تراكم الديون يثقل كاهل اليمنيين ويقود الآلاف إلى السجون

وسط استمرار انقطاع الرواتب واتساع البطالة

 طفلات ونساء دفعتهن الحاجة إلى الاصطفاف أمام جمعية للحصول على طعام في صنعاء (إ.ب.أ)
 طفلات ونساء دفعتهن الحاجة إلى الاصطفاف أمام جمعية للحصول على طعام في صنعاء (إ.ب.أ)
TT

تراكم الديون يثقل كاهل اليمنيين ويقود الآلاف إلى السجون

 طفلات ونساء دفعتهن الحاجة إلى الاصطفاف أمام جمعية للحصول على طعام في صنعاء (إ.ب.أ)
 طفلات ونساء دفعتهن الحاجة إلى الاصطفاف أمام جمعية للحصول على طعام في صنعاء (إ.ب.أ)

بالتوازي مع أزمات اقتصادية وإنسانية خانقة يكابدها ملايين اليمنيين بسبب استمرار الصراع الدائر في البلد منذ تسع سنوات، تعاني شريحة واسعة من السكان بينهم موظفون حكوميون ضغوطاً مالية كبيرة بسبب كثرة الديون المتراكمة عليهم للغير؛ الأمر الذي جعل الآلاف منهم عرضة للسجن أو للخروج الإجباري إلى الشوارع لطلب العون المالي.

ويلجأ إدريس، وهو موظف حكومي سابق، إلى الوقوف أغلب الأيام عقب الصلوات في المساجد مرغماً ليمد يده لجموع المصلين طالباً تقديم العون والمساعدة المادية حتى يتسنى له الإيفاء بما عليه من ديون للغير.

طفلة في حي بصنعاء تبحث عن طعام وسط المخلفات (الشرق الأوسط)

يوضح إدريس في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أن انقطاع راتبه منذ سنوات وفشله في إيجاد عمل بديل، اضطره إلى اللجوء إلى اقتراض بعض المال ومواد غذائية ومستلزمات أخرى من لسد رمقه وأسرته المكونة من أربعة أطفال، بعد أن أصبحت بسبب قساوة الظروف تعتمد بنسبة كبيرة على الديون كغيرها من العائلات في اليمن لمواجهة متطلبات العيش.

وتقدر الأموال المتراكمة التي اقترضها ذلك الموظف الحكومي من الغير بنحو مليون و350 ألف ريال يمني، (الدولار يساوي 530 ريالاً) ومنها، كما يقول، نحو 600 ألف ريال مديونية سنة كاملة لإيجار منزل يقطنه في حي دارس شمال العاصمة، بواقع 50 ألف ريال شهرياً، بينما بقية الديون تعود بعضها إلى ملاك بقالات ومخابز وصيدليات، وبعض الجيران والأهل والأصدقاء.

وإلى جانب إدريس، يرزح آلاف اليمنيين من مختلف الشرائح والفئات منذ سنوات أعقبت الانقلاب والحرب، تحت وطأة ديون متراكمة أثقلت كاهلهم للتعامل مع الاحتياجات المعيشية والغذائية والخدمية، بعد أن تقطعت بهم السبل نتيجة تدهور الأوضاع وانقطاع الرواتب وتفشي الجوع والفقر والبطالة.

ويشكو كثير من السكان في العاصمة اليمنية المختطفة صنعاء ومدن أخرى خاضعة للحوثيين من كثرة ديونهم للغير، وعجزهم عن تسديد ولو حتى الجزء اليسير منها نتيجة ظروفهم المادية الحرجة التي رافقها انعدام تام في فرص العمل وتفشي رقعة البطالة والفقر.

أجبرت قسوة الحياة الأطفال في اليمن على العمل لمساعدة عائلاتهم (إكس)

ويشير وهيب وهو موظف تربوي إلى التصاعد المستمر في أوضاع السكان المادية والنفسية والمعيشية، التي يرافقها بروز من الأزمات الجديدة والتصعيدات العسكرية، خصوصاً تلك الجارية حالياً في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن، وما قد يشكله ذلك من انعكاس سلبي على المعيشة.

قضايا في المحاكم

بفعل تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لليمنيين، نتيجة الانقلاب والحرب، كشفت مصادر قضائية وأخرى حقوقية في صنعاء لـ«الشرق الأوسط»، عن وجود ارتفاع ملحوظ في عدد القضايا المتعلقة بالديون والمنظورة بشكل غير مسبوق أمام مختلف المحاكم والنيابات في صنعاء ومدن أخرى خاضعة لسيطرة الحوثيين.

