» في ستينات القرن الـ18 لأغراض التصدير

إلى الصين



لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».