محمد مصطفى... التكنوقراطي المجرّب ورجل «اليوم التالي» في الحلبة الفلسطينية

تعيينه في رئاسة الحكومة عجّل باستفزاز «حماس»

من أقواله «إذا لم نتمكن من إزاحة الاحتلال فلن تتمكن أي حكومة إصلاحية أو مؤسسات من بناء نظام حكم جيد وناجح أو تطوير اقتصاد مناسب»
من أقواله «إذا لم نتمكن من إزاحة الاحتلال فلن تتمكن أي حكومة إصلاحية أو مؤسسات من بناء نظام حكم جيد وناجح أو تطوير اقتصاد مناسب»
TT

محمد مصطفى... التكنوقراطي المجرّب ورجل «اليوم التالي» في الحلبة الفلسطينية

من أقواله «إذا لم نتمكن من إزاحة الاحتلال فلن تتمكن أي حكومة إصلاحية أو مؤسسات من بناء نظام حكم جيد وناجح أو تطوير اقتصاد مناسب»
من أقواله «إذا لم نتمكن من إزاحة الاحتلال فلن تتمكن أي حكومة إصلاحية أو مؤسسات من بناء نظام حكم جيد وناجح أو تطوير اقتصاد مناسب»

لا يحتاج متصفّح السيرة الذاتية للدكتور محمد مصطفى رئيس الحكومة الفلسطينية الجديد لكثير من التدقيق والبحث ليكتشف أنه اختير بعناية فائقة فلسطينية دولية ليكون هو رجل «اليوم التالي» مع وقف إطلاق النار في غزة. ويبدو أن الاقتصادي البارز الذي لا يحمل بطاقة حزبية والذي عمل في البنك الدولي لمدة 15 سنة وكان مشرفاً أساسياً على إعادة إعمار قطاع غزة عام 2014 الرجل المناسب في المكان والزمان المناسبين فهو الذي يحظى بغطاء ودعم عربي ودولي سارع البيت الأبيض للترحيب بتعيينه مطالباً إياه بتشكيل حكومة تعمل على إجراء «إصلاحات في العمق وذات مصداقية». كذلك يأتي تعيينه بعد مناشدات عدة من مسؤولين في الإدارة الأميركية للرئيس الفلسطيني بـ«ضخ دماء جديدة في السلطة الفلسطينية لتمكينها من لعب دور أساسي في حكم غزة بعد الحرب»

لم يكن مستغرباً أن يستفزّ تعيين الدكتور محمد مصطفى، المقرّب جداً من الرئيس محمود عباس، رئيساً للحكومة الفلسطينية، كيف لا وهو مستشاره الاقتصادي لسنوات، حركة «حماس».

إذ فور الإعلان عن تعيينه، خرجت «حماس» وفصائل أخرى لتتهم «فتح» بـ«التفرّد» باختياره، وبـ«تعميق الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني». وبطبيعة الحال، لقي استياء «حماس» لدى الطرف الإسرائيلي رحابة صدر، مع أنه لم يصدر عنه أي موقف إيجابي أو سلبي بخصوص هذا التعيين.

الدكتور سامي نادر، مدير معهد الشرق الأوسط للشؤون الاستراتيجية في العاصمة اللبنانية بيروت، قال، لـ«الشرق الأوسط»، معلقاً على هذه الخطوة إن مصطفى «هو رجل اقتصادي مقرَّب من محمود عباس وموافَق عليه أميركياً وغربياً، وحتى إسرائيلياً». ولفت إلى أنه «جرى اختياره لأنه يحظى بثقة الدول المانحة ويتخطى عقبة إسرائيل وأي اتهامات بالإرهاب أو بالانتماء إلى (حماس)».

ويضيف نادر أن «بروفايل محمد مصطفى مُشابه لبروفايل سلام فياض... وإن كان الأخير قد عاد واصطدم مع المنظومة. أما مهمته (أي مصطفى) الأساسية، اليوم، فهي إعادة إعمار غزة... وهذا الأمر يتطلب ألا يكون رئيس الحكومة بلون سياسي فاقع؛ لأن مرحلة اليوم التالي بعد الحرب تتطلّب هذا النوع من الشخصيات؛ أي بروفايل اقتصادي يتحمل أوزار إعادة الإعمار دون مواجهة عقبات بالسياسة».