وتكتظ ساحات وأروقة عشرات المحاكم اليمنية في الوقت الحالي بأعداد كبيرة من المواطنين اليمنيين الذين تقدموا بشكاوى منفصلة ضد آخرين طالبين منهم إعادة أموالهم المديونة لديهم، في حين تواصل عديد من تلك المؤسسات القضائية البت فيما أمكن من تلك القضايا. وفقاً المصادر ذاتها.

وشكت أم مهند، وهي تقطن في حي شعبي وسط صنعاء وأم لطفلين، لـ«الشرق الأوسط»، من استمرار حجز زوجها منذ أكثر من شهرين منصرمين في السجن المركزي بصنعاء على خلفية شكوى تقدم بها ابن عمه يطالبه بتسديد مبلغ مالي أقرضه إياه قبل فترة وعجز عن تسديده بسبب ظروفه المادية الصعبة.

طفلة تساعد في جلب الماء لأسرتها بعد عودتها من المدرسة في ضواحي صنعاء (إ.ب.أ)

ومنذ احتجاز زوج أم مهند تعجز المرأة المغلوبة على أمرها عن توفير حتى قيمة رغيف الخبز لسد رمق أطفالها. كما تعتاش يومياً من بعض الطعام المقدم لها من جيرانها بذات الحي الذي تقطنه بصنعاء.

وفي حين تناشد أم مهند الميسورين وفاعلي الخير لمساعدة زوجها لتسديد ما عليه من ديون، كانت تقارير حقوقية كشفت على مدى سنوات ماضية عن احتجاز المئات من اليمنيين بشكل يومي في سجون صنعاء ومدن أخرى، بسبب عجزهم عن سداد الديون للغير.


مقالات ذات صلة

«المركزي اليمني» يواجه استحواذ الانقلابيين على شركتين دوائيتين

العالم العربي إجراءات ومساعٍ حوثية لاستعادة الأوراق النقدية القديمة التي أقر البنك المركزي إلغاءها (أرشيفية- رويترز)

«المركزي اليمني» يواجه استحواذ الانقلابيين على شركتين دوائيتين

أصدر البنك المركزي اليمني قرارين ألغى أولهما تراخيص خمس شركات صرافة وقضى الثاني بعدم التعامل المالي مع الإدارتين اللتين استحدثهما الحوثيون لشركتين دوائيتين.

وضاح الجليل (عدن)
العالم العربي مقاتلة أميركية على متن حاملة الطائرات «أيزنهاور» (رويترز)

ضربات أميركية تستبق هجمات حوثية في البحر الأحمر

استبق الجيش الأميركي هجمات حوثية في البحر الأحمر ضد السفن، وقال إنه دمّر زورقين مسيّرين وموقع رادار، وذلك في سياق الضربات الدفاعية التي تقودها واشنطن.

علي ربيع (عدن)
العالم العربي حوثيون يغلقون متجراً في صنعاء لعدم استجابة مالكه لدفع جبايات (إكس)

حملات تعسف استهدفت 1161 منشأة تجارية في صنعاء

تعرّض 1161 محلاً وشركة تجارية في العاصمة اليمنية المختطفة صنعاء خلال الأسابيع الماضية لعمليات دهم وابتزاز وإغلاق على أيدي مشرفين حوثيين

«الشرق الأوسط» (صنعاء)
العالم العربي مدير مكتب يحيى الحوثي بجوار التربوي أحمد النونو قبل اعتقالهما في صنعاء (إعلام حوثي)

اعتقال مدير مكتب يحيى الحوثي بتهمة التجسس لأميركا

امتدت حملة الاعتقالات التي ينفذها الحوثيون بإشراف من خبراء في الحرس الثوري الإيراني لأعلى سلم قيادة الجماعة، حيث اعتقل مدير مكتب يحيى الحوثي شقيق زعيم الجماعة.

محمد ناصر (تعز)
العالم العربي مشهد وزعه الحوثيون لمهاجمة سفينة «ترانس وورلد نافيجيتور» في البحر الأحمر بزورق مسير مفخخ (أ.ف.ب)

زعيم الحوثيين يتبنى مهاجمة 162 سفينة خلال 30 أسبوعاً

تبنى زعيم الحوثيين مهاجمة 162 سفينة منذ بدء التصعيد البحري في 19 نوفمبر الماضي، وأقر بتلقي جماعته 19 غارة غربية خلال أسبوع من دون ضحايا.

