سيد «الكرملين» القوي يعيد ترتيب أولويات الحرب والسلام

بوتين يدخل ولايته الرئاسية الخامسة في روسيا بتفويض شعبي واسع

تفويض كبير ... ومتوقع لسيد الكرملين (آ ف ب)
تفويض كبير ... ومتوقع لسيد الكرملين (آ ف ب)
TT

سيد «الكرملين» القوي يعيد ترتيب أولويات الحرب والسلام

تفويض كبير ... ومتوقع لسيد الكرملين (آ ف ب)
تفويض كبير ... ومتوقع لسيد الكرملين (آ ف ب)

لم يعد هناك أدنى شك في أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال تربّعه على عرش «الكرملين» لربع قرن كامل حتى الآن حمل - كما يقول باحثون روس - هاجسي التاريخ والجغرافيا، هاجس التاريخ برز في سعيه الحثيث منذ أطلق في نهاية ولايته الثانية عام 2008 مسار «الثأر من الغرب» لحجز مكانه على صفحات التاريخ إلى جانب اثنين من أبرز القياصرة الروس: المؤسس بطرس الأكبر والإمبراطورة الفاتحة كاترين الثانية. ولم تكن مجرد صدفة أن يكون مدخله إلى التاريخ شبه جزيرة القرم فقد سعى بطرس الأول جاهداً للسيطرة على هذه المنطقة والتمدد على البحر الأسود من خلالها ونجحت كاترين الثانية في ضم شبه الجزيرة للمرة الأولى عام 1783 لتغدو «روسية إلى الأبد» وفقاً للتعبير الذي تستخدمه بكثرة كتب التاريخ القديمة وخطابات الرئيس الحديثة. أيضاً هاجس الجغرافيا كان حاضراً بقوة إذ لا يمكن لروسيا أن تكون «إمبراطورية» دون أوكرانيا. هكذا رسمت حدود البلد في كل منعطفات التاريخ، عندما تخسر روسيا جوارها يتراجع نفوذها بقوة لتغدو دولة إقليمية كبيرة فقط، وليس إمبراطورية عظمى.

قد يكون فلاديمير بوتين، الذي حوّل حرب أوكرانيا إلى مدخل لاستعادة كل أمجاد الماضي، يدرك جيداً، وهو يقف على أعتاب ولاية رئاسية خامسة ستجعله أطول الحكام عمراً على عرش الكرملين منذ قرنين، مغزى العبارة الروسية الدارجة التي تقول إن العالم «قد لا يحب روسيا، ولكنه يجب أن يهابها».

هذه الفلسفة تختصر رؤية الزعيم الروسي لمكانة بلاده وتموضعها في العالم المعاصر، لذا كان لا بد أن يكون الاستحقاق الانتخابي الذي انتهى للتو، حاسماً.

نتيجة حاسمة

حاسماً ليس لجهة فوز بوتين المنتظر والمحسوم سلفاً، بل لجهة تأكيد مكانة وحجم حضور القيصر الروسي الجديد داخلياً وخارجياً. وبالتالي، كان الأهم من الفوز في الانتخابات أن تبلغ نسب الإقبال على الصناديق هذا الحجم الخرافي بالنسبة لبلد أوروبي كبير.

أكثر من 77 في المائة شاركوا في التصويت، وأكثر من 87 في المائة منحوا «الزعيم الأوحد» أصواتهم دون أي شعور بالملل أو الرغبة بالتغيير، بعد مرور ربع قرن على حكمه.

هذا كان الهدف المرجو من الانتخابات، أي أن تتحول إلى استفتاء شعبي كامل؛ ليس على شخص الرئيس فحسب، بل أيضاً على سياساته كلها على الصعيدين الداخلي والخارجي، بما في ذلك على قراراته الصعبة والمؤلمة أحياناً... وعلى رأسها قرار الحرب في أوكرانيا.

والنتيجة المنطقية لذلك، أن بوتين حصل عملياً على تفويض جديد يقوم على شبه إجماع وطني، وهو ما يطلق يديه تماماً لمواصلة نهجه وسياساته، مسلّحاً بجبهة داخلية متماسكة وموحدة وصلبة.