ومن ثم يرد نادر اعتراض «حماس» على تعيين مصطفى «إلى كون الحركة تخوض، إلى جانب المعركة العسكرية في غزة، معركة بالسياسة... وترى أن تعييناً من هذا النوع سيؤدي إلى تقزيم دورها ويذوّب ما تعده هي انتصاراً لها».

خيار إنقاذي؟

من جهة ثانية، يرى الباحث الفلسطيني هشام دبسي أن السبب الأساسي لاختيار مصطفى لرئاسة الحكومة هو «أنه من الكوادر التكنوقراط الفلسطينيين الذين لديهم خبرة واسعة، كما أنه حائز على دكتوراه بالاقتصاد من واشنطن وعمل في البنك الدولي ويعرف كيفية التعامل مع المجتمع الدولي».

وأردف دبسي، في لقاء مع «الشرق الأوسط»، شارحاً أن مصطفى «كان من الوزراء الذين عملوا على إعادة إعمار غزة، وهو من نمط سلام فياض الذي يعرف أن يفصل بين الموقف السياسي والاحتياجات العملية والمباشرة للشعب». ثم تابع: «أما القول إنه قريب من الرئيس أبو مازن ويحظى بثقته فهو قول صحيح، لكنه غير كاف لتفسير الأمر... لأننا اعتدنا أن السياسيين في بلادنا يغلّبون دائماً المواقف السياسية على مصلحة الناس، لذلك فإنه لا يروق لـ(حماس) مثل هذا النمط من الحكومات؛ لأنها لا تستجيب للاحتياجات الملحّة التي فرضتها الحرب الإسرائيلية على غزة والضفة الغربية بقدر ما تستجيب لمطالب آيديولوجية».

ومن ثم يشير دبسي إلى أن «تعيين مصطفى هو استجابة للمجتمع الدولي الذي يشهد تغييرات ذات بُعد إيجابي بعد فتح الباب مرة جديدة أمام خيار الدولتين، وإن كان البعض يتعاطى بعدم ثقة مع ما يصدر عن البيت الأبيض في هذا الشأن». ويشرح أن «الحالة الفلسطينية الراهنة تشهد تحديات كبيرة داخلية وعربية ودولية، ومهمات الحكومة المقبلة شائكة وكبيرة، لكن إذا حصل إجماع عربي ودولي على إسناد السلطة الفلسطينية وتمكينها وجعلها قادرة على المساهمة الفعلية بإنتاج الحلول... فلا شك أن ذلك سيسهم بحل الإشكاليات الفلسطينية الداخلية، وسيبرهن للشعب الفلسطيني والفصائل المعترضة على أن هذا الخيار هو الخيار الصحيح، اليوم؛ لأنه خيار إنقاذي».

مهام رئيس الوزراء الجديد

كما هو معروف، الدكتور مصطفى - الملقّب بـ«السفاريني» نسبة إلى بلدة أبيه سفارين - يخلف الدكتور محمد اشتيه، رئيس الوزراء السابق وعضو حركة «فتح» التي يتزعّمها محمود عباس. وكان اشتيه قد قدّم استقالته في السادس والعشرين من فبراير (شباط) الماضي، لتمهيد الطريق أمام تشكيل حكومة وحدة وطنية.

وقد نشرت وكالة الأنباء الفلسطينية، فور إعلان تعيين مصطفى، أبرز مهام رئيس الوزراء الجديد في نصّ التكليف، وهي تشمل:

- تنسيق جهود إعمار قطاع غزة

- إعادة توحيد المؤسسات الفلسطينية

- مواصلة الإصلاح بما يفضي إلى نظام قائم على الحوكمة والشفافية ويكافح الفساد

- التحضير لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في كل المحافظات الفلسطينية، بما فيها مدينة القدس.