علي ربيع (عدن)

«المركزي اليمني» يواجه استحواذ الانقلابيين على شركتين دوائيتين

دعم كبير يحظى به البنك المركزي اليمني رسمياً وشعبياً بعد قراراته الأخيرة (موقع البنك)
دعم كبير يحظى به البنك المركزي اليمني رسمياً وشعبياً بعد قراراته الأخيرة (موقع البنك)
TT

«المركزي اليمني» يواجه استحواذ الانقلابيين على شركتين دوائيتين

دعم كبير يحظى به البنك المركزي اليمني رسمياً وشعبياً بعد قراراته الأخيرة (موقع البنك)
دعم كبير يحظى به البنك المركزي اليمني رسمياً وشعبياً بعد قراراته الأخيرة (موقع البنك)

عزَّز البنك المركزي اليمني مساعيه للسيطرة على العمليات المصرفية في البلاد، وتشديد قبضته لتجفيف إيرادات الجماعة الحوثية وعملياتها المالية، وأصدر قرارين؛ ألغى أولهما تراخيص خمس شركات ومنشآت صرافة، وقضى الثاني بعدم التعامل المالي مع الإدارتين اللتين استحدثتهما الجماعة لشركتين دوائيتين في صنعاء.

وأعلن محافظ البنك المركزي اليمني، أحمد غالب، إيقاف تراخيص كل من: شركة هوام للصرافة، وشركة بيور موني للصرافة، ومنشأة توب توب للصرافة، ومنشأة السهم الأسرع للصرافة، ومنشأة القاسمي إكسبرس للصرافة، وذلك بناء على المخالفات المثبَتة بتقرير النزول الميداني المرفوع من قطاع الرقابة على البنوك.

كما أصدر البنك المركزي اليمني في العاصمة المؤقتة عدن، تعميماً موجهاً إلى كل البنوك والمصارف العاملة في البلاد بالتعامل فقط مع الإدارتين القانونيتين المخوَّلتين للشركة الدوائية الحديثة، والشركة العالمية لصناعة الأدوية، ومنع حجز أي أرصدة أو أي حسابات خاصة بهما أو التصرف بها بناءً على أي أوامر أو طلبات تصل إلى البنوك والمصارف من قِبل أي جهة غير قانونية.

جاء هذا القرار خلال أقل من شهر من استيلاء الجماعة الحوثية على مقرات الشركتين في صنعاء، ومحاولة استحواذها على أرصدتهما وأموالهما.

ويُعدّ قرار إيقاف شركات ومنشآت الصرافة الخمس هو الثالث من نوعه خلال أقل من أسبوعين، ليصل عدد الشركات التي جرى إيقاف تراخيصها حتى الآن إلى 15 شركة ومنشأة صرافة، بينما لأول مرة تصدر قرارات من البنك المركزي للرد على سيطرة الجماعة الحوثية على الشركات العمومية.

تعميم من البنك المركزي اليمني في عدن بشأن الشركة الدوائية الحديثة والشركة العالمية لصناعة الأدوية (إكس)

وأوضح مصدر مسؤول في البنك المركزي اليمني، لـ«الشرق الأوسط»، أن القرارات الأخيرة بإلغاء تراخيص شركات ومنشآت الصرافة جاء بعد التأكد من مخالفاتها قراراته الخاصة بضبط العمليات المصرفية، والعمل ضمن الشبكة الموحدة للحوالات.

وأضاف المصدر، الذي طلب عدم الكشف عن بياناته، أنه ثبت تورط عدد من مالكي وإدارات الشركات والمنشآت التي جرى إيقافها بتهريب الأوراق النقدية المحلية والأجنبية لصالح الجماعة الحوثية، سواء إلى مناطق سيطرتها أم إلى خارج البلاد لخدمة أعمالها المشبوهة.

استهداف سوق الدواء

منذ قرابة الشهر، سيطرت الجماعة الحوثية على الشركة الدوائية الحديثة والشركة العالمية لصناعة الأدوية في العاصمة صنعاء، واقتحم مسلحو الجماعة مقراتهما واختطفوا موظفيهما وحققوا معهم، متخذة سلسلة من الإجراءات لتقليص وإزاحة أكبر المساهمين في الشركتين، ومنعهم من الحصول على أرباحهم تحت حجة موالاة الحكومة اليمنية، ورفض ضم قيادات حوثية إلى المساهمين فيهما.