لقد أظهرت الاستحقاقات التي مرت بها روسيا، خلال العامين الأخيرين، أن بوتين بنى رهانات دقيقة إلى حد بعيد. صحيح أن وضع الجبهات لم يكن مرضياً، خلال العام الأول من الحرب في أوكرانيا، وصحيح أن خطط الحسم السريع وإجبار «العدو» على الاستسلام، لم تتحقق وفقاً للخطط الموضوعة، التي قامت على تكرار تجربة اقتطاع أجزاء من جورجيا في عام 2008، ووضع أوروبا والولايات المتحدة أمام أمر واقع جيوسياسي جديد، لكن كل هذا ليس مهماً بالقياس إلى ثبات روسيا من الداخل.

لم تقع الانهيارات الكبرى التي توقّعها الغرب.

ولم تنجح العقوبات في تقويض الاقتصاد الروسي.

وفشلت المعارضة في لعب دور مهم لضرب روسيا من الداخل.

وحتى لم تشهد روسيا انشقاقات كبرى يمكن أن تهزّ صورتها وتزعزع قيادتها، على الرغم من فرار مليون شخص غالبيتهم من أصحاب رؤوس الأموال ومن العقول الفذة في مجالات مختلفة.

على الرغم من ذلك كله، بقيت روسيا «صامدة»، وظل اقتصادها متماسكاً، وذهبت، في منتصف مارس (آذار)، لتجدد البيعة للزعيم القوي.

كيف سيستثمر النصر؟

ولكن ماذا يمكن أن يفعل بوتين بهذا النصر الكبير؟

على الصعيد الداخلي، يضع خبراء احتمالات عدة لتحرك الكرملين، خلال المرحلة المقبلة، كلها تصب في اتجاه البناء على تعزيز تماسك الجبهة الداخلية، ومواجهة أي محاولات لزعزعة الوضع، وهذا حتى لو اضطر بوتين إلى اتخاذ قرارات غير شعبية مثل إعلان تعبئة عسكرية جديدة لخدمة الجبهة.

لا يستبعد معارضون أن يعمد الرئيس، المُعاد انتخابه مجدداً، إلى تعزيز قبضته بقوة باتجاه قمع أي محاولات لإعادة تنظيم صفوف المعارضة أو دفع نشاطاتها، انطلاقاً من فكرة أن الكرملين حرص على تحاشي تصعيد معركته داخلياً قبل الانتخابات، لتجنب وقوع أعمال احتجاجية كبرى. إلا أنه الآن سيجد الفرصة، مع التفويض الشعبي الواسع، للنيل من خصومه الداخليين، وأيضاً منع هؤلاء من عرقلة تحركاته وسياساته على الصعيد الخارجي.

في هذا الإطار يضع هؤلاء تلويح بوتين القوي بأنه سيصار إلى التعامل مع «الخونة» وفقاً لقوانين الحرب؛ أي أن الأصوات المعارضة ستلقى رد فعل مباشراً وقوياً، «كما لو كانت في الميدان»، وفقاً لتعبير أطلقه الرئيس الروسي أخيراً.

لكن هذا المدخل الذي تخشى منه المعارضة لا يبدو جديداً، فبوتين لم يتساهل في أي وقت مع معارضيه، ثم إنه حالياً في أقوى حالاته داخلياً، ولا يحتاج لتدابير إضافية من هذا النوع. وفضلاً عن ذلك كله، فإن بوتين يحتاج إلى مرحلة الهدوء الداخلي لدفع خططه الطموحة التي أعلن عنها، في رسالته أمام البرلمان، قبل أسابيع من الانتخابات. وحينذاك جرى الحديث عن خطط استراتيجية وطنية للنهوض بالقطاعات الصحية والتعليمية والبُنى التحتية والتطوير العسكري ومشاريع عملاقة لرعاية الأمومة والطفل، في مواجهة الأزمة الديموغرافية المستفحلة.

