بعد نصف قرن من التجربة الألمانية، والكثير من المعارض والجوائز العالمية، حطت لوحات الفنان السوري الأصل مروان قصاب باشي، في وسط بيروت.
الفنان الذي بات يناهز من العمر 88 سنة، عرض تكرارا في بيروت، لكن أهمية لوحاته المعروضة حاليا في «مركز بيروت للمعارض» أنها استعادية وتجمع تلك التي رسمها قبل انتقاله من سوريا إلى برلين بسنوات قليلة وما أنجزه بعد وصوله مباشرة، أي بين عامي 1962 - 1972. وهو العقد الذي انشغل خلاله الفنان برسم الجسد الإنساني أو أجزاء منه بأساليب لها طابع سوريالي كاريكاتيري، قبل أن يدخل مرحلة التركيز على الوجوه وتضاريسها بأحجام ضخمة، وينتج تلك الجداريات التي صنعت له شهرته العالمية.
على مدخل المعرض وضعت العبارة التالية لمروان: «حملتني (مايكل أنجلو) في 23 أغسطس (آب) عام 1957 من شواطئ بيروت إلى جنوا مع بعض لوحاتي وآمالي ثم أحلامي ومخاوفي. الدهشة والفرح حين لامست عيناي أول سبتمبر (أيلول) مدينة ميونيخ بسقوفها الوردية. وصلت لبرلين في العاشر من سبتمبر: مرآة حساسة للعالم بين الشرق والغرب، فيها رسمت قصتي. وفيها رسمت دمشقي».
من يعرف مسار مروان في العقود الأخيرة ولم يتسن له الاطلاع على ما رسمت ريشته قبل ذلك، لا بد أنه سيجد متعة في اكتشاف قديمه، وتطور مساره الفني التدريجي.
عقد من الحيرة والألم معلقة لوحاته في وسط بيروت. أشخاص مروان معذبون، مشوهون، مبتئسون، حائرون، ربما أن رؤوسهم المثبتة على أجساد غرائبية تعكس حال مروان، حين كان لا يزال في دمشق مدينة مولده أو حين وصوله إلى مهجره البرليني.
مروان لم يكن يوما بعيدا عن الأدب، علاقته بالروائي عبد الرحمن منيف، الذي رسم له أغلفة رواياته، خرجت ثمارها في كتاب جمع الرسائل المتبادلة بينهما بعد وفاة هذا الأخير عام 2005، لكن في المعرض لوحتان مثيرتان رسمهما للشاعر بدر شاكر السياب إثر وفاته، وكأنما الشاعر يقف على ساق شجرة ويضع على رأسه أشلاء بشرية وعظاما. وهناك أخريان للقيادي البعثي منيف الرزاز، والد الروائي مؤنس الرزاز، لا يبدو فيهما الرجل أقل ارتباكا وقلقا من السياب. وفي إحدى هذه اللوحات تعود لتظهر الأشلاء على رأس منيف الرزاز، بينما الوجه هو نفسه هذه المرة يصبح مزدوجا وفاقدا لملامحه.
ما بين الفلسفة والنفحة الصوفية والرغبة في قول الاحتجاجات الصارخة باللون، يمكن لمن يعرف مسار مروان قصاب باشي أن يقرأ الهزائم العربية فردية وجماعية من خلال لوحاته. ليس فقط أنها أعمال متعبة وقد تكون مزعجة للنفس المطمئنة، لكنها أيضا تطرح أسئلة حول هوية مروان المرتبكة والمتألمة.
حين يكون شخص واحد في اللوحة، فهو إما كبير الرأس مضغوط الجسد، وإما أن جسده مخبأ تحت غطاء، وإما أنه اختفى وبقي الرأس معلقا في الهواء. وفي كثير من الحالات، فإن الرأس الذي يسلط عليه الضوء يكون مقرونا بقدم فوقه، جانبه أو ربما التفت حوله. وتغيب القدم أحيانا لصالح الكف التي تبدو في أوضاع غريبة، وكأنها ليست جزءا من الجسد الذي أمامنا. هكذا يركب مروان أعضاء الإنسان الذي يرسمه، ويموضع أطرافه على طريقته.
يعيد البعض قسوة هذه المرحلة ورسوماتها عند مروان إلى وقوع هزيمة 1967، وعيش الفنان السوري لهذه الكارثة العربية وحيدا معزولا، غير محاط بجو ثقافي كالذي كان يمكن أن يعيشه لو هاجر إلى باريس أو لو بقي في دمشق أو بيروت.
أمر ممكن، لكن لوحات مروان التي جاءت بعد تلك الفترة لم تكن أقل قسوة، حيث إن الألوان والأطلية تكدست ونحتت على الأوجه التي رسمها، وكأنه يحفر في الأرواح وينبش في الضمائر.
في المعرض الاستعادي البيروتي، حتى اللوحات الثلاث التي وضعت قرب بعضها البعض، ويظهر فيها رجل وامرأة، يبدو لنا أنهما لا يتواصلان رغم أنهما يقفان قرب بعضهما البعض، ويمسك أحدهما بيد الآخر. لا أحد ينظر في وجه أحد عند مروان، الناس لا يتقابلون، لا يتواصلون، وقد يدير أحدهما ظهره للآخر، أو يبقى منفصلا عنه حتى وهو في أحضانه.
بعض أشخاص اللوحات، غطت أعينهم أو وجوههم غلالات. ثمة من يرى في هذا استيحاء للكوفية الفلسطينية التي غطت وجوه الفدائيين في تلك الفترة، من ستينات القرن الماضي. لكن أكثر ما يلفت في بعض اللوحات حضور القدم النسائية منتعلة الحذاء الأسود ذا الكعب العالي قرب الوجه الرجالي، ومن ثم التباس الجنس للأشخاص في لوحات أخرى. وكأنما جنس البشري - من ذكر وأنثى - لم يعد مهما، بقدر ما هي مهمة دواخله التي تطفو على الوجه. حتى الاحتضان بين رجل وامرأة لا يبدو حميميا وحارا عند مروان. البرود هائل، بلادة الحركة، الجمود في النظرة وفي تعبير الوجه، سمة لا تسقط بتقادم اللوحات.
ثمة ما هو مخيف دائما عند هذا الفنان، في أعماله القديمة والحديثة على السواء، قد تشعر بأنك بحاجة لأن تهرب من كابوس ما يطلع من اللوحات، أو شر يكاد يفترسك من النظرات.
يضم المعرض 44 لوحة زيتية إضافة إلى الأعمال المائية والمسودات الأولية لها أو ما يسمى بـ«الكروكي»، التي تبين تطور الفكرة عند الفنان وكيفية تنفيذها. أعمال تعرض للمرة الأولى في العالم العربي. ولبنان هو محطة الانطلاق لهذا المعرض، الذي سينتقل بعد 27 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل إلى كل من باريس وبورتو في البرتغال والنمسا وغيرها.
8:9 دقيقه
معرض «مروان» ينطلق من وسط بيروت إلى عواصم العالم
https://aawsat.com/home/article/4852
معرض «مروان» ينطلق من وسط بيروت إلى عواصم العالم
لوحات ومخططات أعمال تعرض للمرة الأولى في المنطقة العربية
- بيروت: سوسن الأبطح
- بيروت: سوسن الأبطح
معرض «مروان» ينطلق من وسط بيروت إلى عواصم العالم
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة

