نزيف «إيكواس»... ضربة جديدة لنفوذ فرنسا في غرب أفريقيا

انسحاب مالي وبوركينا فاسو والنيجر من المجموعة يعزّز الحضور الروسي


قوات «إيكواس» في أثناء تأديتها مهامها العسكرية في مالي (رويترز)
قوات «إيكواس» في أثناء تأديتها مهامها العسكرية في مالي (رويترز)
TT

نزيف «إيكواس»... ضربة جديدة لنفوذ فرنسا في غرب أفريقيا


قوات «إيكواس» في أثناء تأديتها مهامها العسكرية في مالي (رويترز)
قوات «إيكواس» في أثناء تأديتها مهامها العسكرية في مالي (رويترز)

جاء انسحاب كل من النيجر ومالي وبوركينا فاسو من «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» (إيكواس)، أواخر الشهر الماضي، لا ليمثل فقط ضربة جديدة للنفوذ الفرنسي وتعزيزاً للحضور الروسي، بل ليفتح أيضاً صفحة جديدة بشأن إمكانية تفكّك «إيكواس»، التي يراها كثيرون أداة فرنسية لتحريك الأمور في الغرب الأفريقي من وراء ستار، وإمكانية ظهور منظمات إقليمية جديدة تعبر عن طبيعة التحول الإقليمي الجديد في تلك المنطقة الملتهبة.

النيجر ومالي وبوركينا فاسو أعلنت انسحابها من «إيكواس» بشكل جماعي، في بيان مشترك يوم 28 يناير (كانون الثاني) المنقضي، متهمةً المجموعة بالابتعاد عن المثل العليا التي أسست عليها، وقائلة إن انسحابها الفوري يأتي «استجابة لتوقعات وتطلعات شعوبها».

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستقبل نظيره التشادي محمد إدريس ديبي يناير الفائت (رويترز)

إلا أن هذه النهاية ليست سوى فصل جديد في قصة طويلة من التوتر والعداء تجاه النفوذ الفرنسي. والقصة دائماً لها ما قبلها... وسيكون لها ما بعدها، فباب الانسحاب من «إيكواس» لا يزال مفتوحاً، بحسب تقديرات العديد من الخبراء والمراقبين.

رسائل واضحة

الانسحاب «الثلاثي» حمل كذلك إشارات واضحة حول التنسيق بين الدول التي تحكمها اليوم أنظمة عسكرية في أعقاب سلسلة من الانقلابات (مالي عام 2020، وبوركينا فاسو 2022، والنيجر 2023)، التي أطاحت بأنظمة قديمة طالما ارتبطت بعلاقات وثيقة مع فرنسا.

على إثر ذلك، توترت علاقات الدول الثلاث مع «إيكواس»، وصولاً إلى حد التهديد بالتدخل العسكري، وهو ما عجزت عنه المجموعة الإقليمية، لكن ذلك التهديد ساهم بشكل واضح في دفع تلك الدول إلى المسارعة بالتنسيق المشترك، والبحث عن دعم دولي في مواجهة الضغوط الغربية والفرنسية بالأساس.

معطيات عدة أشارت إلى قرب اتخاذ النيجر وبوركينا فاسو ومالي قرارها بالانسحاب من «إيكواس»؛ إذ وقّع قادة الأنظمة العسكرية في الدول الثلاث اتفاقاً يوم 16 سبتمبر (أيلول) 2023 في العاصمة المالية باماكو، وبموجبه تعهدت الدول الثلاث بمساعدة بعضها البعض في حالة وقوع أي تمرد أو عدوان خارجي ضد أي منها، واعتبار أي اعتداء على سيادة وسلامة طرف أو أكثر من الأطراف الموقعة عليه، عدواناً على الأطراف الأخرى.

الحضور الروسي جاء سريعاً وحاسماً. فبعد الاتفاق الثلاثي، زار باماكو نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك ييفكوروف، والتقى هناك وزراء دفاع الدول الثلاث، في رسالة دعم واضحة وعلنية. ودفع الأمر كثرة من المراقبين إلى القول بأن دعم موسكو كفيل بإجهاض تأثير أي عقوبات اقتصادية جديدة على الدول الثلاث بضغوط فرنسية، فضلاً عن إنهاء فكرة التدخل العسكري بشكل شبه نهائي في ظل التحالف الجديد.

طرد فرنسا

في لقاء مع «الشرق الأوسط»، رأى الدكتور العابد مصطفى البشير، الباحث السياسي والمحاضر بجامعة ندجامينا في تشاد، في التقارب الأفريقي الروسي «أكبر الأخطار المحدقة بفرنسا». وذكر أن تلك التحديات التي تدفع النفوذ الفرنسي إلى التلاشي في أفريقيا «كثيرة»، ويأتي على رأسها الوعي المتنامي للشباب الأفريقي، وكذلك وجود نماذج اتجهت بكل جدّية نحو التنمية بعد طرد فرنسا، كما هو الحال في مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

جندي نيجيري من قوات «إيكواس» (أ.ف.ب)

ووفق البشير، فإن التقارب الرسمي سواءً بين الدول الأفريقية التي تتخلص من النفوذ الفرنسي، أو بينها وبين روسيا، يقطع الطريق على فرنسا، التي «خلقت المنظمات الإرهابية وموّلتها بهدف إضعاف الحكومات الوطنية في أفريقيا». وأردف الباحث التشادي: «لا يجوز أن تكون روسيا بديلاً استعمارياً بل قوة مساندة ومستفيدة»، لافتاً إلى أنها ستوفر الإمكانات للحكومات الأفريقية في المجالات العسكرية والأمنية التي كانت تستخدمها الأجهزة الفرنسية للهيمنة على دول القارة، وبالأخص في منطقة الساحل والغرب الأفريقي. وتابع جازماً أن «فرنسا تتقهقر يوماً بعد آخر سواء على المستوى الرسمي، أو في الوجدان الشعبي الذي بدأ يتخلص من كل ميراث حقبة الاستعمار الفرنسي».

من ناحية أخرى، يعتقد البشير - وهو أيضاً مفوض في اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في تشاد - أن انسحاب مالي وبوركينا فاسو والنيجر من «إيكواس» يمثل «تطوراً متوقعاً» رداً على فشل المجموعة في تحقيق التنمية، وتحولها إلى أداة فرنسية للضغط على الدول الأفريقية، وصولاً إلى التهديد بالتدخل العسكري الذي فضح طبيعة أدوار تلك المنظمة. وتوقّع، من ثم، أن يشكل الانسحاب الثلاثي سابقة لدول أخرى، وفرصة لبداية تقارب أفريقي مع الشرق تلعب فيه روسيا دوراً أساسياً، باعتبارها قادرة على سد الفراغ الأمني، إلى جانب الصين وتركيا وبعض الدول العربية.

وللعلم، لم يقتصر التنسيق الروسي والتواصل مع دول منطقة الساحل والغرب الأفريقي على الدول الثلاث المنسحبة من «إيكواس»، ففي 24 يناير الماضي، استقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره التشادي الفريق أول محمد إدريس ديبي في الكرملين، وحسب بيان للرئاسة التشادية كان اللقاء «أخوياً»، وجرى خلاله بحث العلاقات الروسية – التشادية، والتطرق إلى قضايا الساعة الإقليمية والدولية.

حضور روسي لافت

وحقاً، مع أن روسيا لم تعلن دعمها الصريح للتحولات الجديدة في العديد من الدول الأفريقية، لكنها سارعت إلى تقديم العون والمساندة للأنظمة الجديدة.

إذ إنها حذرت من أي تدخل عسكري في تلك الدول، ونجحت في استغلال اتساع الفجوة بين القوى الغربية ومالي، وسارعت بإرسال قوات «فاغنر» المسلحة بديلاً عن القوات الفرنسية في دول تعاني أوضاعاً أمنية سيئة وأعمال عنف ترتكبها جماعات متشددة، وظروفاً اجتماعية متردية، وهذا ما دعا الولايات المتحدة إلى اتهام مجموعة «فاغنر» باستغلال حالة اللا استقرار في تلك الدول.

ثم إن روسيا والصين تصدّتا، عبر عضويتيهما الدائمتين في مجلس الأمن، للمحاولات الغربية - والفرنسية تحديداً - لإدانة التحولات الجديدة في دول الغرب الأفريقي. فعلى سبيل المثال، حال النفوذ الروسي والصيني دون فرض مجلس الأمن عقوبات على مالي خلال يناير 2023، كما دعت بكين وموسكو المجلس إلى مساعدة مالي في حربها ضد الإرهاب.

وبالفعل، تزايد الحضور الروسي في أفريقيا، بصورة لافتة خلال السنوات الماضية؛ إذ استضافت موسكو قمتين للتعاون مع دول القارة، عامي 2019 و2023، كما وقّعت اتفاقيات للتعدين والنفط والاستثمار والطاقة النووية والتعاون العسكري بقيمة 12.5 مليار دولار مع حكومات أفريقية مختلفة.

وبينما حصد التعاون العسكري النصيب الأكبر من الاهتمام، حيث تتصدر أفريقيا قائمة مستوردي الأسلحة الروسية، عزّزت موسكو من حضورها الأمني والاقتصادي في الدول التي تشهد تحولات جوهرية، وتبحث عن ظهير دولي للتخلص من النفوذ الفرنسي. ومالياً، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلغاء 20 مليار دولار من الديون المستحقة على البلدان الأفريقية، وكشف النقاب عن خطط لمضاعفة التجارة مع البلدان الأفريقية إلى 40 مليار دولار سنوياً.

مشاعر شعبية معادية

هذه الخطوات الروسية تراها الدكتورة نرمين توفيق، الباحثة المصرية المتخصصة في الشؤون الأفريقية، «أكثر مقبولية» لدى الدول الأفريقية من تلك الإجراءات التي اتخذتها فرنسا لإنقاذ نفوذها المتراجع في دول القارة.