توقع تعديلات حكومية

في هذا السياق، يرى خبراء أن الرئيس بوتين قد يُجري مناقلات وتعديلات في الهياكل الحكومية لدفع برامجه الموضوعة. بيد أنه في الوقت نفسه، لا توجد مؤشرات إلى أن هذه الخطط قد تطول مواقع رئيسة يشغلها أصدقاء الرئيس وحلفاؤه الكبار في وزارات ومواقع حساسة، مثل وزارتي الدفاع والخارجية، وعدد من الشركات الوطنية الكبرى.

أما على صعيد الجبهة في أوكرانيا، فثمة توقعات متشائمة تماماً تقوم على أن بوتين سيعمد إلى استخدام التفويض الشعبي الواسع لتوسيع حجم معركته، ومحاولة إحداث اختراقات كبرى. وفي هذا السياق، من المهم التذكير بأن واحداً من التصريحات الأولى للرئيس، بعد فوزه، كان صادماً في مضمونه، إذ إنه توعّد الأوكرانيين بمواصلة «مفرمة اللحم»، وقال مخاطباً أنصاره: «إذا كانوا (الأوكرانيون) يحبون ذلك بهذه الطريقة، فمن حيث المبدأ يناسبنا؛ لهذا السبب يهاجمون دون تفكير، إنها مثل مفرمة اللحم بالنسبة إليهم، وذلك يناسبنا... دعهم يحاولوا».

وزاد أن بلاده «منفتحة للنظر في أي قضايا مطروحة، ولا نستبعد إنشاء مناطق عازلة لضمان أمن بلادنا». وشكلت هذه العبارة إشارة مهمة إلى توسيع أهداف العمليات الروسية، ولا سيما أنها جاءت رداً على سؤال حول احتمال انتقال العملية العسكرية إلى مدينة خاركيف؛ في محاولة للسيطرة على المناطق المحاذية للحدود الروسية. وبالمناسبة، فإن مطلب توسيع «جغرافيا المعركة» يلقى تأييداً متزايداً من جانب «الصقور» الذين يحيطون ببوتين على المستويين السياسي والعسكري.

لا يستبعد معارضون أن يعمد بوتين إلى تعزيز قبضته بقوة ضد إعادة تنظيم صفوف المعارضة

بوتين يتكلم بعد إغلاق مراكز الاقتراع (رويترز)

التقدم أعمق داخل أراضي أوكرانيا

إلى جانب هذا، يرى خبراء أن الرئيس بوتين قد يواصل العمل للتقدم نحو الهدف المعلَن للعمليات العسكرية؛ وهو إنجاز «تحرير» كل أراضي مدن دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزوباروجيا ومحيطها، لكن الأهداف المباشرة الأكثر ترجيحاً هي دونيتسك التي تسيطر موسكو، بعد مرور سنتين على الحرب، على نحو 60 في المائة من أراضيها فقط، لذلك يضع الخبراء هدفاً أولياً استكمال «تحريرها» ومدن كراسنوجوروفكا وتشاسوف وسيفيرسك وأوغليدار.

من جهة أخرى، بين «السيناريوهات» المطروحة تفجير معركة جديدة نوعياً باتجاه مدينتي نيكولاييف وأوديسا، تهدف، وفقاً لمصادر عسكرية، إلى فرض سيطرة مطلقة على الجزء الجنوبي من أوكرانيا، وحرمان البلاد بذلك من إطلالة على البحر الأسود، بعد حرمانها سابقاً من النفوذ في بحر آزوف، وتحويله إلى بحيرة روسية مغلقة.

هذا الهدف ستكون له أهمية استراتيجية أخرى، لجهة فتح الطريق للوصول إلى منطقة بريدنوستروفيه الانفصالية في مولدوفا، التي تتمركز فيها قوات روسية تدعم الانفصاليين. وترى أوساط روسية أن معركة بريدنوستروفيه «قد اقتربت»، ولا يخفي مسؤولون عسكريون أن هذا الهدف مطروح على الأجندة، وبعضهم يصف الإقليم المولدافي بأنه «الدونباس الجديدة».

إلا أن شروط هذا التطور مرتبطة، بالدرجة الأولى، بحجم الاستعدادات الأوكرانية، وطبيعة الإمدادات الخارجية لهذا البلد من المساعدات العسكرية، فضلاً عن الوضع على الجبهات الأخرى.

«السيناريوهات» التوسعية الخاصة بتحرك بوتين باتت محتملة في ضوء تسلحه بالتفويض الشعبي الواسع الذي يجعله يمسك مفاتيح قراري الحرب وتوسيعها، أو السلم بشروطه. غير أن الاحتمالات الواقعية المطروحة تبدو مرتبطة، بالدرجة الأولى، بمسار المعارك، ومستوى قدرة الغرب على تجاوز خلافاته حول تسليح أوكرانيا، وانتهاج سياسة موحدة تفتح الطريق أمام توسيع المعركة، أو على العكس من ذلك، تجميد الصراع ومحاولة تلمس آفاق للتسوية السياسية.

وهنا يبرز احتمال أول بأن تشهد الجبهات تصعيداً تدريجياً قد يصل إلى ذروته في نهاية الصيف.

وفي المقابل، يقوم الاحتمال الثاني على فكرة أن الطرفين الروسي والأوكراني وصلا إلى خط النهاية، بالنسبة للقدرة على الحسم العسكري. وبالتالي، يمكن لبوتين القوي داخلياً، والذي حقق انتصارات مهمة ميدانياً، خلال الفترة الأخيرة، أن يطلق مسار إعادة فتح قنوات حوار مع الغرب، وإن كانت غير مباشرة، في البداية. ويستند هذا الاحتمال إلى تكرار الكرملين، في الآونة الأخيرة، تأكيد استعداده لحوار مفتوح مع الغرب، على أن يقوم على وضع كل الملفات الخلافية في سلة واحدة، والبدء بمفاوضات تفضي إلى تسوية المشاكل المعقدة بشكل متواز.

أما الاحتمال الثالث - أو الطريق الثالث - أمام بوتين في حال تجنب إطلاق عملية توسيع المعارك، وفشل، في الوقت نفسه، في دفع الغرب إلى إطلاق مفاوضات جادة، فيقوم على «تجميد الجبهات» عند خطوط التماس الحالية بانتظار نضوج الظروف الملائمة لفتح الحوار السياسي.

فيما يخص موسكو، جرى الإعلان عن وضع خطط واسعة لتعزيز الجبهات على طول خطوط التماس، لمنع الجانب الأوكراني من إحداث ثغرات فيها، ويمكن لمثل هذا «السيناريو» أن يعفي بوتين من خطوات غير شعبية؛ مثل الإعلان عن تعبئة عسكرية جديدة، ويصرفه إلى تعزيز الوضع الداخلي، وتقوية الاقتصاد في مواجهة الضغوط الغربية، وتمتين التعاون مع الحلفاء.لكن هذا الأمر مشروط بوقف تقدّم الطرف الآخر أيضاً، والامتناع عن تقديم رُزم واسعة من الأسلحة والمعدات البعيدة المدى التي يمكن أن تؤدي إلى الإخلال في موازين القوى القائمة حالياً.


مقالات ذات صلة

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع غالانت (رويترز)

أبرز «وزراء الحرب» في تاريخ إسرائيل

برزت طوال تاريخ إسرائيل، منذ تأسيسها عام 1948، أسماء عدد من وزراء الدفاع؛ لارتباطهم بحروب كبيرة في المنطقة، لعلّ أشهرهم في الشارع العربي موشيه ديان

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع يسرائيل كاتس... «البلدوزر» المدني المولج بمهمة استعادة «محتجزي» غزة

يسرائيل كاتس... «البلدوزر» المدني المولج بمهمة استعادة «محتجزي» غزة

راهن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على قدرة وزير دفاعه الجديد يسرائيل كاتس، الذي يصفه بـ«البلدوزر»، في تحقيق ما يراه «انتصاراً حاسماً» في غزة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)

أمن الأردن يواجه خطر تصعيد المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية

يحاول الأردن تحييد أجوائه وأراضيه بعيداً عن التصعيد الإسرائيلي - الإيراني، الممتد عبر جبهتي جنوب لبنان وشمال غزة، ليضاعف مستويات القلق الأمني مراقبة خطر الضربات