من محمد مصطفى؟

يبلغ محمد مصطفى، الملّقب أيضاً بـ«أبو مصعب»، من العمر 69 سنة، وهو أب لولدين هما مصعب ويزن. وقد ولد في قرية كفر صور (بلدة أمه) بمحافظة طولكرم، حيث تلقّى تعليمه الأساسي، مع أن أباه من بلدة سفارين بالمحافظة نفسها. ومع بلوغ مصطفى سن الـ15 التحق مع عائلته بأبيه الذي كان يعمل في الكويت، وهناك واصل دراسته حتى الثانوية العامة.

في عام 1972 التحق مصطفى بجامعة بغداد في العراق، حيث نال شهادة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية والإلكترونية عام 1976.

وفي عام 1983 التحق بجامعة جورج واشنطن في العاصمة الأميركية واشنطن، حيث حصل، عام 1985، على شهادة الماجستير في الإدارة، ثم في عام 1988 على شهادة الدكتوراه في إدارة الأعمال والاقتصاد.

أبرز المراكز التي تبوأها

شغل الدكتور محمد مصطفى عدداً من المناصب العليا في البنك الدولي بواشنطن بين عاميْ 1991 و2005، إذ عمل في البنك بقسم إدارة الصناعة والطاقة لمنطقة أفريقيا، ثم في قسم أوروبا الشرقية، ثم في إدارة البنية التحتية والخصخصة لمنطقة الشرق الأوسط. وساهم، خلال هذه الفترة، في تطوير عدد من شركات الاتصالات مثل شركتيْ أورنج وفاست لينك في الأردن، وشركة الاتصالات السعودية، وشركات أخرى في مصر ولبنان وأفريقيا وبلغاريا وروسيا.

أيضاً، عمل مصطفى مستشاراً للإصلاح الاقتصادي لدى حكومة الكويت، ومستشاراً لصندوق الاستثمارات العامة في السعودية.

وفي عام 1995، عاد إلى فلسطين بشكل مؤقت عقب توقيع «اتفاقية أوسلو»، حيث أمضى سنة ونصف السنة في المساهمة بتأسيس قطاع الاتصالات في فلسطين، فكان رئيساً تنفيذياً مُؤسِساً لشركة الاتصالات الفلسطينية «بالتل» بين عاميْ 1995 و1996، ثم عاد بعد ذلك للعمل في البنك الدولي بواشنطن.

الاستقرار في فلسطين

خلال عام 2005، قرّر محمد مصطفى الإقامة بشكل دائم في فلسطين، وذلك بعدما كلفه الرئيس الفلسطيني محمود عباس بمنصب مستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الاقتصادية في ديوان الرئاسة الفلسطينية.

ثم في مطلع عام 2006 كلّفه عباس بمنصب الرئيس التنفيذي لصندوق الاستثمار الفلسطيني. ومنذ عام 2015 حتى يومنا هذا شغل منصب رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمار الفلسطيني.

أما على الصعيد السياسي فقد شغل مصطفى منصب نائب رئيس الوزراء الفلسطيني للشؤون الاقتصادية في غير حكومة واحدة، كما عُيّن نائب رئيس الوزراء الفلسطيني ووزير الاقتصاد الوطني الفلسطيني في الحكومة الفلسطينية السابعة عشرة «حكومة الوفاق الوطني الفلسطيني»، منذ يونيو (حزيران) 2014، وحتى تقديمه استقالته منها في مارس (آذار) 2015. وهنا تجدر الإشارة إلى أن مصطفى كان في أكتوبر (تشرين الأول) 2014 رئيساً للجنة إعادة إعمار قطاع غزة في «مؤتمر المانحين» الذي عُقد في العاصمة المصرية القاهرة بهدف إعادة إعمار القطاع عقب حرب عام 2014.

وفي فبراير 2022 أصبح عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورئيساً للدائرة الاقتصادية، ثم في يناير (كانون الثاني) 2023 عيّنه الرئيس الفلسطيني بمنصب محافظ دولة فلسطين لدى الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي بدولة الكويت، كما تولى منصب محافظ دولة فلسطين لدى صندوق النقد العربي.