يقول الباحث الاقتصادي عادل شمسان، لـ«الشرق الأوسط»، إن قرار البنك المركزي الخاص بمنع التعامل إلا مع الإدارتين القانونيتين للشركتين يأتي في إطار الحفاظ على الملكيات العامة للدولة، بعد مساعي الجماعة للسيطرة عليها، ويأتي للرد على إجراءاتها الهادفة إلى تصفية شركات القطاع العام والمختلط لصالح الجماعة، وضمان وحماية حقوق المساهمين ومنع تجييرها لصالح مشروع الجماعة.

شركتا أدوية تخاطبان أصحاب المديونيات بوقف تسديدهم الديون بعد استيلاء الحوثيين عليهما (إكس)

ويربط الباحث الاقتصادي رشيد الآنسي استحواذ الجماعة على الشركتين بحديث القيادي الحوثي مهدي المشاط، رئيس ما يُعرَف بالمجلس السياسي الأعلى للجماعة (مجلس الحكم الانقلابي)، منذ أكثر من عام، حول الاستثمار في مجال صناعة وتجارة الأدوية، حيث تعمل الجماعة على إزاحة الاستثمارات الكبرى في الصناعات الدوائية لإفساح المجال أمام استثماراتها الخاصة في هذا المجال.

وينوه الآنسي، في حديثه، لـ«الشرق الأوسط»، بأن الجماعة تسعى إلى تصفية سوق الدواء من كل الاستثمارات الدوائية، ومنع تطور وتوسع الشركات القائمة، ومحاصرة الصناعات المحلية، في مخطط لحصول رجال الأعمال التابعين لها على توكيلات وصفات التركيبات الدوائية لتصنيعها محلياً، واحتكارها، وتجريف سوق الدواء تماماً.

وأدانت الحكومة اليمنية استيلاء الجماعة الحوثية على الشركتين، وصنفت تلك الإجراءات على أنها تجريف للقطاع الخاص وتضييق على رؤوس الأموال والبيوت التجارية المعروفة في المناطق الخاضعة بالقوة لسيطرتها، لدفعها للمغادرة خارج البلد، لصالح شركات ومستثمرين تابعين للجماعة؛ بهدف السيطرة الكلية على القطاع التجاري.

تراجع الجرائم المالية

يتوقع أن تؤدي قرارات البنك المركزي اليمني وإجراءاته لإغلاق مؤسسات الصرافة المخالفة إلى تقليص عدد المنشآت العاملة في هذا المجال بشكل كبير؛ نظراً لأن الغالبية العظمى من هذه المؤسسات نشأت بسبب الخلل الكبير في القطاعين المالي والمصرفي، والذي كانت تغذيه وتستفيد منه الجماعة الحوثية للإضرار باقتصاد البلد، وتنمية إيراداتها وزيادة ثرائها.

ويذهب الباحث الاقتصادي اليمني رشيد الآنسي إلى أن هذا القطاع كان يدر أرباحاً مهولة من المضاربة بالعملة وغسيل وتهريب الأموال، وهي الجرائم التي كان العائد الأكبر منها يصب في صالح الجماعة الحوثية.

منذ سنوات بدأت الجماعة الحوثية إجراءات تعسفية ضد المستثمرين للسيطرة على سوق الأدوية (إعلام حوثي)

ونبه إلى أن المتاجرة بالأوراق المالية القديمة والجديدة لتحصيل فارق السعر الذي فرضته الجماعة الحوثية للإضرار بالعملة المحلية المعتمدة لدى الحكومة الشرعية، كانت تجري في مناطق الحكومة الشرعية، خصوصاً في محافظة مأرب التي استخدمتها الجماعة للمبادلة بين الأوراق النقدية القديمة والجديدة، ولتهريب الأموال لصالح الجماعة، سواء إلى مناطق سيطرتها أم إلى سلطنة عمان.

ويرجح أن عدداً كبيراً من هذه الشركات ستغلق أبوابها بعد قرارات البنك المركزي الأخيرة التي سدَّت أمامها قنوات الربح المهول الذي كانت تتحصل عليه بالإضرار بالعملة والاقتصاد المحليين.

ويلاحظ الباحث عادل شمسان أن قرارات البنك المركزي بدأت تؤتي ثمارها رغم تأخرها سنوات طويلة، ومع توقف تصدير النفط والغاز بفعل الأعمال العدائية الحوثية، فإن السياسة النقدية التي يقودها البنك المركزي سيكون لها أثر كبير في منع الانهيار المستمر للاقتصاد المحلي، إلى جانب محاصرة مصادر تمويل الجماعة الحوثية، والحد من تأثيرات جرائمها المالية.