محمد خير الرواشدة (عمّان)
حصاد الأسبوع إيشيبا

شيغيرو إيشيبا... رئيس وزراء اليابان الجديد يعدّ العدة لتجاوز الهزيمة الانتخابية الأخيرة

الأحداث المتلاحقة والمتسارعة في اليابان شرعت أخيراً الأبواب على كل الاحتمالات، ولا سيما في أعقاب حدوث الهزيمة الانتخابية التي كانت مرتقبة للحزب الديمقراطي

«الشرق الأوسط» (لندن)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)
TT

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ، بل وإخفاقات وانتكاسات، في خضم صراعات جيوسياسية متحركة وأجواء شديدة التأزم في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. ماذا، إذن، حلّ بالسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت مشاركتها الفاعلة داخل المجتمع الدولي تعبيراً عن صوت «حر» غير منحاز حتى تتراجع بهذا الشكل؟

جرى الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن «تقليد للدبلوماسية الفرنسية» هو النهج الذي اختاره قادة فرنسا لإدارة علاقاتهم الخارجية مع دول العالم، ولقد اتسمّ هذا النهج بـ«الاتزان» و«التميز»، وكان بالفعل حاضراً بقوة في المحافل الدولية، وبالأخص، في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي.

نهجا ديغول وميتران

ذلك ما عُرف فيما بعد بـ«سياسة فرنسا العربية» التي رسم الرئيس التاريخي الأسبق الجنرال شارل ديغول ملامحها في خطاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 في أعقاب نكسة يونيو (حزيران) 1967، ومعها اعتمد ديغول أساساً الانفتاح على العالم العربي وتوطيد العلاقات بينه وبين فرنسا على مختلف الصعد.

في المقابل، منذ تلك الفترة طغى على العلاقات الفرنسية - الإسرائيلية جو من البرود إلى غاية وصول اليسار إلى الحكم في حقبة الثمانينات، فيومذاك أعاد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران «تفعيل العلاقات» عام 1982، منتهجاً سياسة أكثر انحيازاً لإسرائيل حتى لُقّب بـ«صديق إسرائيل الكبير».

ولاحقاً، كانت حادثة رشق الطلاب الفلسطينيين لرئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان بالحجارة عام 2000، بعد مشاهد الاستقبال الحار الذي لقيه الرئيس الراحل جاك شيراك في شوارع رام الله عام 1996، تجسيداً قوياً للاعتقاد السائد بأن اليمين الفرنسي أكثر مساندة وتأييد للمواقف العربية من اليسار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

ضعف الإرادة السياسية

هنا يوضح باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) ومؤلف كتاب «هل يسُمح بانتقاد إسرائيل؟» الأمر، فيقول: «على الرغم مما قيل عن اليسار وزعيمه ميتران، الحقيقة هي أن الإرادة السياسية للتأثير في الأوضاع كانت قوية في تلك الفترة من تاريخ فرنسا». ويضيف: «علينا ألا ننسى أن زعيم الاشتراكيين كان أول من ذكّر في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1982 بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى استقباله الزعيم الراحل ياسر عرفات في باريس عام 1989».

وزيرة الخارجية الأسبق كاترين كولونا

لا فوارق ظاهرة اليوم

بونيفاس يتابع من ثم «اليوم لا نكاد نرى فارقاً بين اليمين التقليدي (الجمهوري أو الديغولي) واليسار الاشتراكي، علاوة على أن ديناميكية السياسة الداخلية تغيّرت بظهور حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يضم عناصر من اليمين واليسار والمجتمع المدني، ومعظمهم يفتقر إلى الخبرة السياسية، ناهيك عن ضعف الروح النقدية، بما في ذلك عند الجهات الفاعلة في الدبلوماسية... التي لم تعد تعبّر كما كان الوضع في الماضي عن مواقف فرنسا باعتبارها امتداداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان والحريات».