وتشير توفيق لـ«الشرق الأوسط» إلى أن أفريقيا «تمثل أولوية في الاستراتيجية الروسية الساعية إلى كسر النظام العالمي الأحادي القطب، والتحول إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب»، تعود فيه من جديد إلى وضعها قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. وتضيف أن التحركات الروسية أثمرت بالفعل؛ إذ أقنعت روسيا عام 2014 أكثر من نصف الحكومات الأفريقية بمعارضة أو الامتناع عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدين ضم شبه جزيرة القرم، وامتنعت 17 دولة أفريقية عن التصويت على قرار يدين روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال مارس (آذار) 2022، على خلفية العملية العسكرية التي تخوضها في أوكرانيا، ومثّلت الدول الأفريقية نصف عدد الدول التي امتنعت عن التصويت آنذاك.

في المقابل تعتقد الباحثة المصرية أن الموقف الأفريقي من الإجراءات الفرنسية كان «مغايراً تماماً»، فعلى الرغم مما اتخذه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من خطوات تصالحية هدفها تحسين صورة باريس في أفريقيا، شملت تعديلات تاريخية في العلاقات المالية بين فرنسا وأفريقيا - بحيث تتوقف فرنسا عن الاحتفاظ بنسبة 50 في المائة من الاحتياطيات في الخزانة الفرنسية - لم يسهم هذا في تخفيف حدة الحنق الشديد والغضب لدى أبناء غرب أفريقيا ضد فرنسا. وتجلّى هذا في المشاعر المُعادية لفرنسا التي انتشرت في الآونة الأخيرة في بوركينا فاسو ومالي والنيجر، وعلى نطاق أوسع في منطقة غرب أفريقيا.

أيضاً، ترى توفيق أن إجراءات «إيكواس» في معالجة الأزمات بالغرب الأفريقي زادت من وتيرة التصعيد والغضب ضد فرنسا، وبخاصة التهديد بالتدخل العسكري، الأمر الذي استرجع ذكريات التدخل الاستعماري... وهو ما فاقم التوتر وزاد شعبية الأنظمة الجديدة، ودفعها لمزيد من التنسيق مع روسيا كرد فعل طبيعي في مواجهة مثل هذه التهديدات.

«تحالف دول الساحل»

في سياق متصل، وفي ضوء التطورات الجارية في منطقة الغرب الأفريقي، لا يبدو مستقبل التعاون في إطار «إيكواس» مشرقاً، وفق تحليل لأحمد عسكر، الباحث المشارك في «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية».

عسكر يرجّح أن يؤدي توقيع «ميثاق ليبتاكو - غورما»، في سبتمبر الماضي، لتأسيس تحالف جديد يُطلق عليه «تحالف دول الساحل»، يضم الدول الثلاث بوركينا فاسو ومالي والنيجر، إلى تضاعف عدد دوله الأعضاء خلال الفترة المقبلة. ويرى في هذا رسالة واضحة إلى كل من «إيكواس» والغرب تؤكد إصرار دول «حزام الانقلابات» على الاستغناء عن فرنسا والغرب، وبخاصة مع دخول موسكو حليفاً جديداً. ومن ثم يتشكل خط مواجهة يسعى إلى تقليص الدور الفرنسي في المنطقة، وملء الفراغ الذي ستخلفه باريس خلال المرحلة المقبلة.

هذا، ويوضح التحليل المنشور على الموقع الإلكتروني لـ«المركز» أن التراجع المستمر الذي يتجلى في انسحاب القوات الفرنسية من بعض دول الساحل مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو - وقبلها أفريقيا الوسطى خلال السنوات الأخيرة - مقابل انتشار واسع لمجموعة «فاغنر» الروسية الأمنية هناك، يعكس سياقاً إقليمياً متوتراً بفضل سياسة شدّ الأطراف التي تتبناها فرنسا و«إيكواس» ضد «دول الممانعة الجديدة» في الساحل.

ويتوقّع عسكر أن تظل موسكو المستفيد الأكبر من تدهور العلاقات الفرنسية مع دول الساحل، لا سيما، مع تحوّل المزيد من القادة العسكريين الجدد للتحالف مع موسكو على حساب باريس. وهذا يعني توسيع دائرة النفوذ الروسي في الساحل، ومنح موسكو المزيد من أوراق الضغط لتمارسها ضد الغرب في مناطق استراتيجية أخرى مثل أوكرانيا، الأمر الذي يعزّز التنافس الدولي في المنطقة... بما في ذلك تنامي «عسكرتها» خلال الفترة المقبلة. مع أن روسيا لم تعلن دعمها الصريح للتحولات الجديدة في العديد من الدول الأفريقية، فإنها سارعت إلى تقديم العون والمساندة للأنظمة الجديدة


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.