ووفق صندوق الاستثمار الفلسطيني، ساهم مصطفى منذ 2006 حتى تكليفه بتشكيل الحكومة في «مأسسة» الصندوق؛ ذلك أنه أسس عدة شركات كبرى؛ من أبرزها «الوطنية موبايل» (أوريدو فلسطين) عام 2008، ومجموعة عمار للاستثمار العقاري والسياحي عام 2009، وصندوق رسملة للأسهم الفلسطينية عام 2011، والإجارة الفلسطينية للتمويل الإسلامي عام 2013، وأسواق لإدارة الأصول عام 2014، ومصادر لتطوير الموارد الطبيعية ومشاريع البنية التحتية عام 2015، وعمار القدس عام 2018، وفلسطين لتوليد الطاقة، وسند للموارد الإنشائية، وغيرها.

ثم إنه عضو في عدة مؤسسات دولية ومحلية؛ من أبرزها «منتدى دافوس الاقتصادي العالمي»، ومجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ومجلس أمناء مؤسسة ياسر عرفات، وغيرها.

مواقف لمصطفى

في تصريحات له، قال مصطفى إن «السلطة الفلسطينية تستطيع القيام بما هو أفضل من حيث بناء مؤسسات أكثر كفاءة وحكم أكثر رشداً، حتى نتمكن من إعادة توحيد غزة والضفة الغربية». وعدّ أنه «إذا لم نتمكن من إزاحة الاحتلال، فلن تتمكن أي حكومة إصلاحية أو مؤسسات بعد إصلاحها من بناء نظام حكم جيد وناجح أو تطوير اقتصاد مناسب».

كذلك صرّح، يوم 17 يناير الماضي، بأن إعادة بناء المنازل وحدها في غزة ستحتاج إلى 15 مليار دولار، وقال إنه سيواصل التركيز على الجهود الإنسانية على المديين القصير والمتوسط، معرباً عن أمله في فتح حدود غزة وعقد مؤتمر لإعادة الإعمار.وردّاً على سؤال عن الدور المستقبلي الذي يتوقعه لحركة «حماس»، قال مصطفى إن «أفضل طريق للمُضي قدماً هو أن تكون (العملية) شاملة قدر الإمكان»، مضيفاً أنه يود أن يتّحد الفلسطينيون حول أجندة منظمة التحرير الفلسطينية.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
TT

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد الخريجي، وترأس الجانب الصيني نظيره نائب الوزير دنغ لي. وبحث الجانبان تطوير العلاقات الثنائية، مع مناقشة المستجدات التي تهم الرياض وبكين. يذكر أن العلاقات السعودية الصينية شهدت تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، إذ تعززت الشراكة بين البلدين على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية. وتعود العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية إلى عام 1990، عندما افتتحت سفارتا البلدين رسمياً في العاصمتين بكين والرياض. مع أن علاقات التعاون والتبادل التجاري بين البلدين بدأت قبل عقود. وعام 1979، وقّع أول اتفاق تجاري بينهما، واضعاً الأساس لعلاقات قوية مستمرة حتى يومنا هذا.

تُعدّ الصين اليوم الشريك التجاري الأكبر للمملكة العربية السعودية، وانعكست العلاقات المتنامية بين البلدين بشكل كبير على التعاون الاقتصادي والتجاري بينهما؛ إذ أسهمت في وصول حجم التبادل التجاري إلى أكثر من 100 مليار دولار أميركي في عام 2023. تستورد الصين النفط الخام من السعودية بشكل رئيسي، وتعدّ المملكة أكبر مورد للنفط إلى الصين، إذ تصدر ما يقرب من 1.7 مليون برميل يومياً. ولقد تجاوزت الاستثمارات الصينية في المملكة حاجز الـ55 مليار دولار. وبحسب تقرير لـ«edgemiddleeast»، ضخّت الصين 16.8 مليار دولار في المملكة في 2023 مقابل 1.5 مليار دولار ضختها خلال عام 2022، استناداً إلى بيانات بنك الإمارات دبي الوطني، وهي تغطي مشاريع في البنية التحتية والطاقة والصناعات البتروكيماوية. وفي المقابل، استثمرت المملكة في عدد من المشاريع داخل الصين، منها الاستثمارات في قطاعات التكنولوجيا والنقل. واستضافت الرياض أيضاً في شهر يونيو (حزيران) من هذا العام «مؤتمر الأعمال العربي الصيني» الذي استقطب أكثر من 3600 مشارك. وبعد أسبوعين فقط، أرسلت السعودية وفداً كبيراً بقيادة وزير الاقتصاد السعودي إلى مؤتمر «دافوس الصيفي» في الصين. وبالإضافة إلى هذا الزخم الحاصل، دعت الصين المملكة العربية السعودية كضيف شرف إلى «معرض لانتشو الصيني للاستثمار والتجارة» الذي أقيم من 7 إلى 10 يوليو (تموز) من هذا العام. وكانت وزارة الاستثمار السعودية حثّت الشركات على المشاركة بفاعلية في المعرض، والجناح السعودي المعنون «استثمر في السعودية». كذلك وقّعت السعودية والصين اتفاقيات متعددة لتعزيز التعاون في قطاع الطاقة، بما في ذلك مشاريع الطاقة المتجددة. وتسعى المملكة لتحقيق «رؤية 2030» التي تهدف إلى تقليص الاعتماد على النفط وتعزيز استخدام الطاقة المتجددة، في حين تسعى الصين إلى تأمين إمدادات الطاقة اللازمة لتنميتها الاقتصادية. وبالفعل، جرى أخيراً توقيع اتفاقية بين شركة «تي سي إل تشونغ هوان» لتكنولوجيا الطاقة المتجددة الصينية، وشركة توطين للطاقة المتجددة، وشركة «رؤية للصناعة» السعوديتين، لتأسيس شركة باستثمار مشترك، من شأنها دفع توطين إنتاج الرقائق الكهروضوئية في المملكة العربية السعودية. ووفقاً للاتفاقية، يبلغ إجمالي حجم الاستثمار في المشروع المشترك نحو 2.08 مليار دولار. التعاون السياسي والدبلوماسي تتعاون المملكة والصين على مستوى عالٍ في القضايا الدولية والإقليمية. وتستند العلاقات السياسية بين البلدين إلى احترام السيادة الوطنية والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية. كذلك تتبادل الدولتان الدعم في المحافل الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، ولقد لعبت الصين دوراً محوَرياً في الوساطة بين السعودية وإيران، ما أدى إلى تحقيق نوع من التوافق بين البلدين، أسهم في توطيد الاستقرار، وقلّل من حدة التوترات، وعزّز من الأمن الإقليمي. الزيارات الرسمية والقمم المعروف أنه في مارس (آذار) 2017، قام الملك سلمان بن عبد العزيز بزيارة رسمية للصين حيث التقى الرئيس الصيني شي جينبينغ. وخلال الزيارة، وُقّعت 14 اتفاقية ومذكرة تفاهم، تضمنت التعاون في مجالات الطاقة والاستثمارات والعلوم والتكنولوجيا. وفي وقت سابق، كان خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز قد زار الصين رسمياً عام 2006، كانت تلك الزيارة بمثابة نقطة تحوّل في تعزيز العلاقات الثنائية، وشملت مباحثات مع القيادة الصينية وشهدت توقيع اتفاقيات عدة في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار. كما زار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الصين في فبراير (شباط) 2019 كجزء من جولته الآسيوية. خلال هذه الزيارة، وقّعت 35 اتفاقية تعاون بين البلدين بقيمة تجاوزت 28 مليار دولار، وشملت مجالات النفط والطاقة المتجددة والبتروكيماويات والنقل. بعدها، في ديسمبر (كانون الأول) 2022، قام الرئيس الصيني شي جينبينغ بزيارة تاريخية إلى الرياض، حيث شارك في «قمة الرياض»، التي جمعت قادة دول مجلس التعاون الخليجي والصين. وتركّزت هذه القمة على تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية بين الجانبين، وخلالها وقّع العديد من الاتفاقيات في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا. من الزيارات البارزة الأخرى، زيارة وزير الخارجية الصيني إلى السعودية في مارس (آذار) 2021، حيث نوقش التعاون في مكافحة جائحة «كوفيد 19» وتعزيز العلاقات الاقتصادية،