جدير بالذكر، أن الإعلام الفرنسي كان قد عّلق مطوّلاً على «تواضع الخبرة السياسة» لوزراء خارجية ماكرون، مثل ستيفان سيجورنيه، الذي فضح الإعلام أخطاءه اللغوية الكثيرة وقلة إتقانه اللغة الإنجليزية. وما يتّضح اليوم من خلال تداعيات العدوان على غزة ولبنان هو أن الأصوات التي تناهض العدوان على غزة ولبنان لا تنتمي إلى اليمين الجمهوري، بل إلى أقصى اليسار الذي نظّم حركات احتجاج واسعة في البرلمان والشارع للضغط على الرئيس ماكرون من أجل التدخل.

وزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه

هذا الأمر أكدّه رونو جيرار، الإعلامي المختص في السياسة الخارجية، الذي ذكّر أن السياسة الخارجية الفرنسية «فقدت استقلاليتها وفرادتها مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي - وهو آخر من مثّل اليمين الجمهوري في السلطة –». ويشرح: «حصل هذا حين قرّر ساركوزي إعادة فرنسا إلى المنظمة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 2009، ثم المشاركة في التدخل العسكري في ليبيا. وكانت هاتان الخطوتان خطيئتين كبريين لأنهما وضعتا حداً للتقليد الديغولي الجمهوري الذي يقضي بأن تحترم فرنسا جميع التحالفات، لكن من دون التماهي مع الولايات المتحدة، ذلك ملخصه في العبارة الشهيرة (حليفة... ولكن غير منحازة)...».

وهنا يضيف الباحث توماس غومارت، مدير معهد العلاقات الدولية (إيفري): «لنكن واقعيين، صوتنا ما عاد مسموعاً كما كان الحال في السابق، والشعور بأن المجتمع الدولي عاجز أمام الهيمنة الأميركية ملأ النخب السياسة بالتشاؤم، وبالتالي غدت سبل الضغط المتاحة لدينا اليوم محدودة».

ماكرون: سياسة خارجية متناقضة...بالنسبة للرئيس ماكرون، فإنه فور وصوله إلى الحكم بدأ في تقديم الخطوط العريضة لسياسته الخارجية والتوجهات الجديدة للدبلوماسية الفرنسية، حين أجرى لقاءً صحافياً مع ثمانٍ من كبريات الجرائد والمجلات الأوروبية («لوفيغارو» الفرنسية، و«لوسوار» البلجيكية، و«لو تون» السويسرية، و«الغارديان» البريطانية، و«سودويتشه تسايتونغ» الألمانية، و«كورييري ديلا سيرا» الإيطالية، و«إل باييس» الإسبانية و«غازيتا فيبورتا» البولندية). وفي هذا اللقاء أكد ماكرون أن أولوية سياسته الخارجية محاربة «الإرهاب الإسلامي»، والتنسيق مع جميع القوى الكبرى من أجل ذلك.

وزير الخارجية الحالي جان نويل بارو

ثم، في جولته الأولى لأفريقيا أعلن في «خطاب واغادوغو» ببوركينا فاسو (مايو/أيار 2017) أن فرنسا ستسعى جاهدة للتعاون مع الدول الأفريقية في إطار شراكة متكافئة، كما ستكون حاضرة للمساهمة في السلام كـ«رمانة» لميزان القوى العالمية؛ ما رفع بعض الآمال في أن تكون الحقبة الرئاسية لماكرون أفضل من غيرها، لا سيما، وأن طبيعة الحكم (الرئاسي) في فرنسا تجعل من الرئيس المسؤول الأول والأخير عن السياسة الخارجية.

وحقاً، كثّف الرئيس الفرنسي من حراكه الدبلوماسي على مسارات عدة، كما ضاعف بكثير من الحماسة المبادرات والتصريحات الطموحة، لكنها بمعظمها كانت متناقضة، وتفتقد المنهجية والرؤية الواضحة... وفق بعض التقارير. جيرار جيرار (الإعلامي في «لوفيغارو») يعيد إلى الأذهان أن ماكرون كان متناقض المواقف في غير مناسبة، منها «حين حاول أولاً التفاوض مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين بخصوص الحرب في أوكرانيا، ثم تحوّل متبنياً لهجة عدائية صريحة إلى حد التهديد بإرسال قوات مسلّحة للدفاع عن أوكرانيا... ما أثار حفيظة الفرنسيين والشركاء الأوروبيين». وأردف جيرار: «وكأن هذا لم يكن كافياً، طلب الرئيس ماكرون المشاركة في قمة (بريكس) مع أن الكّل يعلم بأنها فكرة بوتين. فهل كان يعتقد فعلاً أن الدول التي تجمّعت في هذه المنظمة للتحّرر من الهيمنة الغربية تريد أن تلتقي به أو تصغي لما يقوله؟».

سياسة باريس الأفريقية

عودة إلى الشأن الأفريقي، بعد الآمال الكبيرة التي أثارها «خطاب واغادوغو» عام 2017 بتصحيح صورة «فرنسا الاستعمارية» والتعاون مع الأفارقة كشركاء، جاءت خيبات الأمل. ففي المغرب العربي، أولاً، فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر في سياق جيوسياسي كثير التقلبات. ثم مع باقي الدول فشلت أيضاً في التخلص من «صورة القوة الاستعمارية السابقة» بسبب أخطاء عدّة ارتكبها ماكرون، أولها احتكاره جميع ملفات السياسة الخارجية، وهو ما لخصّته مجلة الـ«موند أفريك» في مقال بعنوان «كاترين كولونا خيبة أمل أفريقية» بالعبارة التالية «للأسف السيدة كولونا ودبلوماسيوها لم يتمكنوا من التأثير بسبب قرارات الإليزيه العديمة المعنى...».

وهنا، كما ذكر أنطوان غلاسير، الباحث المختص في الشؤون الأفريقية، على موقعه على منّصة «يوتيوب»: «حين تولى ماكرون زمام السلطة، وعد الدول الأفريقية بقطيعة نهائية مع الماضي وبتوازن في العلاقات، لكن ما حدث وما قيل أكد استمرار الممارسات القديمة، بدايةً مع المماطلة في سحب الجيوش الفرنسية من مالي، ثم عبر التصريحات الاستفزازية بخصوص الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأكثر منها... التلويح باستعمال قوات «الإيكواس/ السيدياو» (المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا) للتدخل في النيجر، ثم التراجع عن تلك التصريحات».

وحسب غلاسير، كان على ماكرون أن يلتزم الصمت: «فبأي صفة يقرّ ما هو شرعي وما هو غير شرعي؟». وكل هذه الأخطاء السياسية كرَّست الانحدار السياسي لماكرون وانكماش الدور الفرنسي في أفريقيا.

الشرق الأوسط: حصيلة هزيلة...

أما في الشرق الأوسط، وخلال ولايتين رئاسيتين وسبع سنوات من تولي ماكرون السلطة، ثمة شبه إجماع على أن الإخفاق كان سيد الموقف في مساعي السلام التي حاولت فرنسا إطلاقها والإشراف عليها.

في لبنان، الذي تجمعه بفرنسا روابط تاريخية وثقافية قوية، لم تكن الإرادة ولا حسن النية هما المشكلة عند ماكرون. إذ كان أول المسؤولين العالميين تحركاً، حين زار لبنان بعد تفجير ميناء بيروت عام 2022، ووعد بإصلاحات سياسية داخلية لإخراج البلاد من الأزمة، لكن وعوده لم تتجسد على أرض الواقع. وفي موضوع بعنوان «ماكرون مسؤول عن تدهور الاوضاع في لبنان» نقلت صحيفة «كورييه أنترناتيول» عن نظيرتها الأميركية «الفورين بوليسي» تحليلاً يقول التالي إن «إحجام فرنسا عن محاسبة النخب السياسية (اللبنانية) بحزم، والاكتفاء بمطالبتهم باتخاذ إجراءات كان تصرفاً ساذجاً بشكل مربك. فبعد أشهر طويلة من التهديد بفرض عقوبات على الشخصيات المسؤولة عن الجمود السياسي، أعلنت باريس أنها ستفرض قيوداً على دخول الأراضي الفرنسية، لكنها كانت خفيفة جداً لدرجة انها لم تؤثر على أحد».

وبالفعل، لم تتمكّن فرنسا - السلطة الانتدابية السابقة في لبنان - من تحقيق أي اختراق على خط أزمات البلد الذي يعاني انقسامات سياسية وطائفية عميقة حالت حتى الآن دون انتخاب رئيس للجمهورية على الرغم من شغور المنصب منذ سنتين.

وللعلم، كانت تقارير إعلامية كثيرة قد نشرت شهادات لمقرّبين من محيط جان إيف لودريان، المبعوث الخاص للبنان، دافعوا فيها عن نشاطه وتنقلاته الستّة إلى بيروت، بحجة «أن الدبلوماسية تتطلب وقتاً»، وأن النتائج كانت ستظهر لولا ظروف الحرب في غزة التي خلطت كل الأوراق. والمصادر ذاتها لم تتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى الأطراف اللبنانية، معتبرة أن «الجمود السياسي مسؤولية اللبنانيين».

أيضاً، انتقدت أنياس لوفالوا، الباحثة في معهد الأبحاث والدراسات حول دول المتوسط والشرق الأوسط، «عجز الدبلوماسية الفرنسية عن إسماع صوتها مقابل تنامي النفوذ الأميركي في بلاد الأرز». ورأت أن السبب يعود إلى المنهجية التي يتبعها ماكرون الذي احتكر منذ البداية كل الملفات، ثم ضاع في تفاصيلها بسبب نزعته إلى السيطرة على كل شيء ورفضه الاستعانة بخبرة الدبلوماسيين المحنّكين.

الموقف الفرنسي من العدوان على غزة أيضاً اتسم بالعديد من التناقضات. وبعدما ظّل في حالة جمود لأشهر طويلة رغم مشاهد القتل والدمار، تحرّك في الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة من التصريحات أطلقها الرئيس ماكرون نتجت منها مشاحنات كلامية شديدة اللّهجة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتهت بتحميل ماكرون مسؤولية التصريحات لبعض الوزراء «الذين نقلوا تصريحات مزيفة...» و«لصحافيين كرّروها دون أن يتأكدوا من صحتّها...». هذا الموقف الذي اعتبره البعض تهرّباً من المواجهة يعكس العجز التي يميز حالياً الموقف الفرنسي. وهنا، تمنى السفير السابق جيرار آرو لو أن ماكرون «التزم الصمت... أو التكلم بالتنسيق مع الشركاء الأوربيين كي يكون لمبادرته تأثير أكبر».

«صورة فرنسا»... مشكلة!

في أي حال، يرى رونو جيرار أن صوت فرنسا ما عاد مسموعاً في المحافل الدولية «لأنها لم تعد تثير الإعجاب، ولم تعد ذلك النموذج الذي يعكس الإشعاع الثقافي والتطور الاقتصادي وحقوق الإنسان». ويشرح على صفحات مجلة «كونفلي جيو بوليتك» قائلاً: «عندما تكون فرنسا وراء فكرة معايير ماستريخت بينما تعُد أكثر من 3000 مليار يورو من الديون و5 ملايين عاطل عن العمل، فلن يكون لصوتها تأثير كبير... نحن البلد الأوروبي الذي فيه أعلى نسبة ضرائب حكوماته لم تعد قادرة على توفير الحّد الأدنى لمواطنيها». ثم يذكّر بأن شارل ديغول اهتم أولاً بأوضاع فرنسا الداخلية، وبالأخص الوضع الاقتصادي، قبل أن يبدأ جولته الأولى خارج البلد عام 1964.

أما السفيرة السابقة سيلفي بيرمان، فرأت خلال حوار مع «لو فيغارو»، تحت عنوان «هل ما زالت فرنسا تملك الأدوات لتحقيق طموحها؟»، أن التوتر السياسي الداخلي أثَّر سلباً على صورة فرنسا في العالم. وأعطت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات المتواصلة العالم الانطباع بأننا فقدنا السيطرة على الأوضاع، فكيف نقنع غيرنا إن لم نعد نمثل القدوة الحسنة؟ في المغرب العربي فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر